رواية «صحاري السّراب» للكاتب الجزائري نوار ياسين متخيّل الصّحراء ودلالات الخطاب عمل نقدي يحاول فك شفرات جغرافيا الصّحراء وأسرارها قليلة هي النصوص الروائية التي تمنح القارئ جماليات الاستمتاع وتجليات الاستفادة في هذا الزمن، حيث كثر الكتّاب وقلّ عدد الكتابات، في ظل توفر النشر واستسهاله وانفتاح الفضاءات التكنولوجية لكل من هبّ ودبّ من شبه الأقلام، لولا بعض النصوص الجميلة التي تحقق الاستثناء، ونحسب أن منها رواية «صحاري السراب» للكاتب الروائي الجزائري نوار ياسين. في متخيّل الصّحراء.. صدرت الرواية عن دار نوميديا للنشر بالجزائر، 2017، وهي تسير في مسار سردي عربي طويل شهد تفاعلا مع المكان الصحراوين وكل مظاهر الحياة، صعوباتها، ثقافاتها وأسرارها، مثل روايات جمال الغيطاني، إدوارد الخراط، إبراهيم الكوني، صبري موسى، عبد الرحمان منيف،....أو الروايات الجزائرية التي كتبها السعيد بوطاجين، الحبيب السائح، رشيد بوجدرة، جميلة طلباوي، حاج احمد الصديق... وقد التفت الخطاب النقدي العربي للحضور الصحراوي في السرد، فظهرت الكثير من الأعمال النقدية التي تحاول فك شفرات التخيل الصحراوي، كما وجدنا في كتب شاكر النابلسي، صالح ولعة، سعيد الغانمي، توفيق بكار،امينة برانينن...وكانت أطروحة الدكتورة جنات زراد بجامعة عنابة عام 2017، من بين آخر الأبحاث في هذا السياق، وعنوانها «المتخيل الصحراوي في روايات عبد الرحمان منيف»، بإشراف من البروفسور المحترم صالح ولعة. وحتى لا نبتعد عن عوالم رواية الكاتب الجزائري - ابن مدينة قالمة - نوار ياسين «صحاري السراب»، نتساءل مع القارئ: ما هي الجماليات التي حضرت فيها؟ وما هي التجليات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي كاشفتها؟ عن الرّواية وعوالمها هي رواية عن الشيخ «عامر» الذي يجوب الصحاري بحثا عن الماء والكلأ لقطيعه وحماره، برفقة كلبه «كرد»، بعد أن ترك قبيلته، وفر من زعيم سارق ظالم، راحلا في الصحاري، ومنتظرا لزمن العودة للثأر وتخليص أهله من شيخ القبيلة المجرم، وتتحرك الرواية عبر الهواجس الداخلية والخواطر الذاتية الخاصة بهذا الشيح الحكيم -الشاعر، ويمارس السارد لعبة الحكي والترحال الفنيين، وهنا نحيل القارئ لكثير من السفر والرحلة في الرواية.. وتتحقق المتعة ويحضر أسلوب التشويق السردي، رغم صعوبة الصحراء ومشاهد الجفاف والفراغ والضياع (...)، وحيث الانفتاح المكاني على المطلق وعلى كل سحر الوجود وصمت الزمن وهباء المعاني المادية، لأن العجوز عامر قد ترك كل مظاهر المدنية خلفه وعانق الصحراء وأساطيرها وغرائبها، كما توحّد في دهشتها، دهشة الليل وهدوئه الكبير، ودهشة الإلهام والوحدة والتفرد في المكان. يريد الكاتب ياسين نوار لروايته أن تشكل عالما أسطوريا ساحرا واقعيا بلمسات الخصوصية السردية العربية، بعيدا عن صخب الرواية الغربية وأجوائها المدنية والعصرية والتكنولوجية، وكأني به يعود إلى إنسانية الإنسان وجلال المعنى الكينوني / الوجودي، أو هو يريد أن يقرأ الراهن العربي بعيون تراثية رمزية. القبائل الصّحراوية وشعوبنا العربية ولا يمكن أن نحدّد بالتدقيق الصحراء التي يتحدث عنها النص، ففيها كل ملامح الصحراء العربية، من دون ذكر لدولة محددة، ومن دون مكاشفة لبعض العناصر الثقافية والمجتمعية التي قد تساعد القارئ في معرفة الدولة التي توجد فيها صحراء