ثانيا: العقيدة الأمنية الجزائرية: 1/ تعريف العقيدة الأمنية الجزائرية: هي مجموعة الآراء، الاعتقادات والمبادئ التي تشكل نظاما فكريا لمسألة الأمن في الدولة، والدول تتبناها عند تعاملها مع التحديات التي تواجهها، وبمعنى آخر هي الاداة التي بإمكان الدولة استعمالها لتعريف الأخطار والتهديدات التي تمس بأمنها. ومنه العقيدة الأمنية هي المقاربة التي من خلالها تتمكن لدولة من الحفاظ على أمنها عمليا، ويكون مصدرها إما النظريات المطروحة وتتبناها الدولة، أو من خلال الايديولوجية التي تحدد التوجه الفكري للنظام السياسي الذي يتم من خلاله تفسير الواقع. يعرفها اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ : “السياسة العسكرية المرسومة التي تعبر عن وجهات النظر الرسمية للدولة في أمور الصراع المسلح، وتشمل كل ما يتعلق بطبيعة الحرب وغايتها وطرق إدارتها، والأسس الجوهرية لإعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب”. إن العقيدة الأمنية مهمة انطلاقا من أنها دليل يوجه ويُقرِّر عبرها القادة، السياسة الأمنية للدولة ببعدها الداخلي والخارجي، ومن هنا نشأت العلاقة بين العقيدة الأمنية والسياسة الخارجية، إذ يلاحظ تنامي تأثير العقيدة الأمنية على توجهات السياسة الخارجية، باعتبارها تمثل مجموعة المبادئ التي تساعد الساسة والاستراتيجيين على تعريف المصالح الجيوسياسية لدولتهم، وتحديد الأولويات منها، كما تساعدها على تحديد أهم التهديدات والتحديات، البارزة والكامنة التي تواجه أمنها على المستويات الزمنية المختلفة ومن هنا يمكن القول أن العقيدة الأمنية بمثابة الإطار النظري، الذي من خلاله يتم تحديد الأهداف الأمنية للدولة، في مواجهة التهديدات التي تمس وحدتها الترابية وسيادتها. 2/ أسس، وعوامل تشكيل العقيدة الأمنية الجزائرية:
تبلورت العقيدة الأمنية الجزائرية خلال السنوات الأولى من استقلال البلاد، متأثرة بمشاكل الحدود، وتشكلت بفعل مجموعة من العوامل المهمة، وهي: 1/ العامل التاريخي: باعتبار أن الثورة الجزائرية مثلت حجر الأساس لهذه العقيدة، فبفعل تاريخها الثوري رأت الجزائر نفسها قائدة لحركات التحرر في العالم، ولهذا تملك أحقية في الزعامة في منطقة المغرب العربي. فالثورة الجزائرية ومبادئها ساهمت بشكل كبير في رسم المشاهد السياسية الاجتماعية والاقتصادية الذي تميزت بها بعد الاستقلال، ومن خلالها تم تحديد التزاماتها الداخلية وسياستها الخارجية. فرغم تغير الأوضاع إلا أنها أبقيت على العامل التاريخي كعامل مؤثر في سياستها وعقيدتها. 2/ العامل الجغرافي: لا يقل أهمية على العامل التاريخي، فالجزائر تقع في نقطة تقاطع إستراتيجية مهمة بتوسطها لعدة دول مغاربية، وتقع مابين كيانين هما الاتحاد الأوروبي والعمق الإفريقي. وهذا ما يجعلها في جبهة منكشفة تتطلب عقيدة أمنية فعالة، لمواجهة التهديدات المختلفة النابعة من الدوائر المحيطة بها، من الدائرية الشمالية كمصدر تهديد دائم عبر التاريخ، باعتبار أن كل الحملات الاستعمارية كانت من الشمال، إلى الدائرة الجنوبية التي بدأت تهدد أمنها في التسعينيات من القرن 20م، انطلاقا من حركات التمرد في شمال مالي والنيجر، وازداد تهديدها بعد تواجد الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء تحت مسمى (القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، بالإضافة إلى الانقلاب الذي حدث في مالي في 2012م، وإعلان دولة الطوارق (الأزواد). بالإضافة إلى الدائرة المغاربية التي تتميز بخلافات تاريخية مع الجار المغربي بسبب القضية الصحراوية، وهو الصراع الذي ساهم في تطوير العقيدة الجزائرية، وبل تطوير القدرات الدفاعية للدولة المستمر إلى حد الآن