يحتاج المجتمع المدني حسب ناشطين جمعويين ومختصين في القانون، إلى تكوين خاص، وصفة «مراقب» يمنحها له التنظيم، تتيح له المشاركة في تسيير الشأن العام ومكافحة الفساد بشكل فعال، وتحصنه من «الانحراف» عن مساره، والوقوع في فخ «التبليغ الكاذب وتصفية الحسابات» حتى يكون حليفا أساسيا للدولة، وقادرا على تحمل مسؤولياته «التاريخية والأخلاقية». تغيّرت النظرة للمجتمع المدني كثيرا بعد الهبة الشعبية في السنة الماضية، وأخذ نوعا من «الاعتراف» من طرف السلطات العمومية بدوره وأهمية مشاركة في فعالياته الحياة العامة، على حد قول شلبي عبد الرحمن عضو جمعية ابن الهيثم للنشاطات العلمية، في تصريحه ل «الشعب ويكاند»، فبعد أن كان يقتصر دوره على تنشيط الحياة الثقافية والشبانية والخيرية، وظل مستوى تدخله ناقصا، مقارنة بمستوى تدخل الدولة والقطاع الخاص بحكم مهامهما ووظائفهما أصبح اليوم يستفيد من تكوينات في مجال محاربة الفساد. ويعود الفضل في ذلك حسب المتحدث، إلى «السياسة الإصلاحية لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، التي دسترت وجود المجتمع المدني في كل مناحي الحياة، ومنحته علاقة وظيفية مع الهيئات العمومية، خاصة وأن من أهم أسس الحكم الراشد العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني»، واعتبر هذه بادرة خير لرفع مكانة المجتمع المدني، مادام أن وثيقة مشروع تعديل الدستور التي ستكون بعد الاستفتاء عليها وثيقة أسمى للدولة تستنبط منها جميع القوانين، حملت مطلب العديد من الجمعيات بدسترة المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية، لأن موضوع التنمية والتسيير شأن العام يهم الجميع وليس الدولة فقط. ويقتضي الأمر قبل الحديث عن دور الجمعيات - حسب شبلي - تحديد المتدخلين في تسيير الحياة العامة، حيث توجد دولة لديها مسؤولية تهيئة ظروف معيشة للمواطنين، وجمعيات تعد وسيطا بين المواطنين ومؤسسات الدولة. وعند التحدث عن مكافحة الفساد، ينبغي أن تنطلق هذه المهمة - يقول - «من عملية التحسيس وشرح كل القوانين التي تسير الحياة العامة للإلمام بها، لأن عادة الفساد منطلقاته أو البيئة المحفزة له وجود أفراد تجهل القوانين والأمور المتعلقة بالحياة العامة، مثل الحقوق والواجبات، وبالتالي عدم معرفة هذه الأمور تجعل ميادين الفساد كثيرة، لكن مع مد جسور العلاقة التشاركية بين المجتمع المدني والهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته، كفيل بمحاربة هذه الآفة في العمق». ويدعم التشاور مع الهيئات المختصة في مكافحة الفساد، قدرات الجمعيات - حسب رئيس جمعية ابن الهيثم - الذي أشار إلى أن مخطط عمل الحكومة تضمن عدة تدابير لمكافحة الفساد، منها تحديد العهدات في المنظمات المهنية والجمعيات الوطنية، وهو ما يجب أن تنطلق منه الجمعيات من باب «لا تنه عن خلق وتأتي بمثله»، لذلك الجمعيات التي تستفيد من تمويل من الخزينة العمومية عليها «أن تطبق هي أولا ما تطالب به غيرها، وأن تكون حليفا أساسيا قادرا على تحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية، وتستحق