يجزم جلّ المراقبين السياسيين بأن الانفصال سيكون الخيار الحاسم للجنوبيين في الاستفتاء التاريخي الذي يجرى اليوم، ليتمّ بذلك تقسيم السّودان في سابقة ينظر إليها البعض بتفاؤل ويعتبرونها حلاّ منطقيا لفشل كل محاولات إدماج وتوحيد الشمال بالجنوب، لما يميّز أبناء القسمين من اختلافات وتباينات عرقية ودينية ولغوية وثقافية وحتى سياسية. فالانفصال بالنسبة إلى هؤلاء مثل الدّواء المرّ الذي يتجرّعه الإنسان من أجل التداوي أو كالبتر من أجل استرداد العافية، ففي كلا الحالتين هو الخيار الأقل سوءا بالنسبة للجنوبيين المكدّسين بالضغائن تجاه الشمال، لأن الخيار الآخر المتبقي هو العودة إلى الحرب التي استمرت أكثر من عقدين من الزّمن والتهمت ما يقارب المليونين من القتلى، وشرّدت أكثر من هذا العدد وأهلكت البنية التّحتية، وأثّرت على تصاعد معدّلات النّمو في الشمال والجنوب فزادت الخلل والفوارق اتّساعا، ومعها زادت رغية الجنوبيين في الإنفصال وتأسيس دولتهم التي تحفظ ثرواتهم وثقافتهم وخصوصياتهم الإفريقية، كما يقولون... المتفائلون يعتقدون بأنّ الوجع السّوداني المزمن لم يكن ليفيده أيّ مسكّن عادي، وعلاجه الشّافي والنّهائي هو الانفصال التّام، وهم لا ينظرون إلى الانفصال ككارثة أو حتى كسابقة لأن دولا كثيرة تخلّصت من معضلاتها بالتّقسيم، كباكستان وبنغلاديش وكدول كثيرة في أوروبا الشرقية... لكن مقابل المتفائلين الذين يعتقدون أيضا بأن الشّمال سيستفيد هو الآخر من انفصال الجنوب، لأنه أخيرا سيقتلع شوكة طالما عاقت تقدّمه ورهنت مستقبله وأثبت عليه الغرب الذي يخنقه بعقوبات قاسية، ويحشره في قائمة الدول الراعية للإرهاب ويلاحق رئيسه بمشنقة الجنائية الدولية. هناك الكثير من المتشائمين الذين يتخوّفون من أن يكون تقسيم السّودان مقدّمة لتفتيت بلدان عربية أخرى، خاصة تلك التي تعتبر أرضيتها مهيّئة لذلك وتحمل عوامل تقسيمها كالتعدّد والتنافر الطائفي والديني والعرقي والثروات التي تسيل اللّعاب.. المتشائمون يعتقدون بأن ''ذبح'' السّودان ما هو إلا مؤامرة تقف وراءها أطراف غربية محدّدة قصد إقامة دولة عميلة في الجنوب تستبيح أرضها، حيث تقيم قواعدها العسكرية وتنهب ثرواتها من جهة، ومن جهة ثانية، تُضُعِف دولة السّودان الشمالية بعد أن تجرّدها من خيراتها وعلى رأسها الثروة النفطية المتمركزة أساسا في الجنوب... أي حظّ لنجاح دولة الجنوب؟ بعيدا عن رأي المتفائلين والمتشائمين، وفي انتظار كلمة الفصل التي سيقولها الجنوبيون اليوم، يتساءل البعض عن مدى قدرة الدولة الجنوبية المرتقبة على النّجاح، فالشكوك تظلّ قائمة لدى كثير من المراقبين حول قيام دولة ناجحة بالجنوب لها مقوّمات وقادرة على إدارة نفسها وخلق علاقات مع غيرها، خاصة وأن العديد من القضايا تظلّ عالقة بين الشمال والجنوب، وقد تدفع للصّراع بينهما، وأهمها ترسيم الحدود الذي لم يحسم بعد خاصة منطقة أبيي الغنية بالنفط. كما أن هنالك تداخل كبير بين الجنوب والشمال، خاصة ما تعلّق بإقامة المواطنين