الرواية، فملامحها متوفرة في كل دولة / مملكة عربية، ومن ثمة فرمزياتها وملابساتها تصدق على كل إنسان عربي، وعلى كل مجتمع عربي، وعلى كل خطاب رسمي عربي، عبر التلميحات السردية والإشارات الدلالية بطيعة الحال الفني - الفكري... فمن دون أن يقع السارد - ومعه الكاتب- في فخ الطرح السياسي المكشوف، قدّم قصصا عن صراع القبائل من أجل الماء، واستعمال البطش والاستبداد والتخويف للسيطرة وإبعاد الخصوم، فانتقل ياسين نوار من يوميات الهواجس والخواطر الداخلية للشخصيات إلى يوميات القبائل والعشائر المتناحرة، ليحيل القارئ على يوميات الشعوب العربية وممارسات زعمائها - حكامها الذين يقمعونها ويحاصرونها بطرق شتى. ولأن الأحداث الروائية كلها في الصحراء، فقد منحنا الروائي مشاهد من اللغة الشعرية الصوفية، في لحظات السرد والوصف والحوار، كما أحالنا لحضور الإيمان بالخرافات والأفكار الغيبية في مجتمعاتنا البدوية (وكذلك المتمدّنة..للأسف)، وسعت الرواية (بطريقة رمزية من خلال العجوز / الشاعر الذي ينتقل بين القبائل بشعره وحكمته) لكي تفكّك وتوضح - عبر الترميز - دور المثقف في التغيير الفكري والمجتمعي والثورة ضد الفساد والاستبداد. فيمكن أن نكشف - عند القراءة العميقة لرواية «صحاري السراب» - أن القبائل هي هذه الأوطان العربية، وممارسات زعماء القبائل هي ممارسات الحكام والساسة العرب الديكتاتوريين، وصمت أهل العشائر وذلّهم وهوانهم في بعض الفترات من أحداث الرواية،هو صمت الشعوب والعربية وهوانها لأزمنة طويلة، أمام الكيان الصهيوني وأمام الديكتاتوريات والطغيان السياسي، قبل التحرك للتغيير في السنوات الماضية منذ سنة 2011، رغم أن السياق الثوري العربي يحتاج لتأملات وقراءات جديدة عن الربيع الذي تحول لخراب وتدمير للإنسان وذاكرته ومنجزاته الحضارية (في سوريا، ليبيا، اليمن...؟؟؟). فالرواية تقترح أمام وعي القراءة إشارات حكائية - دلالية للثورات العربية، وإحالات لصراع أصحاب المصالح في سرايا الحكم العربي، وتداخل المنافع والشهوات المالية والسياسية والزعاماتية، كما هو الشأن في خواطر رجال العصابات الصحراوية حول اقتسام الغنائم والقضاء على زعيم القبيلة.. ونقرأ إحالات أخرى على الفكر الانقلابي العربي وآليات تنفيذه في مجتمعاتنا، لكن داخل فضاء سردي صحراوي عجائبي، وتنتهي الرواية بعودة الحق لأهله، وإسهام العجوز عامر في مساعدة القبائل لتجدد الاتحاد ضد الظلم والفساد، ثم يغادر الواحة وأهلها في نهاية الرواية، ويتركها بيد حاكم شاب، فيه كل ملامح الصلاح والوفاء والتضحية والمعرفة وحب القبيلة (..هي القبيلة في الرواية..والوطن في السياق العربي...فهل فهمت أيها القارئ الأبعاد الدلالية للنص؟؟) أخيرا.. هي - إذن - رواية جديدة من روايات نوار ياسين، وقد قدّم للمكتبة السردية العربية روايات «كاف الريح» - 2016، «ثلاثة أيام» - 2012، «حكاية طفلين» - 2011...ومجوعات قصصية منها «الأبواب الأخرى» - 2018، رجل العسل - 2017، شتاء دمشق - 2016.... تضاف رواية «صحاري السراب» لروايات عربية كثيرة بنفس صحراوي ساحر، وهي تنفتح على الأزمنة العربية القديمة، لا للتوقف والبقاء عندها، لكن لتعود للراهن العربي اليوم، ولا ترتبط بزمان محدد في السياقات، بل تحاور الراهن بطرية رمزية تراثية، إنها رواية ممتعة مشوقة، ننصح بقراءتها، بحثا عن جلال المعنى وجمال البنية.