الزائر لبلدية قصر الأبطال الريفية الواقعة بدائرة عين ولمان، لا يخلو من باله أنه يزور منطقة تاريخية تحمل في جعبتها الكثير من المآسي والآلام التي عاشها المئات من الجزائريين العزل أيام الحقبة الاستعمارية، وهذا ما يتجلى في وجود أكبر معتقل استعماري على أرض »قصر الطير« الذي يعتبر وصمة عار في جبين فرنسا، فخلال الزيارة التي قامت بها »الشعب« لمعتقل »قصر الطير« بدعوة من منظمة المجاهدين بولاية سطيف عاشت مع مجاهدي الأمس إبان الثورة التحريرية المجيدة ذكريات لا يمكن أن تمحى من ذاكرة من عايشوا وشاهدوا ظلم وعدوانية الإستعمار كان هدفها إطفاء شرارة الثورة التحريرية، فبمجرد أن تطأ قدماك هذا المحتشد حتى يتبادر إلى ذهنك فظاعة طرق التعذيب التي كان يستعملها الإستعمار الفرنسي لردع الثورة وإفشالها وكتم أنفاس الجزائريين. مكان يروي التاريخ معتقل »قصر الطير«.. هذا المكان الذي يروي لنا تاريخ من صنعوا الثورة والذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل أن تنعم بالحرية، فجدران المعتقل تشهد على موت آلاف الجزائريين الذين استشهدوا على يد الإستعمار الفرنسي بأبشع الطرق والوسائل، لدرجة أن المعتقلين الذين كانوا يدخلون محتشد قصر الطير كانوا يدركون أنهم لن يخرجوا منه أحياء، إلا بقدرة الله. تتفق روايات المؤرخين أن أصل تسمية قصر الطير هذه أكثر من ثلاثة قرون خلت، حيث كانت هذه الناحية تحتوي على أراضٍ خصبة ويسكنها عدد قليل من السكان، وبها بيت كبير علوه سبعة أمتار، جعلت منه الطيور مقرا لها تأوي إليه، مما جعلها قبلة للصيادين، ومن ذلك اشتق إسمها وقد أشار إليها الورتلاني في رحلته المشهورة »تحفة الأنظار«. احتلالها سنة ,,.1871 وأثر المقاومة وفي سنة ,1871 عندما وصل الغزو الإستعماري إلى الناحية قاومه سكانها بقيادة »لعروسي البوعيدلي« الذي سقط شهيدا في إحدى المعارك الضارية، وتواصلت المقاومة بعده بقيادة أحد أقربائه وهو البطل المشهور »أحمد باي بن المسعود بن السعدي« الذي اتخذ من »قصر الطير« معقلا له ولأتباعه وشيعته والذي أتعب العدو الفرنسي، وهذا حسب شهادات حية في كتاب »الثورة الجزائرية« الذي ألّفه المؤرخ »بوعزيز«، وبعد الإحتلال الكلي للجهة الشرقية بادر المستعمر الغاشم إلى طرد وتشريد الأهالي من أراضيهم وممتلكاتهم، وأجبرتهم على الرحيل إلى المناطق الجبلية الخالية من أبسط ظروف الحياة المريحة، وتوزيع تلك الأراضي على المعمرين وبعض العملاء. وفي سنة ,1956 ونظرا للموقع الإستراتيجي الهام للمنطقة حيث الأراضي المنبسطة التي تخلو من الغابات والمرتفعات الجبلية، قررت الإدارة الإستعمارية أن تنشئ فيها معتقلا به عدة أقسام للتعذيب المرعب والمخيف وممارسة الأعمال الشاقة وغسل الأدمغة... إلخ، ويبلغ عدد هذه الأقسام عشرة ولكل قسم حرف أبجدي ولا يتبين له معنى محدد، ونظرا للعدد الضخم من المساجين الذين يأويهم هذا المعتقل والبالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف (3000) فرد، فقد أحيط بعدد من السياجات والحواجز المانعة لمحاولات الهروب منه، فالحاجز الأول: أسلاك شائكة عرضها ستة أمتار تتخللها ألغام، ومزودة بأجهزة ضوئية كاشفة، والحاجز الثاني: خط إنارة شديد يحيط بكل المركز، أما الحاجز الثالث: حائطان من الأسلاك غير الشائكة، وتسرح في المساحة الواقعة