عوامل كثيرة شاركت في صياغة كل شكل من أشكال تلك الثورات. لو كان الجيش التونسي يحظى بثقل الجيش المصري على الساحة السياسية لرأينا مسارا مختلفا عن المسار الذي نراه اليوم وهو تقاسم للسلطة بين تيارات مختلفة إيديولوجيا. أحدثت تلك التيارات فيما بينها توازنا قد لا يتحقق في مصر حيث التوازن الحقيقي هو بين الجيش والإخوان والمسلمين، لا بين الإخوان المسلمين والليبراليين مثلا الذين لا يتمتعون بوزن يسمح لهم بالتأثير على شكل الثورة المصرية. طبيعة النظام الحاكم في تونس قبل رحيل زين العابدين بن علي مثلا مختلفة عمّا كانت عليه طبيعة الحكم في ليبيا. كان هناك تعاون واضح بين الحلف الأطلسي والثوار الليبيين المسلحين. التدخل الخليجي في البحرين واليمن هو عامل أساسي أثّر مباشرة على طريقة التعاطي مع الاحتجاجات. ما هي أنجح الثورات العربية؟ لا بد من تحديد شروط النجاح أولا. لنعتمد هذه: سقوط النظام ومحاسبة وجوهه البارزة، التغيير السلمي من الداخل والدخول في مسار انتخابي مع احترام القانون وحقوق الإنسان. تبدو تونس الأنجح، متبوعة بمصر. إن تنحى علي عبد الله صالح، سيكون اليمن ثالث نموذج. النموذج السوري قد يكون الرابع. سقط القذافي في ليبيا، ولكن سقوطه لم يكن بفعل الثوّار فقط. ما الذي حققته تلك الثورات لشعوبها؟ بعد مرور عام كامل على انطلاق موجة الثورات العربية، لا بد من وقفة تحليلية لفهم ما حدث. أكبر إنجاز هو شعور الإنسان العربي بقدرته على التحكم في مصيره كغيره من مواطني العالم. الإنجاز الثاني هو احترام الشعوب الأخرى للشجاعة العربية. ثالثا، تحركت خطوط المواجهة بين الأنظمة الفاسدة وشعوبها إذ بدأ الخوف يتغلغل في نفوس الجاثمين على صدور المواطنين العرب. همجيتهم دليل على الرعب الذي يشعرون به. بدأت قلاعهم تتهاوى. انتهى عهد الاستغباء. تعددت الشعارات والمطالب، فما الأسباب الرئيسية للاحتجاجات؟ يخطئ من يظن أنها ثورات شعوب جائعة تعبت من انتظار لقمة العيش. بالعكس. يقول المثل الشعبي الجزائري: "الجوع يعلّم السقاطة". الجوع يقتل في النفس القدرة على المواجهة ويحوّل الجائع إلى خادم لمن يطعمه. الأنظمة هي الجائعة. لذلك، رأيناها في حالة من التسول والتبعية لحكومات غربية توهمها بإطعامها وتبيقها جائعة لتستعبدها أكثر. ما معنى أن يكون النظام جائعا؟ ألا يجد ما يشبعه. النضج السياسي هو السبب الرئيسي لهذه الاحتجاجات. الشعوب ناضجة، لا جائعة. النّضج هو أهمّ ما يميّزها. الشعوب العربية أعطت للعالم أشكالا من الاحتجاجات استوقفت العقول الذكية. هل تقع مسؤولية الفساد والتنكيل بالشعوب على الزعماء فقط؟ قال الرئيس التونسي المخلوع قبيل فراره من تونس: "غلطوني". سؤالنا هو: "شكون غلّطك يا الزين؟". سيوضع اسم بن علي ضمن قائمة سوداء في التاريخ العربي. ولكن العار الذي لحق به قد لا يمس من كانوا حاجبا بينه وبين شعبه. أولئك الذين "غلطوه" أظهروه كطاغية عديم الحس لا يبالي بمعاناة الناس. ربما كان الرجل فعلا عديم الحس، ولكنه استند إلى نظام كامل ركائزه قائمة إلى اليوم وهي متسترة وتنتظر توظيفها في نظام آخر يسمح لها بالاصطياد في الماء العكر من جديد. وفي نفس الاتجاه، ستحتفظ الصفحات الوسخة من التاريخ بالثلاثي حسني، وجمال وعلاء كحثالة وسينسى المصريون أسماء أخرى ربما كانت أكثر احتقارا له من هذا الثلاثي المهزوم. هؤلاء "الأشباح" يتحركون في الخفاء، بل لديهم القدرة على إجهاض الثورة إن لم ينتبه لهم أحد. ما الذي ستحتفظ به الذاكرة العربية من هذه الثورات؟ ستحتفظ بصورة الشّاب المحتج الذي يصرخ في وجه الطاغية ولا يخشى بطشه. ستحتفظ كذلك بغباء بعض الأنظمة التي لم تفهم أنها ستنهار ففضلت تدمير بلدانها والتمادي في القتل. لن ننسى الجملة الشهيرة للمحامي التونسي الذي خرج إلى الشارع قائلا: "بن علي هرب". سنتذكر صورة حسني مبارك ملقًى على سريره في قفص الاتهام. طبعا، يصعب نسيان كلمة جرذان في فم معمر القذافي الذي انتهى به الأمر في قنوات صرف المياه. جملته الشهيرة "زنڤة، زنڤة، دار، دار" ستبقى في الأذهان كجملة أراد التخويف بها فأضحك الجميع. وما دامت تونس هي التي بدأت هذه الموجة، فال بد من تعليم قصيدة "إرادة الحياة" للأجيال العربية اللاحقة. قال أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر. احفظوها يا عرب. هل هي ثورات قامت من رحم الشعوب العربية أم هي مفتعلة حركتها أطراف أجنبية؟ الاحتجاج داخلي، أما التدخل الخارجي فهو مفهوم. المواطنون الذين فقدوا أعينهم عندما كانوا يُضربون بالرَّصاص المطَّاطي والخرطوش في ميدان التحرير، كانوا مصريين. رجال الشرطة الذين هجموا على المتظاهرين مصريون كذلك. الغبن الاجتماعي في حي امبابا بالقاهرة، والملاسين في تونس غبن محلي لا علاقة له بأي تدخل أجنبي. يعيش في بعض الأرياف التونسية مواطنون لا يعرفون الكهرباء ولا الماء. هذا إفلاس الأنظمة المحلية ولا علاقة لهذا الإهمال بأي تدخل أجنبي، ولكننا نعيش في عالم متداخل المصالح. كل الدول، مهما تفاوتت قوتها، مهتمة بما يجري حولها. دول الخليج قلقة لما يجري في اليمن والبحرين ولا غرابة في سعيها إلى إبقاء مخاطر تلك الأحداث خارج حدودها. للدول الغربية قدرة على التدخل بعيدا عن حدودها لأن قدراتها تسمح لها بالتأثير عن بعد جلبا للمصلحة أو استبعادًا لما لا ترضاه. من السذاجة القول إن الأجانب لا يتدخلون، ولكن الشعوب تصنع مصائرها إن أرادت ذلك. اتهام الخارج بتحريك الشعوب العربية مبالغ فيه. كيف تصرفت الأنظمة الملكية العربية أمام هذه الثورات؟ تاريخيا، الثورة تعني سقوط الملك. الفرنسيون قطعوا رأس الملك في طريقهم نحو الجمهورية. طبعا، كلمة الثورة ذاتها تزعج الأنظمة الملكية. منذ عام، ارتفع الضغط الدموي لدى الملوك والأمراء العرب وما عملية درع الجزيرة في البحرين إلا دليل على الخوف من عدوى الثورات. ومن المفارقات أن دول الخليج دعت سوريا إلى وقف القتال وسحب "آليات الدمار" من المدن في مبادرة فهمنا منها أنها ترمي كذلك إلى صرف الأنظار عن هموم المواطنين الخليجيين. فكرة ضم الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي طريفة ولكنها بيّنت تضامنا بين الأنظمة الملكية، ولا غرابة بعد ذلك أن تعطي لهذا التضامن غطاء قانونيا إن استعانت بجيوش بعضها البعض لقمع