الملامح العامة لإعادة صياغة العلاقات الدولية ما بعد مرحلة كورونا لم ترتسم بعد بوضوح في الوقت الراهن نظرا للمعارضة الضمنية الشديدة التي كشفت عنها الإدارة الأمريكية في الحفاظ على الوضع الحالي وهذا عندما رفعت من سقف حربها الكلامية ضد الصين محاولة منها تمرير رسالة مفادها أن هذا البلد لا يؤتمن جانبه جراء ما أخفاه من «معلومات بخصوص فيروس كوفيد 19. يريد ترامب ومساعدوه، إعطاء انطباع خاطئ عن الصين لدى المجموعة الدولية، من خلال سعيهم لإلصاق بها كل تلك التهم الباطلة والادعاءات الكاذبة، على أنها تتحمل مسؤولية تفشي الوباء الفتاك وإن لم تلق حتى الآن أي تجاوب من حلفائها في اجترار هذا الخطاب فإنها تعتمد على القاعدة الدعائية التكرار ثم التكرار حتى يصدقونك، وحتى الآن فإن هذه الحملة ولدت ميتة لا تتعدى أسوار البيت الأبيض كونها تحمل نوايا مبيتة تسعى لضرب حصار مشدد على الصين وعدم تركها تعمل في هدوء بعد النجاحات الباهرة المحققة على صعيد مكافحة هذا المرض. وقد لا نتفطن للملاحقات الإعلامية العلنية اليومية التي تشن ضد الصين كونها مغلقة بالطابع الإنساني ونقصد هذا الجانب الصحي، لكن أبعادها سياسية بامتياز ترمي فيها إلى الضغط على هذا البلد لمنعه من قولي أي صدارة في حركية العلاقات الدولية بمعنى أدق جر الصين إلى نزاعات حادة مع المجموعة الدولية بناءا على كل تلك «الأحمال» من الاتهامات سالفة الذكر الخلفيات وعلى ضوء هذا التوجه الأمريكي يتساءل الملاحظون الكامنة وراء هذا الاستفزاز العلني ؟ الكثير كان يعتقد بأن صقور البيت الأبيض أغلقوا هذا الملف لكن في فترة وجيزة جدا أعادوا فتحه بمعطيات جديدة مبنية على احتمالات استقاها ترامب وبومبيو من ما يصلهم من الدوائر الإستخباراتية ..لا يتأخر المسؤولان في الكشف عن تفصيل منها عبارة عن عموميات كقولهما بأنهما إطلعا على معلومات موثوقة تفيد بأن الصين تقف وراء فيروس كورونا كما أن لديهما أدلة تثبت تورط هذا البلد. الصينيون يردون عليهما بالحكمة والتعقل وبعيدا عن أي تشنج يذكر ، قائلين «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» وإلى حد اليوم عجز الأمريكيون في الكشف عما يدّعون بأنه بحوزتهم مجرد بالونات إختبار لقياس مدى تفاعل الصينيين مع ما يقال ضدهم. وأمام هذا المشهد الثنائي، فإن الصين لم تتراجع في وثبتها الأولى المتعلقة بإعادة الانتشار على المستوى العالمي كل ما في الأمر أنها أنجزت مهمتها الإنسانية على أكمل وجه في مساعدة البشرية المتضررة من الآثار المترتبة عن فيروس كورونا وحازت على تقدير عالمي في كسب ود الشعوب في الوقت الذي كان فيه ترامب يكيل الاتهامات في كل الاتجاهات بدلا من إيجاد الحلول للجائحة كما فتح جبهة صراع أخرى مع منظمة الصحة العالمية على أساس أن مسؤوليها موالون للصين، بحرمانها من 400 مليون دولار. الولاياتالمتحدة أرادت أن تدمج ملف كورونا مع باقي القضايا الشائكة حاليا مع الصين، منها اتفاق التجارة، الحقوق الجمركية، والاتصالات في المجال الأخير، عمل الأمريكيون على تشويه نشاط شركة «هواوي»ليس في جوانبها التجارية والتنافسية وإنما اعتبرتها