لم يعد يفصل الليبين عن تحقيق حلم ليبيا جديدة سوى بضعة أشهر لبلوغ آخر أهداف الحوار السياسي الذي ترعاه الأممالمتحدة وهو تنظيم الانتخابات. وتبدو كل الظروف مهيأة نحو هذا النهج التصالحي لتوحيد مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، الذي تقوده سلطة تنفيذية جديدة نالت ثقة كل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي. خطت ليبيا خطوة مهمة على طريق استعادة الاستقرار وتحقيق السلام الداخلي بعد موافقة البرلمان، الأسبوع الماضي، بأغلبية كبيرة، على منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية الجديدة التي اقترحها رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، والتي تشكلت بعد توافقات سياسية توصلت إليها الأطراف المشاركة في الحوارات التي عقدت برعاية الأممالمتحدة لإنهاء عقد من الفوضى والعنف، مسدلة بذلك الستار على نحو 5 سنوات من عمر حكومة الوفاق المنتهية ولايتها. أهمية الخطوة الليبية الجديدة لا ترجع فقط إلى أنها تضع حدا لحالة الصراع والفوضى والانقسامات التي تشهدها ليبيا منذ عشر سنوات والتي أضرت بالليبيين بكل فئاتهم، وجعلت الأراضي الليبية مرتعا خصبا لجماعات التطرف والإرهاب والمرتزقة الأجانب، وساحة مهمة لمحاولات فرض النفوذ والهيمنة من قبل بعض القوى الإقليمية، وبددت ثروات الشعب الليبي النفطية والاقتصادية التي ظلت على الدوام عرضة للنهب والاستنزاف من قبل المليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة، وإنما أيضا لعوامل أخرى عدة، من بينها حالة التأييد الدولي الواسع الذي حظيت به هذه الحكومة من قبل المجتمع الدولي عامة، والدول الفاعلة في المشهد الليبي خاصة، والذي يعزز التفاؤل بقدرتها على تحقيق الآمال المعقودة عليها، ليبيا وعربيا ودوليا، في إخراج هذا البلد العربي من حالة الفوضى والانفلات التي عاناها طيلة العقد الماضي، وأداء المهام الرئيسية المكلفة بها ولا سيما تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة في ديسمبر 2021، ثم نقل السلطة إلى القادة المُنتخبين ديمقراطياً في ليبيا، والتنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020، وبدء عملية المصالحة الوطنية وتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب الليبي. في الخامس من فبراير 2021، انتخب المشاركون في الحوار الليبي خلال اجتماعات في جنيف برعاية الأممالمتحدة، الدبيبة رئيس حكومة للفترة الانتقالية، مع مجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء. وما يؤكد أن كل المؤشرات تصب لصالح المصالحة الوطنية، هو وعد خليفة حفتر، بعد أيام، بدعم عملية السلام وذلك خلال لقاء مع رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي. وبدأت الأوضاع تتجه الى الحلحلة، حيث استؤنفت في 9 مارس، الرحلات الجوية بين مدينتي بنغازي (شرق) ومصراتة (غرب) اللتين تسيطر عليهما سلطتان متنافستان بعد توقف استمر سبع سنوات. ومن بين أهم مهام الدبيبة، العمل على توحيد مؤسسات الدولة المنقسمة، وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من البلاد، وتعزيز المصالحة الوطنية، ومعالجة الاقتصاد والسعي إلى تمهيد أرضية لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نهاية العام الجاري، وفق خارطة الطريق المحددة من قبل لجنة الحوار السياسي. ويترقب الليبيون عمل التشكيلة الحكومية المختارة وفق الدوائر الانتخابية، وسط تفاؤل بتحقيقها النجاح في الفترة القصيرة المتبقية من هذا العام، وسط تحذيرات من أن فشل الحكومة قد يؤدي إلى إعادة الاقتتال والحرب والصراع الإقليمي والدولي على ليبيا. إجماع شكل إجماع مجلس الأمن حول ليبيا أول إشارة من المجتمع الدولي لإنهاء الأزمة والصراع القائم بين سلطتين واحدة في الشرق واخرى في الغرب، وكان القرار الأخير للمجلس بمثابة الضوء الأخضر لتحقيق تحول عميق في البلاد، تجسد في البلداية بدعوة الرئيس الأمريكي جوزيف بادين، روسيا وتركيا الى إخراج قواتهما من الأراضي الليبية، في تحول كبير للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، رغم ان إدارة البيت الأبيض بزعامة الديمقراطيين في عهد أوباما، شاركت في إسقاط الدولة الليبية تحت ذريعة حماية