الشعوب. تتميز الأنظمة الملكية العربية عن غيرها من الأنظمة الأخرى بكونها واضحة مع شعوبها حول طبيعة حكمها. يجب الاعتراف بذلك. هي أنظمة ملكية وتقول ذلك بوضوح. عندما كان حسني مبارك يسعى إلى توريث الحكم لابنه جمال، لم يصارح شعبه بذلك. راح النظام يراوغ وينافق ويستغبي الشعب المصري لتحقيق هذا الهدف المقيت. مات حافظ الأسد، فخلفه بشار. سيف الإسلام كان يمشي على خطوات معمر القذافي. وهكذا دواليك. الأنظمة الدكتاتورية العربية شبه ملكية ولا تعترف بذلك، فهي تعامل الشعوب كالقطعان. هل الأنظمة الملكية في خطر؟ نعم. مصر كانت ملكية. ليبيا كذلك. مصير الملوك المخلوعين كابوس دائم للملوك والأمراء الآخرين. ارتفعت في البحرين أصوات تدعو صراحة إلى سقوط الملك. الأنظمة العربية كلها في خطر ولا تستثنى منها الأنظمة الملكية. يحظى النظام السعودي بحماية أمريكية منذ ميثاق كوينسي في 1945. كان ينصّ على استثمار الولاياتالمتحدة للنفط السعودي مقابل حماية عسكرية ضد العدوان الخارجي. من يحمي النظام من غضب الشعوب؟ الحكومات الغربية فهمت أن دعمها لبعض الأنظمة يفسد علاقاتها المستقبلية بالشعوب. الغرب براغماتي وقادر على صناعة تحالفات جديدة تحمي مصلحته. لا يوجد شيء اسمه "الوفاء" في العلاقات الدولية. التخلي عن الحليف لا يسمى "خيانة" في لعبة المصالح الدولية. وصول الإسلاميين إلى الحكم. هل هذا ممكن وإلى أي مستويات؟ من الأفكار الذكية التي سمحت للأنظمة المتسلطة بالدوام، مستفيدة من دعم الحكومات الغربية، التلويح بخطر أصولي وشيك. نجحت لوقت طويل في الظهور كأخف الضررين. لسان حالها: ضرر الأصوليين الذين يقطعون الرؤوس أم ضرر حكام يضيّقون على الحريات؟ جماعات تعيد مجتمعات بأكملها إلى العصور الوسطى أم ضبّاط يكمّمون الأفواه ويضعون بين الفينة والأخرى بعض القطع الذهبية في جيوبهم بعد استخراجها خلسة من المال العام؟ التخويف من الإسلاميين أطال عمر تلك الأنظمة البشعة. معادلة "عدو عدوي صديقي" جلبت للإسلاميين تعاطفا من جماهير كرهت الأنظمة. رأينا ذلك بوضوح في الانتخابات الأخيرة. رئيس الحكومة التونسية إسلامي. سنرى ما يميّزه عن غيره. أكبر خطر هو اقتتال الإسلاميين فيما بينهم على الحكم. الشعوب العربية لا تأتمر كلها بأوامر الإسلاميين، ولكنها شعوب مسلمة بالأغلبية. لا بد من الحديث عن علاقة الإسلام بالسياسة بدون عقدة. المؤسسة العسكرية المصرية: شريك في السلطة أم حكم استبدادي جديد؟ الجيش المصري نفسه يبحث عن دوره. لقد وجدت المؤسسة العسكرية نفسها أمام الأمر الواقع الذي فرضه الثوار وهي تناور لتتحكم في الوضع. بالأحرى، تناور لتحتفظ بالقرار الذي لم تفقده أبدا لأن الرؤساء المتعاقبين على مصر كانوا كلهم من العسكر. إنها قضية تقاليد ومعروف أن التقاليد لا تزول بسهولة، بل تتحول أحيانا إلى عادات سيئة. صورة المرأة التي يكشف العسكر عورتها فيظهر لباسها الداخلي وهي ملقاة على الأرض، وتتلقى ركلات في البطن، تكفي لإظهار خطورة العسكري الذي لا توقفه قوة رادعة عند حدّه. كان المتظاهرون المصريون يهتفون في يناير: "الجيش، الشعب، يد واحدة". يقولون اليوم: "يسقط حكم العسكر". تطوّر مخيف. الارتباك مخيف كذلك. قال لي ضابط مصري سام متقاعد: "الجيش خايف يضرب الناس يزعلو منو". فعلا، هذه هي الأجواء حاليا في مصر. ماذا عن دور الجيش التونسي؟ لعب الجيش التونسي دورا في الثورة التونسية، ولكنه لا يملك قوة الجيش المصري السياسية. طبيعة النظام التونسي السابق مختلفة لأن تاريخ البلدين مختلف. الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر شخصيتان مختلفتان. بورقيبة لم يكن ضابطا قام بانقلاب ضد ملك، كما كان الأمر في مصر في 1952. الدولة المدنية التي أقامها الزعيم التونسي الراحل لم تترك للجيش نفوذا قويا. بعض الدول تستغني أصلا عن القوة العسكرية، كما هو الحال في كوستاريكا التي لا تملك جيشا. تونس اليوم في وضع أمني صعب بسبب حدودها مع الجزائر وليبيا. تدفق الأسلحة عبر الحدود الليبية واردٌ والجيش التونسي بحاجة إلى مساعدة. للأنترنت والشبكات الاجتماعية دور أساسي. كيف حدث ذلك التأثير؟ الأنترنت إعلام الفقراء. كل شاب عربي يملك اليوم هاتفا جوالا مجهزا بكاميرا. من يخبرنا بما يجري في سوريا لولا هذه الوسائل؟ انتظم الناس في شكل جماعات ذات اهتمامات مشتركة وهم اليوم يخاطبون بعضهم البعض ك"أصدقاء" من خلال الفايسبوك. يضربون لبعضهم البعض مواعيد بسرعة خاطفة وعجزت الأجهزة الأمنية عن مراقبة هذه الاتصالات. الحل الوحيد بالنسبة لها هو التضييق على الشبكة أو قطعها، كما حدث في مصر قبل عشرة أشهر. إجراء سخيف يشبه قطع الماء أو الكهرباء. ما محل الجزائر من الربيع العربي؟ الجزائر عاشت ربيعها قبل عشرين عاما، وكانت انطلاقته في أكتوبر 1988. خرج المحتجون إلى الشارع وأجبروا النظام على الدخول بالبلاد في مرحلة جديدة ميزتها الأساسية الانفتاح. بدأت حينئذ التعددية الحزبية والإعلامية. توقّف العرس الديمقراطي بُعَيْدَ انطلاقه ودخلت الجزائر في عنفٍ لم ير العرب مثله. عاشت الجزائر سيناريوهات نرى بعضها اليوم في بلدان عربية تقول شعوبها: لماذا لا يثور الجزائريون؟ الجواب بسيط: ثار الجزائريون وتعبوا من حرب داخلية استنزفتهم. بأي شكل يمكن للعرب الاستفادة من التجربة الجزائرية؟ لا بد من الاستفادة من أخطاء التجربة الجزائرية، قبل كل شيء. أهم هذه الأخطاء: عدم الحسم في موضوع حساس جدا هو علاقة الدين بالدولة. إيجابيات التجربة الجزائرية كثيرة وأبرزها كسر جدار الخوف. وقف الجزائريون في وجه الظلم خلال الاستعمار الفرنسي، فاستحقت الجزائر لقب قلعة الثوار. كانوا سباقين على درب الحرية السياسية. حدث هذا قبل عشرين عاما. بعد ذلك، خاضوا تجربة مؤلمة مع الإرهاب. رغم كل هذا، يتساءل عرب كثر: لماذا لا يتحرك الجزائريون اليوم؟ أثبتت التجربة العربية أن التحرك الجزائري مفاجئ وقوي. الفيلم الجزائري مثير دائما. نعم، العرب ينتظرون إنتاجا سياسيا جزائريا. * صحفي جزائري يشغل منصب كبير المراسلين في قناة فرانس 24. قادته تغطياته ل"الربيع العربي" إلى عدد من البلدان العربية وكانت مصر محطة بارزة في حياته. اعتقلته الشرطة العسكرية وتعرض للضرب والإهانة في المراكز الأمنية المصرية. عاد إلى مصر فيما بعد وتغطياته مستمرة..