المكانة التي خصّها بها رئيس الجمهورية». استيعاب الدور الجديد يحتاج تكوينا خاصا يعد التكوين في نظر خالد بن تركي رئيس جمعية مستقبل الشباب لولاية الجزائر، شرطا أساسيا لنجاح المجتمع المدني في مهامه الجديدة، فحسبه «لا يمكن بين ليلة وضحاها استيعاب الدور الجديد للجمعيات» في لقاء أو لقاءين، وهو ما يقتضي تنظيم اجتماعات أخرى، غير تلك التي جمعت الناشطين الجمعويين مع مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالجمعيات، والهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته مؤخرا، لتحديد بدقة دور الجمعيات حتى لا تنحرف عن الإطار القانوني المؤطر لنشاطها. وأقرّ بن تركي بصعوبة انخراط جميع فعاليات المجتمع المدني في مسار مكافحة الفساد، لأنه يوجد مجالات لتدخل المجتمع المدني يجب تحديدها وتوضيحها بدقة، خاصة ما يتعلق بميكانيزمات وطريقة التبليغ عن الفساد، وهي مسؤولية قال إنّها تقع على عاتق الهيئات والمؤسسات المختصة وهذا عن طريق تكوين النخبة وأعضاء الحركة الجمعوية، وحسبه «محاربة الفساد تقتضي التخصص والتحكم في المعارف والقوانين التي تسمح بمكافحة هذه الآفة والوقاية منها، وهذا لن يكون بالارتجالية أو الخوض في تفاصيل غير معروفة». ولأن العمل جاري على إنشاء أكاديمية للمجتمع المدني، تحضيرا لإطلاق المرصد الوطني، يتطلب الأمر - يقول بن تركي - «فتح ورشات كبرى لتصنيف الجمعيات كل حسب أهدافها»، حتى نرقى بدورها وعملها يكون نوعيا ويقوم على المنافسة الشريفة، فالنشاط الجمعوي الفعال يقتضي التزام كل جمعية بالأهداف التي أنشئت من أجلها، إلا في حالات الاستثناء كالأزمة الصحية الناجمة عن كورونا التي فرضت انخراط الجميع في الجهود الوطنية لمحاربة الوباء. واسترسل قائلا: «لا ينبغي البقاء في السياسة القديمة، لذا يجب إشراك الجمعيات الفاعلة والنشطة حتى تمنح الإضافة في المجال، والتكوين يسمح بعدم الوقوع في فخ التبليغ الكاذب أو تصفية الحسابات، ويحدد بدقة المسار أو الرواق الذي تمشي عليه الجمعيات وهي تحارب الفساد، أو تشارك في تسيير الشأن العام». وثمّن بن تركي «النية الخالصة لرئيس الجمهورية في إشراك المجتمع المدني في كل المجالات منها التنموية والاقتصادية ومكافحة الفساد، بعد أن غيّب لعدة سنوات، ورأى في دعواته المتكررة لفتح الأبواب أمام الجمعيات، حافزا على بذل مجهود أكبر على مستوى القواعد لبناء الجزائر الجديدة. إعادة هيكلة يقول علال طحطاح، أستاذ قانون بجامعة جيلالي بونعامة خميس مليانة، إن المجتمع المدني يحتاج إلى إعادة هيكلة من خلال تعديل قانون الجمعيات والأطر القانونية الأخرى لإعطائه أكثر فعالية، وجعله يتواءم ويتواكب مع النصوص الدستورية خاصة. وعليه لابد من وضع إطار هيكلي خاص بالمجتمع المدني في شكل مرصد وطني للمجتمع المدني مثلما تضمّنه مشروع تعديل الدستور لأن هيئات ومنظمات المجتمع المدني كثيرة وعديدة، ومن أجل عدم تشتيت أفكارها لابد أن تصب كلها في هيئة واحدة مرتبطة بالمجتمع المدني، وهي التي يمكن أن تتعامل مع الجهات الرسمية في الدولة. وذكر طحطاح أنّ مراجعة