يحق لنا بعد مرور عام ونصف عن انطلاق شرارة الثورات الشعبية ضد بعض الأنظمة العربية أن نقف برهة لتقييم النتائج المحققة حتى الآن، ولنحصي الإنجازات والإخفاقات والتحدّيات وهي في الأساس مختلفة من دولة إلى أخرى بالنظر إلى التباين الذي إتّخذته مسارات هذه الثورات التي تحولت إلى ما يشبه الحروب الأهلية في بعض الدول، في حين أدخلت عموم دول الربيع العربي في حالة من التوتر والإرباك والفلتان الأمني والسياسي والتراجع الإقتصادي حتى أصبح البعض يتساءل إن كانت هذه المحُصّلة الرمادية ستكون مؤقتة ليزهر الربيع العربي بعدها أم أن الرمادي سيتحول إلى الأسود، خاصة وأن الثمار يصر على أخذها الذين ركبوا قطار الثورة بعد أن إنطلق بقوّة دفع من الشباب، والفلول هنا وهناك يتشبثون بمواقعهم، ومصالحهم، والسيّاق المحموم بين المتطلّعين إلى الإستحواذ على الغنيمة الكبرى أي كرسي الحكم - قد يقود إلى انزلاقات خطيرة تدخل بلاد الربيع العربي فيما لا يحمد عقباه .... في الواقع قد يسجل البعض بأنه من السابق لآوانه تقييم نتائج الثورات العربية ما دام أن الحراك مازال متواصلا، والإضطرابات مشتعلة هنا وهناك والمراحل الإنتقالية إنطلقت لتوها وهي تتحسس الطريق الصحيح الذي يقود إلى بناء أنظمة ديمقراطية قوية، لكننا نعتقد بأن فترة عام ونصف قد تسمح بإستخلاص بعض النتائج التي حققتها حركات التغيير العربية وقد تساعد على رؤية المسار الذي تمضي فيه البلدان المنتفضة، تونس... تقدّم بسرعة السلحفاة تونس هي أول من أشعل شرارة الثورة التي إنطلقت تلهب الجيران شرقا وغربا وتقفز شعلتها إلى اليمين والبحرين ومصر وليبيا قبل أن تحط الرحال وتستقر بسوريا لتحولها إلى كرة لهب تحرق بلاد الشام بمن فيها. والحقيقة أن الثورة التونسية الخاطفة كانت الأنجح والأقل خسائر، وقد ساهم فرار الرئيس زين العابدين بن علي بكل تأكيد في حقن الدماء وعدم اتخاذ الوضع مسارات تصعيدية خطيرة كالتي شهدتها الدول التي تمسك فيها الحاكم الديكتاتوري المستبد بالسلطة. لكن رغم أن جسد البوعزيزي الملتهب حرق النظام البوليسي الذي سكن قرطاج لأكثر من عقدين ورغم أن التونسيين هللوا لرحيل سلطة الطرابلسية التي عثت فسادا في تونس ونهبا لخيراتهم، واعتقدوا بأن الوضع سرعان ما ينتقل بهم إلى الإزدهار والعيش الرّغد الكريم بعد أن تمضي السنوات العجاف إلى حال سبيلها، فالذي ظهر أن النجاح الباهر للثورة لم يتكرر في إعادة بناء الدولة والإقتصاد وتحسين الوضع الإجتماعي والأمني رغم الجهود التي يبدلها قادة تونس الجدد. ومع أنّه تم إلى الآن قطع أشواط هامة في إعادة بناء مؤسّسات الحكم والتي ذهبت السلطة فيها إلى الإسلاميين، فإن تونس الخضراء مازالت تعيش مخاضا عسيرا على جميع المستويات وتواجهها تحديات كبرى، فجل المشاكل التي ثار الشعب من أجلها مازالت قائمة بل وتفاقمت وزادت حدة، كالبطالة وتأخر عجلة التنمية وانهيار قطاع السياحة الذي يقوم عليه الإقتصاد التونسي... كما أن صعود الإسلاميين إلى السلطة رغم أنه تم بإرادة شعبية لا غبار عليها، والقادة الجدد يُظهرون إعتقالا واضحا، فقد طفا إلى السطح مشكل السلفيين وما يحملونه من تطرف بدأت ملامحه تنعكس في الجامعات والشوارع وتنذر بأن خطرا حقيقيا أصبح يتهدد مُلهمة الثورات العربية خاصة بعد الكشف قبل أيام عن تصفية مجموعة مسلحة في الجنوب. ورغم كل هذه التحديات والتهديدات تبقى الحالة التونسية الأقل سواء والأقرب إلى النجاح الكامل... اليمن ... رحل صالح وبقي النظام الحالة اليمنية مختلفة رغم تشابه ثورتها مع باقي الثورات العربية، والإختلاف، جسّده ذلك التشبّث الكبير للرّئيس علي عبد الله صالح بالسلطة ورفضه لأي تنازل أو رحيل. وقد ظل صالح يصارع الأمواج العاتية بقوة النار والسلاح، مما