بينها كلاب بوليسية مدربة تتطاير من عيونها شرارات الإفتراس والغدر، ويشرف على هذا المعتقل مجموعة من الضباط الحاقدين والمتخرجين من الكليات العسكرية المتخصصة أوكلت لهم مهمة ابتكار كل أنواع التعذيب الجهنّمي وتسليطها على المقيمين فيه، ويقود هذه المجموعة النقيب »أرشونو« وينوبه مساعداه. كان المعتقل شبيها بالمحشر، يُساق إلى ظلمته ومظالمه الجزائريون الأحرار الرافضون والمناوئون في عناد لسياسة فرنسا الإستعمارية، وخاصة أولئك الذين انضمّوا إلى صفوف الثورة وحملوا السلاح طلبا للجهاد، والفرق بينه وبين المعتقلات الأخرى هو أنه ينفرد باستقبال المجاهدين المقبوض عليهم في ساحات المعارك ومواقع الفداء الذين يفترض أن يعاملوا معاملة الأسرى، ولكن ضباط المعتقل لا يتردّدون في إخضاعهم لشتى صور التنكيل والإهانة بتسخير أبشع وأشنع وسائل الإستنطاق رغبة في استصدار معلومات سرية منهم. سيادة قاعدة »فرّق تسد« يسود في المعتقل قانون تمييزي يرتكز على قاعدة »فرق تسد«، في حين يُعامَل المدنيون المسيحيون برفق ولين نسبيين، وما إن يقضي الواحد منهم فترة توقيفه حتى يطلق سراحه لكن بعد تقديم الإعتذار وإظهار الولاء والتعهد بالخضوع لقوانين الإدارة الفرنسية من غير تذمّر أو تمرّد، وأما المجاهدين الموقوفين فلا يستفيدون من هذه الليونة ولا يخلى سبيلهم، حيث يبدأ تعذيب المجاهد المعتقل من أول يوم ينزل فيه هذا المعتقل الرهيب قصد زرع الرعب وبذر الخوف في قلبه وإبعاده عن بقية المجاهدين المعتقلين ليصبح في النهاية ميالا إلى العزلة والتحفظ والتشكيك في بقية رفاقه المحتجزين، ويتعرض مرارًا وتكرارًا للتحقيق مع اتباع أسلوب التهديد والوعيد لتدوين ردود أفعاله لتحليلها ودراستها، كما اعتمدت الإدارة الفرنسية على تقسيم المجاهدين المحبوسين إلى ثلاث فئات: أولا: فئة الذين انهارت معنوياتهم وانضموا في صفرف الإستعمار طوعيا ورضوا بقبول وتنفيذ ما يُملي عليهم من غير إبداء أي تبرم أو رفض أو اعتراض وهم نزلاء الجناح ڤءڤ، ثانيا: فئة المذبذبين الذين يفتقدون إلى اتخاذ مواقف واضحة وصريحة، ويفضّلون الظهور في كل مرة بوجهين متناقصين، وهم نزلاء الجناح ڤڤ، وثالثا: فئة »العصاة« أو »ذوي الأدمغة الناشفة«، كما تسميهم إدارة المعتقل لزلزلة معنوياتهم ،هم المعزولون في الجناح ''''، وتتوجس إدارة المعتقل اللئيمة خوفا وحذرا من هذه الفئة التي أرّقتها لصلابة مواقفها التي لا تعرف المهادنة ولا تقبل التطويع إطلاقا، ولم يكن يُسمح للمعتقلين الصامدين التواصل مع أهلهم عن طريق التراسل بريديا، أما عن وجبات الأكل فكانت تُوزّع على المساجين في علب زيوت الشاحنات القذرة، ويتمثل أغلب الطعام في مأكولات فقدت قيمتها الغذائية ومن أصناف البقوليات.. أما الأفرشة ولباس المساجين فكان يتمثل في بطانيات رثة وبالية ومهترئة، تنبعث منها روائح كريهة يصعب تحملها وتستعمل كغطاءات، وعادة ما يكون الفراش من ورق مقوى أو حصيرة من الحلفاء، أما بالنسبة لنظافة الجسم فإن المساجين يقادون عنوة إلى ما يشبه الحمام مرة في الشهر، ويتدافعون للدخول إليه كما تدخل الحيوانات إلى الزرائب، وبمجرد لمس مائه حتى تتعالى صرخاتهم من شدة ارتفاع حرارته إلى حد إصابتهم بالحروق، أو من برودته الشديدة التي تقارب درجة التجمد، ومن تراوده فكرة محاولة مغادرة هذا المستنقع الحمئ يجد نفسه معرّضًا للضرب المبرح بالعصي السميكة، ويصادف العملاء والخونة الأزلام في مثل هذه المرافق المهينة لكرامة الإنسان فرصة للتنفيس عن أنفسهم بالضحك المجلجل والتعليقات الساخرة. أساليب للتعذيب وأخرى للردع التعذيب النفسي أو الجسدي هو عنوان وشعار كل المعتقلات التي أنشأتها فرنسا إبان سنوات الثورة التحريرية، ففي ساعة القدوم الأولى يُستقبل المعتقل بالضرب العنيف وسط ساحة مخصصة لممارسة الرياضة كما يزعمون، ولا ينجو من الكلاب التي تنهش جسمه وتغرز فيه أنيابها الحادة حتى تدميه وتجعله ينزف بغزارة، وتستمر معاملته بنفس الأسلوب لمدة أسبوع كامل بغرض تحطيمه نفسيا وحمله على الإستسلام للأمر الواقع، كما كان المعتقلون يعجنون التراب بالأقدام الحافية وصناعة لبنات البناء، ونقله على الأكتاف مبللا، تم إعادته إلى مكانه الأول بعد تجفيفه لإعادة عجنه مرة ثانية، ويتواصل هذا العذاب على مدار الأيام والأسابيع والشهور دون رفق أو هوادة مع أولئك الصامدين الذين لم تلمس منهم إدارة المعتقل تليينا في مواقفهم المبدئية، ومن بين الأعمال الشاقة التي كان يمارسها المعتقلون تكسير الحجر وتدقيق ما ينتج عنهما حتى يصبح صالحًا لتعبيد الطرقات، ثم عملية الإنزال الليلية في الوادي المجاور للمعتقل، إذ يحتوي هذا الوادي الذي ركدت فيه مياه آسند وصنوف من الهوام الطائرة والزاحفة، كالحشرات والأفاعي والعلق، وهو بيئة قذرة تجتمع فيها كل ضروب الجراثيم الناقلة للأمراض، وفرش قعره بطبقة مؤلفة من قطع مختلف الأحجام من الزجاج المهشم، حيث تلجأ إدارة المعتقل إلى هذا النوع من التعذيب عندما تنخفض درجة حرارة الجو إلى أدنى حدودها، فمع حلول منتصف الليل تنطلق صفارات الإنذار مدوية ويجبر المعتقلون على الخروج حفاة عراة نحو الوادي، ويرمى بهم في غسق الليل في مياهه الباردة والعفنة ويفرض عليهم قضاء ساعات في وسطها، وفي هذه الظروف القاسية، تنهار قوى بعض المعتقلين المعذبين، وهذا من شدة البرد القارس، أو من أثر امتصاص العلق لدمائهم أو من إطالة مدة نزف جروحهم التي تسببت فيها قطع الزجاج المهشمة، والويل يترصّد كل من يُلقى عليه القبض متلبسا بتهمة مغادرة الوادي، وحينئذ فلا أحد ينجّيه من الكلاب التي لا تتراجع عن نهش جسده نهشا فظيعا ولا يسمح للمعتقلين بمغادرة الوادي، إلا بعد أن تصبح مياهه مصطبغة بلون أحمر لامتزاجها بدمائهم الطاهرة، كما يُجبَر المعتقلون على حفر الخنادق حتى الوصول إلى مستوى طبقات الماء الجوفي، وحين يتدفق الماء يمنع المساجين من شربه، وذلك إمعانا في التعذيب النفسي، ولا يكاد ينتهي المسجون من حفر خندقه حتى تأتيه الأوامر بردمه عن آخره، وتوحي مثل هذه العقوبات إلى تحطيم معنويات المحتجزين الذين يعجزون عن تغيير ثيابهم بأعمال مضنية لا هدف يرجى منها، فحسب بعض المعتقلين الذين عايشوا الأحداث فإن الإدارة الفرنسية بالغت في ابتكار أنماط التعذيب التي لا تخطر على بال أحد، وهو الإستئذان من الكلب »موموس« قصد توجّه المعتقل لقضاء حاجته، فيجب أن يطلب ترخيص من الكلب المدرب والذي يزيد وزن جسمه عن ثمانين كيلوغراما، وهو وحده المخول في النظر إلى الطلب قبولا أو رفضا، ولا يتعدى عمل مدربه وترجمة حركة رأسه وتأويلها حسب مزاجه، كما عاملت فرنسا المساجين بتركهم يمرضون عنوة دون علاجهم حتى يموتون أمام مرأى زملائهم