في إطار ما سمي تسابق التسلح في منطقة المغرب العربي، حيث تم تطوير القدرات البرية والجوية وتجهيزها وذلك ليس فقط بالنسبة للدولتين المغاربيتين وإنما كل الدول العربية اتجهت نحو تعزيز قدراتها الدفاعية خاصة في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي. يمكن اعتبار أن التنافس الحاد بين الجارتين الجزائر والمغرب، سببه أن كلا الطرفين يسعى إلى الريادة الإقليمية، التي اعتبرتها الجزائر من أحقيتها بحسب مبدأ “ التوازن الطبيعي” والذي يعني أن مكانة الجزائر وثقلها الجيوسياسي يجعلانها زعيمة المغرب العربي، نظرا لأنها لم توقع اتفاقيات دفاع مع القوى الأجنبية ولم تسمح لها بالتواجد في أراضيها، عبر إعطائها تسهيلات عسكرية أو قبول استقبال قواعدها. وأيضا الصراع بين الطرفين بدأ مع حرب الرمال في أكتوبر 1963م التي طالبت فيها المغرب بجزء من الأراضي الجزائرية، الأمر الذي ترفضه الجزائر وتؤكد على ضرورة احترام الحدود الموروثة على الاستعمار. 3/ العامل الإيديولوجي: ففي بداية الاستقلال، تبنت الجزائر مع عديد من دول العالم الثالث، النهج الاشتراكي المضاد للاستغلال والامبريالية، وهي مصدر مهم لهذه العقيدة لعدة عقود، ومن خلالها تم تبني نظام الحزب الواحد، الكفيل بتحقيق الوحدة الوطنية بعد كثرة الانشقاقات بعد الاستقلال، وأكدت جميع المواثيق التي هي بمثابة دساتير الدولة في أعوام 1964م، 1976م، 1986م، على تبني الخيار الاشتراكي كنظام وإيديولوجيا باعتباره المنهج الذي بإمكانه تحقيق الاستقلال التام. فهذا التوجه ساهم في تحديد أهداف ومبادئ العقيدة الأمنية الجزائرية، ومن بينها مناصرة حركات التحرر في العالم، ونصرة القضية الفلسطينية واعتبار إسرائيل المهدد الأول للعالم العربي، مع الاعتماد على قدرات الجيش الوطني في تشييد وبناء وتنمية البلاد. مع أحداث أكتوبر 1988م، التي شهدتها الجزائر، وانهيار المعسكر الاشتراكي وأفول إيديولوجيته، لتحل محلها الليبرالية، هذه التطورات أثرت على العقيدة الأمنية الجزائرية، حيث في إطار تكييفها مع الأوضاع الجديدة، باشرت في إصلاحات سياسية واقتصادية وحتى داخل المؤسسة العسكرية، في إطار التوجه نحو النظام الديمقراطي بحسب ما أعلنه الرئيس الجزائري الأسبق الشادلي بن جديد الذي توفي في 6 أكتوبر 2012م، وتزامنت هذه الإصلاحات مع أزمة العنف (العشرية السوداء) في بداية التسعينيات من القرن 20م، وهو ما هدد الأمن القومي الجزائري حقيقة، وهو ما تتطلب إعادة النظر في هذه العقيدة بما يخدم الأوضاع الجديدة، من خلال الاهتمام بجانبي الأمن المتمثلين في القوة الصلبة (استخدام القدرات العسكرية لاستتباب الأمن، وهذا ما كان سائدا في فترة الحرب الباردة باعتبار أن الدولة تتعرض لتهديد خارجي عسكري وبقوة عسكرية)، والقوة اللينة والتي ظهرت بقوة بعد الحرب الباردة، نظرا لتعدد التهديدات التي لا تكون عسكرية فقط، فهناك تهديد بيئي، اقتصادي، اجتماعي...)، وهذا في إطار النظرة الجديدة للأمن التي تبناه باري بوزان والعديد من المفكرين، والتي عبر عنها بالأمن الموّسع التي تم ذكرها سابقا. فتنوع التهديدات وتجاوزها للحدود ما بعد فترة الحرب الباردة، تتطلب تبني إستراتيجية تعاون وتنسيق مع عدة أطراف لمحاصرتها ( الإرهاب، المخدرات، الجريمة المنظمة، الهجرة غير الشرعية...). من هنا يمكن القول أن العقيدة الأمنية الجزائرية، تشكلت انطلاقا من عدة عوامل سبق ذكرها وأنها تتحدد من خلال شكل التهديدات التي تواجه أمنها، فالملاحظ أن الإطار العام لهذه العقيدة انتقل من المفهوم الضيق للأمن( القوة الصلبة) إلى المفهوم الواسع للأمن (القوة اللينة)، وذلك تكيفا مع التحولات الجديدة التي يشهدها العالم بفعل العولمة.