خلق حالة انسداد سياسي خطير وانزلاق أمني رهيب إمتد إلى محاولة اغتياله التي نجا منها بأغجوبة بعد أن أصيب بحروق خطيرة، لكن من حظ اليمنيين أن بلادهم الصغيرة والفقيرة تقع في الحديقة الخلفية للبلدان الخليجية الثرية التي أرهبها أن ترى النار تشتعل في محيطها، فسارعت إلى ارتداء بزّة الإطفائي. وأخمدت النّار بعد محاولات عديدة، كما وضعت من مبادرة التسوية والانتقال في اليمن، قشة النجاة التي أنقذت علي عبد الله صالح من أي متابعة أو عقاب وهكذا تنازل صالح عن السّلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي الذي يقود المرحلة الانتقالية المقرر أن تدوم سنتين وتتوّج بإعادة بناء مؤسسات السلطة وتنظيم اقتراع رئاسي ديمقراطي. وإذا كانت الحالة اليمنية، كما نوى قد تم تطويقها بفضل التدخل الخليجي، فإن اليمنيين لم يتحسّسوا الى الآن طريق الخلاص وعملية الانتقال السلمي للسلطة تمضي بسرعة السلحفاة والأخطر أن نظام صالح مازال قائما يتحكم في مفاصل السلطة والجيش من خلال أبنائه وأقاربه الذين يجد الرئيس بالنيابة صعوبة كبيرة في إقالتهم وإبعادهم. كما لايزال الشعب اليمني يتخبط في حالة الفقر والعوز، واقتصاده ضعيف ومنهار واهتمام السلطة الانتقالية بشؤونه المستعجلة أمر مستبعدا ومؤجل مادامت منشغلة بملفات أمنية خطيرة تتصدرها الحرب على القاعدة، وقضية الحوثيين والحراك الجنوبي. صحيح أن الأزمة السياسية اليمنية انتهت بانفراج وتسوية سلمية نتمنى أن تتكرر اليوم في سوريا، لكن مخاض التغيير مازال مستمرا الى الآن، وشيئا مما حلم به الشعب لم يتحقق وقد لا يتحقق قريبا بالنظر الى الصعوبات المادية التي يواجهها اليمن. البحرين.. لا ثورة في الخليج فاجأت انتفاضة دوار اللؤلؤة القيادة في المنامة ومعها دول الخليج العربي التي فزعت وهي ترى النار تشتعل في عقر دارها، فحرّكت ذرع الجزيرة بسرعة فائقة واجهضت الثورة في مهدها وهي بالأساس تقوم على مطالب سياسية ومذهبية، وباشرت السلطات البحرينية سلسلة اصلاحات مازالت لم تأت أُكلها، ومازالت لم تخمد لعب الثورة الذي نراه يرتفع من حين لآخر في محاولات يائسة وبائسة من المنتفضين ورغم الهدوء الذي تعيشه البحرين، فهو كالسكون الذي يسبق العاصفة والتي قد تضرب من جديد إذا فشلت الاصلاحات في تلبية مطالب الشيعة. ليبيا.. التّيه في دائرة مغلقة لقد كانت الثورة الليبية الأكثر دموية بين الثورات العربية والأكثر تميزا وإثارة لردود الفعل المتناقضة خاصة وأنها شهدت تدخلا عسكريا غربيا أطاح بالقائد معمر القذافي الذي تشتت بالسلطة ورفض مغادرتها إلا إلى قبر مجهول. ومثلما كانت عملية الاطاحة بالزعيم الراحل صعبة وشاقة، فإن إعادة بناء ليبيا الجديدة تبدو أكثر صعوبة بالنظر الى الألغام التي زرعها القذافي طول سنوات حكمه الأربعين ولعل القبلية وصراعاتها اللامتناهية ثم لغم المليشيات المسلحة التي استغلت حالة الفوضى والفلتان الأمني الذي أصبحت تعيشه ليبيا لتتحول الى دويلات داخل دولة تزرع العنف والتوتر وتفرض قوانينها وقراراتها بقوة النار والسلاح. كما برزت الى السّطح حالات الانتقام والحجز والتعذيب، وخرجت ليبيا من ديكتاتورية الفرد الى فوضى المجموعات والميليشيات وبات الأمن والاستقرار الغائب الأكبر، وتبدو جهود إعادة بناء النظام والاقتصاد والمجتمع متباطئة وفي المقابل تسير عملية تفتيت ليبيا بسرعة فائقة من خلال مبادرات الحكم الفيدرالي المعلنة هنا وهناك. ورغم الاستعداد الحثيت لإجراء انتخابات البرلمان في بداية الشهر القادم، فإن محاصيل الثورة الليبية لا تبدو ناضجة بل لا تبدو بالجودة التي يُريدها الشعب الليبي. مصر.. الإسلاميون يحصدون الثمار إضافة الى الثورة التونسية، كانت ثورة 25 يناير ناجحة بكل المقاييس حيث أجبرت