الجنوبيين في الشمال (نحو ثلاثة ملايين)، وانتشار الشماليين بالجنوب. ونسف هذا التعايش المتجذّر في عمق التاريخ يعتبر من الأمر الصّعب... المشكّكون في نجاح الدولة الجنوبية المرتقبة يعتقدون بأن أيّ قيادة جديدة ستجد صعوبة في بسط حكمها بالنظر إلى التنازع الكبير بين المكوّنات السكّانية لجنوب السودان، وحالة العداء الشديد بين مختلف القبائل والتي يرفض الكثير منها الرّضوخ لسيطرة قبيلة ''الدينكا'' التي ينتمي إليها معظم قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان... ومن هنا يتوقع كثيرون نشوب نزاعات أو حروب قبليّة داخلية تجعل بناء الدولة أمرا مستحيلا... كما يسوق محلّلون سببا إقليميا ودوليا قد يجهض حلم الدولة الناجحة جنوب السودان، وهو أن دول الجوار لا ترغب في انفصال الجنوب، لأن ذلك سيغري قوميات أخرى في بلدان كثيرة مثل غينيا وأوغندا وإثيوبيا على المطالبة بالانفصال، بالاضافة إلى ذلك أن أيّ إضطرابات سياسية أو قبلية في دول الجوار الإفريقي ستؤثّر على الدولة الوليدة في الجنوب، وقد ينتقل إليها العدوى... لكن إذا كان البعض يشكّك في نجاح الدولة الجنوبية المرتقبة، فإن المهلّلين لتقسيم السّودان يرون عكس ذلك تماما، ويؤكّدون بأن الانفصال لم يكن خيارا حرّا، بل أجبروا عليه حتى لا يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية. وحتى المرحلة الانتقالية التي دامت ستة أعوام لم تغريهم بالحفاظ على الوحدة، فالشمال ظلّ منشغلا بالمشاكل المتعدّدة التي يواجهها داخليا وخارجيا عن تنفيذ مشاريع تنموية كان من الممكن أن تؤثّر إيجابيا على خيارات الناخب الجنوبي وتجعله يصوّت لصالح الوحدة المروّجون للانفصال، يجزمون بأن الجنوب قادر على بناء دولة قويّة، فهو يملك من الثروات المادية والبشرية ما يؤهله لذلك، إضافة إلى الدّعم الخارجي الذي بدأ بعضه يصل إلى الجنوب، فواشنطن مثلا التي تريد أن تزاحم الصين وتبعدها عن السّودان لتنفرد بالكعكة، بدأت منذ سنوات تضخّ الأموال الطائلة لمساعدة الجنوب على الانفصال، فهي تقدّم دعما ماليّا سنويا يقدّر بمليار دولار موجّهة لإنشاء البنى التحتية، وتدريب رجال الأمن وتشكيل جيش قادر على حماية المنطقة، وهي طبعا لا تقدّم هذه المبالغ لأجل سواد الجنوبيين وإنما لإيجاد موقع قدم لها بهذه المنطقة المكدّسة بالثروة. كما بدأت بعض الدول الأوروبية كألمانيا في تشييد خطّ سكّة حديد يصل العاصمة جوبا بميناء مومباس الكيني الواقع على المحيط الهندي حتى لا يمرّ النفط إلى الشمال من خلال أنابيب نفط ومصاف تكرير في يور سودان على البحر الأحمر.. السودان ماضٍ اليوم إلى المقصلة تحت تهليل المتآمرين ولامبالاة الأشقاء العرب المشغولين، هذه الأيام، بمواجهة انتفاضات الخبز والشغل والمسكن والطائفية والإرهاب والتي يبدو بأن توقيت إشعالها لم يأت صدفة... وإذا كان السّودان قد افتتح قائمة الدول العربية التي ستفتّت، فإن دولا عربية أخرى تنتظر دورها إذا لم تتدارك الأمر وتصدّ الأبواب في وجه المؤامرة.