لايمكن أن ننكر مطلقا بأن وسائل الإعلام المختلفة التقليدية منها والحديثة لعبت دورا بارزا في أحداث الاهتزازات التي تشهدها بعض الدول العربية والتي يطلق عليها مصطلح «الثورات الشعبية»، من أجل تغيير الأنظمة، ولايمكن أيضا أن ننكر بأن الإعلام المكتوب والمسموع والفضائيات والمواقع الإلكترونية ووسائل الاتصال الحديثة بما فيها رسائل المحمول هي من نجّح «ثورات» وأجهضت أخرى، وهي من أسقط رؤساء وأنقذ آخرين. وإذا كنا ننطلق من هذه المسلَّمَة، فإننا نصادف في تحليلنا لدور الإعلام فيما يشهده العالم العربي من توترات واحتجاجات وتغييرات رأيين مختلفين حد التناقض حتى وإن تقاطعا في نقطة مشتركة وهي اقرارهما بأن الإعلام كان له دور بارز في دفع الشارع العربي إلى الاهتزاز في وجه حكامه.أما الرأي الأول فهو الذي لايرى إلا الوجه الايجابي لدور وسائل الإعلام فيما يحدث في البلاد العربية من خلال جزمه بأن وسائل الإعلام المختلفة خاصة الفضائيات كانت وراء هذا التغيير الذي يشهده الوطن العربي من خليجه إلى محيطه والذي سيصنع القطيعة مع ماضي اتسم بالحكم الاستبدادي لقادة احتكروا السلطة وأصبحوا يتوارثونها جيلا بعد جيل. أصحاب هذا الرأي، يقولون بأن الفضائيات مدعومة بالإعلام المقروء والمسموع والإلكتروني، لعبت دورا هاما في تعريف المواطن العربي المغلوب على أمره بحقوقه السياسية والاقتصادية وقبل ذلك بواقعه التعيس والمأساوي وتحولت بفضل هامش الحرية الذي قدمه إلى متنفس للشباب، يبوح عبرها بمشاكله وهمومه وآرائه المعارضة للنظام، قبل أن تلعب دورا بارزا في تشكيل فكره وتشجيعه على انتقاد الحكام واثارة قضايا الفساد والكشف عمن يقف وراءها دون خوف أو تردد حتى وإن احتلوا أعلى المناصب. وبمساحة الحرية الممنوحة عبرها، حمست الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى الشارع العربي على ضرورة التغيير ودفعته للثورة بهدف استعادة حقوقه المنتزعة منه غصبا. ولايرى أصحاب هذا الرأي مايُعيب هذا الدور بل يجزمون بأنه الهدف الأسمى الذي كان على الفضائيات العربية بلوغه بعد سنوات من التحضير والتهيئة. وفي المقابل للكثير من المحتلين وحتى العامة من الناس وجهة نظر متعارضة تقر بأن ماتمارسه بعض الفضائيات ليس إعلاما بالمرة بعد أن تحولت إلى غرف عمليات للتعبئة والتحريض ضد أنظمة ورؤساء بعينهم مع تجاهل أنظمة وقادة آخرين. ويشير اصحاب هذا الرأي إلى أن الفضائيات الإخبارية خاصة، لما بدأت عملها في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حققت قفزة نوعية في مجال حرية الإعلام، واعتبرتها الشعوب العربية واحة للحرية في صحراء قاحلة من الإعلام الرسمي الموجه الذي يدور في حلقة مفرغة تبدأ من مصلحة النظام وتصب فيها، وأصبحت هذه الفضائيات متنفسا للتعبير ووسائل لنقل الواقع بسلبياته التي يداريها الرسميون، كما اتسم خطابها الإعلامي عند انطلاقها بتكريس حرية وحق الاختلاف في الرأي وتنويع فرص الحوار التعددي. وأظهرت هذه الفضائيات حسب أصحاب هذا الرأي من المهنية والاحترافية ماجعلها تنافس كبريات المحطات الفضائية الغربية وما جعلها تكسب جمهورا عربيا واسعا طلق قنواته المحلية البليدة وضبط عقارب ساعاته على مواعيدها الاخبارية ومواعيد حصصها الحوارية والسياسية الثرية والمثيرة. لقد كان لهذه الوسائل الإعلامية الحديثة تأثيرا قويا على المشاهد العربي من خلال نشرها لقيم المجتمع المدني والدولة الحديثة والحرية والتي لم يكن يسمع بها إلا في المجتمعات الغربية المتمدنة المتحضرة. كما استطاعت من خلال تفكيكها لعناصر الرتابة المسيطرة على الإعلام الرسمي العربي واعتمادها على استراتيجية نقد الذات والآخر واستثمارها في حالة العجز والاحباط التي يعيشها المواطن العربي أن تأسره وتجلعه ينساق وراء أطروحاتها ويستسلم لها طائعا وهي تدفعه هذه الأيام إلى الثورة على أنظمة يظهر جليا بأنها هي من يريد اسقاطها قبل أن تريد الشعوب العربية ذلك. ومع اندلاع ماتسميه بالثورات الشعبية العربية بدا واضحا بان هذه الفضائيات اخترقت أخلاقيات المهنة والدور الإعلامي الناقل للأحداث وتحولت إلى طرف فاعل ومحرك لهذه ''الثورات'' بعد أن أصبحت بمثابة أبواق سياسية وقوة ناعمة لتهديم أنظمة محددة دون غيرها. ولتوضيح الصورة، دعنا ننقل أداء بعض هذه الفضائيات وهي الأكثر توسعا وتأثيرا مع ظهور ماتسميه الثورات العربية، إذ اختلف الأداء باختلاف البلدان، ففي تونس كان التحفظ إلى حين سقوط بن علي، وفي مصر تكالبت على نظام مبارك إلى غاية اسقاطه، أما تغطيتها للاضطرابات التي تشهدها ليبيا، فأبتعدت تماما عن الموضوعية واتسمت بالروح الانتقامية التي يتبناها ملاك هذه القنوات تجاه نظام القذافي لتصفية حساباتهم الخاصة معه. ونفس الافتراء الإعلامي والتزييف للحقائق من خلال شهود العيان الذين لايشاهدون شيئا نلاحظه على أداء هذه القنوات في سوريا واليمن والسودان.. وبالمقابل وقفنا على معالجة هادئة للاحتجاجات التي شهدتها البحرين وبدلها لكل امكانياتها لنزع فتيل التصعيد والتهويل الذي تصر على اشعاله ضد أنظمة بعينها ولاتتوان هذه الفضائيات في تسخير كل امكانياتها لتحقيق أهدافها، إذ تركز على اختيار مدعوين وشخصيات مؤثرة تتبنى أطروحاتها. لكن على هذه الفضائيات التي تتبنى الازدواجية في الخطاب الإعلامي أن تدرك بأنها ماضية إلى فقدان دورها ومكانتها وجمهورها وستجني على نفسها إن هي واصلت اغتصابها للمهنة وأخلاقياتها.