3/ أسس العقيدة الأمنية الجزائرية: تأمين الحدود وحمايتها. الحفاظ على وحدة التراب الوطني وسلامته في بعده البري، الجوي والبحري. انتهاج الخيارات العسكرية الدفاعية، ورفض استعمال القوة العسكرية للاعتداء على الدول احتراما لمبدأ السيادة الوطنية لها ولغيرها من الدول. تعزيز التعاون الاقليمي والدولي بما يحقق الأمن والدفاع وترقيتهما. 2/ افرازات سقوط نظام القذافي على الأمن الاقليمي عامة والأمن القومي الجزائري خاصة. قبل التطرق إلى افرازات سقوط نظام معمر القذافي بعد انتفاضة 2011 وتهديدات الوضع الليبي المتأزم سياسيا وأمنيا على الجزائر، يمكن ادراج: أولا: مفهوم التهديد وتبيان التهديدات غير التقليدية: التهديد لغة، يعني الحاق الأذى والضرر. التهديد في مفهومه الاستراتيجي هو وصول تعارض المصالح والغايات القومية مرحلة يصعب فيها إيجاد حل سلمي يحقق الامن في أبعاده المختلفة، والتهديد قد يكون على المستوى الفردي، الجماعي، القومي، الإقليمي أو الدولي، وتتأرجح مصادره بين مصدر داخلي وآخر خارجي، والتهديد threat يدخل ضمن الأمن الصلب والذي يكون تأثيره مباشر وفي الحين، في حين التحدي challenge يندرج ضمن الأمن الناعم والمرتبط بالصعوبات والمخاطر التي تؤثر على المدى البعيد أو المتوسط أي دون استخدام القوة العسكرية أو التهديد المباشر. نتيجة التطورات التي شهدها مفهوم الأمن فإن مفهوم التهديد عرف تطورات بدوره، إن كانت القوة العسكرية والتدخل الأجنبي المباشر يمثل أساس التهديد بمفهوم الأمن التقليدي، فإن الوضع الدولي ما بعد الحرب الباردة أفرز العديد من التهديدات غير التقليدية، فهي تهديدات لا تصدر من وحدات سياسية ولا ترتكز على القوة العسكرية التي تنتهجها قوى أجنبية تجاه دولة أخرى، بل أصبحت تهديدات نابعة من فواعل غير دولاتية عابرة للحدود يصعب التنبؤ بها وبحجم انتشارها وتعقيداتها، كما انها نابعة من داخل الدولة نفسها نتيجة الاضطرابات السياسية، التعثرات الاقتصادية، والمعضلات الأمنية والتحديات الاجتماعية. بحسب تقرير الأممالمتحدة في 1999، المعنون “ العولمة بوجه آخر” تم تحديد التهديدات الجديدة للأمن كالتالي: الأزمات المالية، ضعف المستوى المعيشي، الأمراض والأوبئة، الغزو الثقافي، الجريمة المنظمة، الإرهاب الدولي، تأثير التكنولوجية في البيئة، غياب الامن السياسي والاجتماعي”. قد تم تحديد التهديدات غير التقليدية كالتالي: - تهديدات نابعة عن بروز قوميات داخل الدول. - التهديدات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان كالإبادة الجماعية والتطهير العرقي. - التهديدات البيئية من تلوث، كوارث، اضطرابات مناخية... - الهجرة بكل أشكالها. ومنه فهي: - تهديدات عابرة للحدود ( تتجاوز المجال الجغرافي المكاني في نشاطها). - تهديدات من طبيعة غير عسكرية. - صادرة من فواعل غير دولاتية، وهذا ما يصعب تحديد منشأها وتأثيراتها بدقة. - تهديدات تؤثر على كل جميع الفواعل الأمنية (الفرد، المجتمع، الدولة، النظام الإقليمي والدولي). الحلقة2