الشعب الليبي من نظام الزعيم معمر القذافي. الإجماع الدولي داخل مجلس الأمن، وللمرة الأولى، على سحب كافة قوات المرتزقة من ليبيا تمهيدا لإعادة الاستقرار لهذا البلد، الذي أنهكته الحروب المتواصلة منذ سنوات. لكن متابعين يرون ان دعوات مجلس الأمن ستظل بلا قيمة تذكر، طالما أن المجلس لا يملك مخالب وأنيابا يستطيع معها أن يحول أمنياته إلى حقائق على الأرض. إذ لا يمكنه أن يتدخل بالقوة العسكرية لإعادة الاستقرار إلى ليبيا، وهو الأمر الذي لا يريده الليبيون أيضا. مراقبون في مطلع فبراير، طلب مجلس الأمن الدولي من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، نشر مراقبين للإشراف على وقف إطلاق النار في ليبيا. وأوصى غوتيريش في نهاية 2020، بتشكيل مجموعة مراقبين غير مسلحة مؤلفة من مدنيين وعسكريين متقاعدين من دول الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. ووصل نحو عشرة أشخاص، في مطلع مارس، الى طرابلس للإعداد لمهمة الإشراف على وقف إطلاق النار المطبق في ليبيا منذ أشهر والتحقق من مغادرة المرتزقة والجنود الأجانب المنتشرين في البلاد والذين كان عددهم نحو 20 ألفا في مطلع ديسمبر بحسب الأممالمتحدة. تحديات استعادة المشهد الليبي لحالة الاستقرار الكبيرة، تؤكد وضع قطار المصالحة على السكة الصحيحة. وأمام السلطة التنفيذية الجديدة طريق معبدة نحو إصلاح المؤسسات الاقتصادية، وإعادة الحياة تدريجيا الى طبيعتها. لكن في نفس الوقت يرى محللون أن الحذر يظل قائما، ولا سيما في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجه حكومة الوحدة في مساعيها لتحقيق المهام المعقودة عليها، سواء فيما يتعلق بإعادة الأمن والاستقرار لربوع البلاد وإنهاء حالة الانقسام السياسي، أو إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد وإعادة بناء ما دمرته الحرب، والتحضير لإجراء الانتخابات المقبلة، وتفكيك شبكات المليشيات المسلحة التي تعمل داخل الأراضي الليبية. وهذا التحدي الأخير تحديدا المرتبط بتفكيك المليشيات المسلحة وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، يشكل في تقدير الخبراء العامل الأكثر أهمية لضمان نجاح الانتقال بليبيا إلى مرحلة الدولة المستقرة التي تفرض سيادتها على جميع أراضيها، لأن هذه المليشيات هي التي عززت حالة الفوضى في المشهد الليبي، وهو تحدّ ليس بالسهل، في ظل استمرار وجود ما يقرب من آلاف المرتزقة على الأراضي الليبية. وفي ظل المشكلات التي لا تزال تثيرها هذه المليشيات، ومن ذلك الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس بين كتيبتين من المليشيات الموالية لحكومة الوفاق المنتهية ولايتها قبل أيام وبعد يوم واحد فقط من إعلان رئيس المجلس الرئاسي الجديد، محمد المنفي، مباشرة مهامه رسمياً للمرة الأولى فيها. ورغم خطورة هذا التحدي، فإن حكومة الدبيبة تحظى بدعم دولي قوي لحسم هذا الملف. فعقب منح الثقة لهذه الحكومة، دعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى «الخروج الفوري» لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا. كما دعا مجلس الأمن الدولي، في إعلان تبناه بالإجماع، إلى «انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا دون مزيد من التأخير»، وكذلك الحال بالنسبة للدول الأوروبية والعربية التي أكدت على أهمية تحقيق هذه الخطوة، كأساس لاستعادة ليبيا أمنها وسيادتها واستقرارها، وتجاوز العشرية السوداء التي شهدتها بعد «الربيع العربي». الجوار ويشكل دور دول جوار ليبيا أمل ثقة وتعول السلطة الجديدة في دول الجوار كثيرا لمرافقة مسار الحوار السياسي. وعقب مباشرة حكومة الوحدة الوطنية مهامها رسميا، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد زيارة الى ليبيا هي الأولى من نوعها منذ 2012. كما تشكل علاقات ليبيا مع الجزائر أرضية تشاور دائم حول تعزيز الشراكة الاقتصادية لمرافقة طرابلس في إعادة الإعمار وتعزيز علاقات شراكة متميزة، حيث من المرتقب أن يزور رئيس حكومة الوحدة الوطنية الجزائر في الأيام القليلة القادمة، في حين تؤكد مصر دعمها للسلطة الجديدة لتحقيق الاستقرار، وبذلك يكون شبه إجماع لدول الجوار على دعم المصالحة الليبية بكل الآليات المتاحة.