مؤسسة عسكرية و»أداة للجوسسة» مانعة إياها من التحرك في السوق الأمريكية محاولة منها لتشويه سمعتها وعلامتها على الصعيد الدولي.. وبعد فشل كل هذه المخططات يبحث الأمريكيون عن آليات أخرى لمعاقبة الصين كرد على كل المكاسب المسجلة خلال أزمة كورونا خاصة عقب فتح يوهان ومدن أخرى في الوقت الذي اندلعت فيه سجلات كلامية حادة بين ترامب وعمدة نيويورك، رافضا المغامرة بسكان هذه الولاية وإلى غاية اليوم ما تزال تعد موتاها. وفي الوجهة الأخرى من العلاقات هناك روسيا بقيادة بوتين التي تسير مسارات سياستها الخارجية بكل كفاءة واقتدار، لم تدخل في صراع مع أي طرف حفاظا على حضورها الدولي القائم على عدم ترك الفراغ الحيوي للآخر أو بالأحرى منح التفوق التقليدي للولايات المتحدة في «الإستيلاء» على بؤر التوتر وهذا ما ينطبق على سوريا زيادة على متابعة عن كتب المستجدات في نقاط أخرى من العالم كان آخرها ليبيا حيث طلبت بتعيين مبعوث أممي جديد. هذه الرؤية الهادئة سمحت لها بأن تحتل الريادة في مرافقة الملفات الكبرى من ناحية النظرة جيو - سياسية وهذا ما جعل أمريكا تغير خطابها مؤخرا باتجاه المهادنة إزاء روسيا بمحاولة التخفيف من وطأة التوترات أو التلويج بالعقوبات كما اعتادت على ذلك من قبل ..هذا لا يعني أنها تخلت عن هذه الخيارات بل أن السباق الراهن جعلها أن تضمن لنفسها هامشا من التواصل مع روسيا حتى تجد متنفسا من الحصار الخانق لكورونا ..وبحثا عن شريك ذي وزن في التحاور معه بعد أن أفسدت علاقاتها مع الصين. وتبدي الولاياتالمتحدة حاليا تخوفات غير مسبوقة من عودة روسيا إلى أفغانستان بعد إنسحاب قواتها على مراحل لذلك تسعى باتجاه غلق هذا الفضاء الحيوي على هذا البلد من خلال تقديم المزيد من الضمانات للرئيس أشرف غاني للتشديد في مسألة العلاقات المستقبلية مع روسيا. علما أن وجود هذه الأخيرة على أراضي هذا البلد امتد من 1979 إلى 1989 وما تزال علاقات قائمة بين الطرفين. في خضم هذا الحديث، فإن صوت أوروبا أصبح لا يسمع حول كيفية التأسيس للعلاقات الدولية ما بعد كورونا وتصريحات القادة الإيطاليين في عز ذورة الوباء بخصوص أنانية الاتحاد الأوروبي كشف عن هشاشة هذه القارة خلال الأحداث الاستثنائية، نفس الشعور تولد عن البرتغال وإسبانيا في غياب أي مواقف تضامنية تجاههما خلال ذورة الفيروس وبالرغم من تصريحات ميركل وماكرون للتقليل من حدة ما صدر عن البلدان 3 أنها جاءت كلها متأخرة..والكثير توقع بأن إصلاحات جذرية سيشهدها هذا الاتحاد لاحقا..فيما يتعلق بآليات عمله، بعدما تبين عجزه في إدارة تلك الأزمة الصحية ووصول أرقام الإصابات والوفيات إلى مستويات قياسية. كل هذه المعطيات البارزة منذ تفشي الوباء لم تبلور المشهد في تولي المبادرة على صعيد العلاقات الدولية، كانت المحاولة الأولى من الصين لكن الولاياتالمتحدة حولتها إلى أزمة ونزاع في حين سار الروس على قناعة مفادها عدم تأزيم الوضع، أما الطرف الثالث أوروبا فسقطت في التراشق بين أعضائها داخليا ولم تبرز أي قدرة في الصمود خارجيا لفرض نفسها لذلك فإن العالم ما بعد كورونا لن يتغير كما يعتقده البعض.