النصوص القانونية للجمعيات ستكون بعد تعديل الدستور لأن الأمر يفرض ذلك، بعد دسترة المرصد الوطني للمجتمع المدني كهيئة استشارية، بالإضافة إلى إعطائه دورا كبيرا في مجال مكافحة الفساد، حسب نص صريح في الباب المتعلق بالهيئة العليا للشفافية ومكافحة الفساد، وهو ما يعكس اتجاه الدولة - مثلما قال - «نحو تفعيل دور المجتمع المدني لخلق نوع من العمومية، لأن التنظيمات السياسية لا تدافع عن بعض الأفكار المعينة، بعكس المجتمع المدني يكون أكثر تحررا منها، وبالتالي تكون له أكثر قوة وفعالية في محاربة الفساد بشرط إعادة هيكلته، ووضعه تحت وصاية هيئة عليا تشرف على هذه المنظمات المتناثرة لتوحيد الرؤى وتقريبها من المؤسسات الرسمية». وما دام أنّنا نتحدث عن مكافحة الفساد ودور المجتمع المدني، اقترح أستاذ القانون التركيز على العنصر البشري من خلال تكوين خاص لفواعله، ووضع شروط مختلفة لتأسيسه عما كان عليه من قبل، مثل تحديد شروط ضرورية في الأعضاء المؤسسين والمنتمين للجمعيات كي لا يكون الأمر فوضى، وكل من هب ودب يقوم بإنشاء جمعية مادام أننا نتحدث عن النزاهة والمسؤولية، وهؤلاء يجب كذلك أن يكونوا مسؤولين. ويمكن أن تتجسد مشاركة المجتمع المدني في تسيير الشأن العام ومكافحة الفساد، وفق الأستاذ طحطاح في طريقة غير مباشرة وهي التحسيس عن طريق ملتقيات توعية للمجتمع ككل بخطورة الفساد على المجتمع والأمة والنتائج السلبية على الدولة ومكوناتها، وأخرى مباشرة عن طريق تعديل القوانين، بحيث يتطلب الوضع، حسبه، إعطاء إطار ومكانة للمجتمع المدني في مراقبة تسيير الشأن العمل، كأن يسمح لمنظمات المجتمع المدني حضور مداولات المجالس الشعبية والولائية والوطنية كمراقب وملاحظ على مدى تطبيق النصوص القانونية، وله أن يتدخل بواسطة الهيئات التي تمثله لدى السلطات العمومية إذا رأى انحراف في مجال الصفقات العمومية أوفي مجال الشأن العام. وأكّد أنّ الجمعيات تحتاج إلى إطار قانوني تتحرك ضمنه وتراقب عن قرب، ما دام أنّنا نتحدّث عن تزويد المجتمع المدني بالمعلومات من أجل خلق الشفافية، هذه المعلومات قد تتأتى من خلال مشاركته الفعلية ووجوده في الهيئات التداولية وعند الاجتماعات وغير ذلك، كمراقب على مدى احترام النصوص القانونية دون أن يتدخل في النقاش حتى لا يكون خلط في المهام أو صراع مع المنتخبين والمسؤولين، ويكتفي بإعطاء الاقتراحات ورفع الشكاوى، لأن المعلومات التي تستقى عند تطبيق النصوص غير المعلومات التي تصل في شكل تقرير، ولهذا المشاركة المباشرة في المراقبة تكون أكثر فاعلية. أما في المجال القضائي، فاقترح أستاذ القانون النص صراحة على حق الجمعيات في تحريك الدعاوى العمومية والطعن الإداري أمام الجهات الإدارية وتفعيل دورها، ولكن يجب إحاطة هذا الإجراء بالالتزامات الخاصة بأعضاء الجمعيات حتى لا تستغل لأغراض شخصية أو لتصفية الحسابات، ما دام أننا نتحدث عن أخلقة الحياة العامة، لذلك لابد من إطار قانوني يعطي للجمعية دورا في تحريك الدعاوى العمومية، ولكن بالمقابل لابد من ترتيب مسؤولياتها حتى تكبح ظاهرة تصفية الحسابات الشخصية.