حسني مبارك على التنحي وتسليم السلطة للمجلس العسكري الذي وجد صعوبة كبيرة في مواجهة التحديات التي تمخضت عن سقوط نظام ظل يحكم بقوة وتقف طيلة ثلاثة عقود. وقد استمرّت حالة الشد والجذب تضع أمن واستقرار مصر على كف عفريت ووقعت عدة أحداث دموية لعلّ أخطرها المذبحة التي وقعت في ملعب بور سعيد ومواجهات الاسماعيلية ومجلس الوزراء والمايسبيرو.. ولن تهدأ الأوضاع بأرض الكنانة طيلة سنة ونصف وزادتها تعقيدا وتصعيدا مسألة محاكمة مبارك ومجموعته الفاسدة والأحكام الصادرة في حقهم، ثم مسألة الاستحقاقات، حيث جرت الانتخابات التشريعية في الخريف الماضي وفاز فيها الاسلاميون وأقر الجميع بنزاهتها، قبل أن يطعن المجلس العسكري في قانونيتها عشية تنظيم جولة الاعادة من الرئاسيات التي توّجت مرشح الإخوان محمد مرسي رئيسا للجمهورية الثانية. كما جاء الإعلان الدستوري المكمل الذي يقتطع صلاحيات من الرئيس ويمنحُها للعسكر، ليدخل مصر في متاهة من الاحتجاجات والاعتصامات التي رهنت اقتصاد مصر ودحرجته الى الوراء وزادت الأوضاع الاجتماعية تعقيدا ولهيبا، حتى أصبح الكل يتساءل هل بمقدور الرئيس الجديد أن يواجه هذا الكم الثقيل من التحديات والمشاكل المطروحة على كل الأصعدة ؟ الثورة في مصر نجحت في الاطاحة بمبارك، لكنها الى الآن مازالت تتحسس طريق الخلاص وإعادة بناء دولة ديمقراطية قوية، والمهمة لا تبدو سهلة بالمرة، بل ستكون شاقة وتستغرق وقتا كبيرا وتضحيات أكبر، وسوف تُطرح مسألة مقدرة الاسلاميين على إدارة دواليب الحكم وهم الذين ظلوا خارج سرب السلطة، بل وفي الجهة المعارضة طيلة العقود الماضية. سوريا.. هل الثورات العربية عفوية؟ تبدو الثورة السورية الأكثر طولا وتعقيدا وخسائر، كما تبدو طريقها غير واضحة المعالم خاصة وأن المواجهة لم تعد محصورة بين السلطة والمعارضة بل توسعت دائرتها بدخول أطراف خارجية عديدة الى حلبة الصراع واختلط الحابل بالنابل واقترب الوضع من الحرب الأهلية وابتعد عن الحلول السلمية خاصة مع إصرار بعض الدول العربية والغربية على تأجيج الأزمة والدفع بها نحو التدويل وتكرار سيناريو التدخل العسكري في ليبيا وهو خيار مأساوي سيظل الليبيون يدفعون ثمنه طويلا، لكن الفيتو الروسي الصيني استطاع الى حد الآن كبح جماح المصعدين واجهض كل محاولات دفع مجلس الأمن الى تبني الخيار العسكري، مما أرغم المعارضة السورية ومن يمدّها بالسلاح ويدعمها بالتغطية الإعلامية الضالة والمنحازة والمؤجّجة على الاسترسال في التصعيد، لتدخل المجموعات المسلحة والجماعات الارهابية على الخط وتنفذ أبشع المذابح والجرائم والتفجيرات التي يدفع ثمنها السوريون الأبرياء ليصبح الجميع يتساءل عن المنحنى الخطير الذي تأخذه هذه الثورة وعن أهدافها الحقيقية، والواقفين وراءها. بل ويتساءل عن جدوى هذه الثورة والثورات العربية الأخرى التي وإن استطاعت اسقاط بعض الديكتاتوريات، فإن المقابل كان باهضا سواء فيما يتعلّق بالخسائر البشرية أو المادية، وحتى الاستقرار أصبح غائبا في دول ما يسمى بالربيع العربي الذي جاء بالاسلاميين الى السلطة وجعل الكثيرين يتساءلون هل هذا الحصاد في مستوى التضحيات الجسام التي قدمتها الشعوب العربية، وهل القيادات الاسلامية الجديدة المنبوذة شرقا وغربا ستنجح فيما فشلت فيه الأنظمة البوليسية القمعية التي كانت تعيش في أحضان الغرب وتأتمر بأوامر، وهل بالامكان إعادة بناء ما تدمر وانهار وتأخّر.؟ وبعيدا عن التشاؤم الذي يفرض نفسه علينا ونحن نقف على حصاد عام ونصف من الحراك العربي، نتمنى أن تجتاز بلاد الربيع العربي أزماتها وتستعيد استقرارها وتنهض قوية تشق طريق التنمية والتقدم بسواعد الشباب الذي أثبت قوته ووطنيته، لكن للأسف جاء من يسرق تضحياته ويضعه على الهامش.