وكثيرا ما كانت الأوبئة وأماكن التبول والتبرز هي السبب الرئيسي في ظهور الإصابات المرضية، فبدل الذهاب إلى المراحيض الصحية يلزم المعتقلون على استعمال براميل حديدية صدئة لقضاء حاجتهم ثم يتولون نقلها كل صباح وتفريغها في عرض الوادي المجاور من غير تنظيفها بالمطهرات، أما التعذيب في الزنزانات، فقد كان المعتقلون يقضون ليالي الشتاء محتجزين في الزنزانات الخالية من الفراش والأغطية، ويبلغ طول الزنزانة ثلاثة عشرة خطوة طولا وعرضها سبع خطوات، وتكون مملوءة بالماء ومجهّزة بالأغلال التي توضع في أرجل المعاقبين، وقد تطول هذه العقوبة حتى تبلغ عدة شهور لتسفر عن معاناة نفسية وجسدية للمعتقلين الذين يُجبَرون كذلك على تقديم التحية للعلم الفرنسي كل صباح، والويل لمن يرفض هذا الأمر فقد يتم طرحه أرضا في ساحة العلم وأمام أنظار الجميع لزرع الرعب وبذر الخوف في نفس كل من توسوس له عن الإمتناع عن إتيان هذا الأمر !؟ غسل الأدمغة طريقة أخرى للتعذيب إن غسل الأدمغة هو تصرف مقلق يرمي إلى محاولة تفريغ ذهن المعتقل من أفكاره الجهادية التي اعتنقها واستبدالها بأخرى ملؤها الولاء والتودّد لفرنسا، ومناصرة سياستها الإستعمارية بظلمها الغاشم، فحسب شهادات حية للمجاهد »علي بييمون« الذي عايش هذا العذاب أنه خلال جلسات الإستنطاق يجري طرح أسئلة مختارة بإتقان على المعتقلين أسبوعيا، ويعطى لها صورة إختبار يتضمن أسئلة مغلقة ومغلفة بموضوعية مزيفة لا يمكن الإجابة عنها إلا ب: نعم أو لا، وفيما يلي عينة من تلك الأسئلة المفخخة فكرا واعتقادا مثل: هل يستطيع الشعب الجزائري أن يعيش من دون فرنسا؟، هل قدمت فرنسا خدمات إجتماعية للشعب الجزائري؟، هل تعتبر فرنسا من بين الدول التي أنشأت ونشرت الحضارة الإنسانية؟ هل ندمتم على الأعمال التي قمتم بها إتجاه فرنسا؟ ويضيف المجاهد »علي بييمون« أن هذه الجلسات تأتي بمراوغات بسيكولوجية ترمي إلى استمالة المعتقلين أو تشويشهم وتحطيم معنوياتهم ونسف ثباتهم، ومنها لجوء إدارة المعتقل عن إدراك وخبث منها إلى تثبيت مكبّر صوت في كل فناء تذاع عبره الدعايات والمعلومات المزيّفة والتلميحات المغرضة التي لا تمتّ إلى الحقيقة بأدنى صلة، وكلما خالفت النتائج المحصل عليها من هذه الإختبارات لا تحجم الوحشية الإستعمارية على إقتراف ممارسات تتقطر لها القلوب الرحيمة وتتقطّع الأكباد من فضاعتها، ولكن هذا لم يثنِ من عزيمة المجاهدين البواسل الذين ضربوا الأمثلة في سبيل استرجاع حرية واستقلال البلاد ضاربين ادّعاءات فرنسا عرض الحائط، متأكدين أن الثورة الجزائرية ليست كالثورات الأخرى وإنما هي شاحنة تعطلت مكابحها في الإشتغال، فمضت تشن طريقها بكل قوة وعنفوان، وهي لا تستطيع التوفق حتى يعترضها منخفض عميق فتوي وتزل أو تنجو في نهاية المطاف. مهما بلغت فصاحة الكتاب والمؤرخين فلا يمكن أن نعبر بصدق عن المشاعر الحقيقية للشعب الجزائري الذي كابد ويلات ومعاناة وعذاب وآلام الظلم الفرنسي أثناء الحقبة التاريخية 1830 ,1962 فقد سجل التاريخ بأن الثورة التحريرية أصبحت منارة كل الشعوب التي كانت تحت وطأة الإستعمار، حيث أن الشعب الجزائري قدّم قوافل وقوافل من الشهداء والأبرياء في سبيل الحرية، وأسّس بذلك مرجعية تاريخية ما تزال الشعوب المغلوبة والمتقدمة تسعى لدراستها والتعمّق في أسرار نجاحها.