«شهيّة» الثّقافة لا تأتي بقرارات..لكن تُبنى على المدى الطّويل وبجهد كبير بكتابه «مخرجات السينما الجزائريات»، الصّادر عن دار «الوطن اليوم»، يسجّل النّاقد السينمائي والشّاعر والكاتب الصحفي محمد عبيدو حضوره في الصالون الوطني للكتاب، في انتظار صدور أعمال جديدة له في السينما والأدب والشعر..سألنا عبيدو عن بعض الزوايا في كتابه، وعن إسهام المرأة في السينما الجزائرية والعربية، وعن صعوبة الكتابة للنقد السينمائي، كما سألناه عن الثقافة والكتاب والنشر في زمن الجائحة، ومدى فعالية «الثقافة الافتراضية»، فكان هذا الحوار.. - الشعب: تقول في مقدّمة كتابك «مخرجات السينما الجزائريات»، إنّ اقتحام المرأة العربية لمجال الإخراج لم يكن سهلا. من خلال دراستك للموضوع، هل اقتحمت المخرجات عالم الإخراج السينمائي فقط على سبيل التحديّ، أم أنهنّ نجحن في تقديم قيمة مضافة للفن السّابع؟ النّاقد السّينمائي محمد عبيدو: الملاحظ أن النساء كمخرجات أصبحن يلعبن دوراً ذا أهمية متنامية في السينما العربية المعاصرة، ويخلقن لغة سينمائية جديدة بالغة التعبير في ميدان متوتر بين مجتمع أبويّ ونزعة أصولية من ناحية، وحركة التحرر الإنساني من ناحية أخرى. هذا التعبير السينمائي الذي تنتجه المرأة بتعبيراتها المصاغة من خلال اللغة السينمائية التي اتسمت بجرأتها الشديدة، والتي أتت لتخلخل الثوابت السائدة وتتمرد على سلطة النموذج التقليدي في اهتمامها بقضايا التاريخ وقوة طرح للهوامش النسوية، واستمرار الأسئلة القلقة التي تطرحها المخرجات على عوالم المجتمع والثقافة. ومن الأمثلة التي تناولتُها الجزائرية آسيا جبار، التي فتحت أمام النساء الجزائريات باب السينما في وقت كانت فيه الصورة تستعصي على التناول النسائي. فلم يكن اقتحام المرأة العربية لمجال الإخراج سهلا، خاصة أن المجتمعات لدينا تعتبر هذا المجال حكرا على الرجال بسبب صعوبة وقسوة ظروف العمل..غير أن المخرجات العربيات قبلن التحدي رغم المشكلات العديدة التي واجهتهن، سواء في نظرة المجتمع لن أوفي علاقتهم بالرجل بوصفه آخر، وبتعبيرهن عن قضايا وطنية وقومية (فلسطين الحرب الأهلية في لبنان الدمار والتطرف والإرهاب في سوريا) أو القضايا الخاصة بعادات وتقاليد المجتمع كالعذرية التي تعدّ من المحرّمات، إضافة إلى التحرر والحداثة والحمل غير الشرعي. وتمكّنّ من فرض وجهة نظرهنّ عن المرأة في كمّ كبير من الأفلام، سواء فيما يخص الأفلام الروائية أو الوثائقية، والتي استقبلها الجمهور والنقاد باهتمام. - جمعت في كتابك بين المخرجات الجزائريات وذوات الأصول الجزائرية..هل أثّرت بيئة هذه المجموعة أو تلك على الأعمال السّينمائية؟ أكيد هناك فرق، فالبيئة تساهم بتشكيل رؤية ولغة صانعة الفيلم، من يعيش في الوطن يكون أقرب لمشاكل وهموم وانكسارات وأحلام الناس المحيطين به، ومثل هذه التجارب تنبئ بتزايد اهتمام المرأة الجزائرية بهذا المجال وجرأتها لطرح مواضيع خاصة بها، لا يمكن لأحد مكانها أن يعبر عنها، مرجعا هذا التطور لانتشار الوعي ومساهمة وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في تطوير مجال الإبداع والابتكار وتدعيم هذه التجارب التي بدأت تأخذ مكانها في العديد من المهرجانات، فالفضاء اليوم أصبح مفتوحا بشكل أكبر، ما يشجّع على ولوج وجوه نسائية جديدة، ممّن مضيْن بالاشتغال المنفتح، في اهتمامهنّ بقضايا التاريخ وقوة الطّرح للهوامش النّسوية، واستمرار الأسئلة القلقة التي تثار على عوالم المجتمع والثقافة، وهذا أمر مهم، وإن كانت درجة الحرية تختلف بتناول الموضوعات بين مخرجات الداخل والمهجر خصوصا فيما يتعلق بالتابوهات. في سينما المخرجات المهاجرات، نرى أنّه تتشكّل محاولة في السينما لمعالجة موضوع المرأة من حيث أزمة الهوية والبحث عن الدور المستقل والقرار الحر. ويأتي ذلك ضمن مقاربة لحياة المهاجرين الجزائريين الذين ينشأون نشأة جزائرية ويدينون بعادات مجتمعهم، وهذا لا يمنع أن بعضهنّ عُدْن إلى تفاصيل الوطن وهوامش التاريخ لمقاربة أحداث عاشتها بلادهنّ الأصلية بأعمال حملت رؤيتهنّ ولكن في بعض الأحيان تحت تأثير إملاءات المموّل الغربي لأفلامهنّ. - حينما نكتب للسّينما أو المسرح أو الموسيقى، نعبّر باستعمال الكتابة عن فنون أدائية تُرى وتُسمع..إلى أي مدى يزيد ذلك في صعوبة مهمّة الكاتب أو النّاقد؟ لا يمكن أن أتخيّل ناقدا سينمائيا ولا يتأثّر بالفيلم حدّ البكاء أحيانا..أي أن يعيش هذا العشق المجنون للسينما. وإن كنت أرى النقد السينمائي نوعية خاصة من فنون الإبداع تحتاج إلى دراسات مركبة ومتعددة سواء في السينما كمجال تخصص أو في المجتمع أو في منابع الشعر والجمال وفلسفته بوجه عام، فالنقد هو إنشاء نص موازٍ للنص السينمائي المرئي يغوصُ في مساحات الصور والرموز والدلالات، وحوار مع الأفلام السينمائية بمخيلة خاصة، حواراً معرفياً لا يبحثُ عن الحلول والقوالب الجاهزة بل يسعى إلى الإسهام في تفهّم السينما كفن وكتكثيف للحظة تاريخية واجتماعية وسياسية، وكفضاء واسع لأسئلة تشغل الفكر العربي. رغم الاختلاف بلغة التعبير بين فنون التعبير، باعتبار أن مسارها مستقل من حيث استخدامها لعناصر وأدوات مغايرة، فإنّ ما يجمع بين هذه الفعاليات التعبيرية يكاد يكون جوهرياً. يتمثل الجوهر هنا في منطقة التعبير وخلق فضاء يلامس الفنان تجاه العالم والأشياء، وأرى أن طبيعة الإبداع تقوم على التخطي والتجاوز؛ للوصول إلى التبادل الحميم والحوار الدائم بين الفنون، ثم إعادة اكتشاف تلك الوحدة المفقودة، وتحوُّل الفن من التمزق والتشتت والتقسيم المفرط إلى التكامل؛ على أساس أن الجسر الحقيقي بين الفنون، يكمن في وحدة المناخ، وينصب على مدى قيام وشائج مشتركة. - يأتي المعرض الوطني للكتاب بعد أزيد من عام من الأزمة الصحية..كيف ترى تحدّيات الكتابة والنشر في زمن جائحة «كوفيد-19» وما بعدها؟ لا شكَّ أنَّ غياب «معرض الجزائر الدولي للكتاب»، بشكله الاعتيادي العام الماضي وعودته محليا هذه الأيام، يُضيف فراغاً إلى المشهد الثّقافي الجزائري، ويُشكّل خسارةً لكثيرٍ من النّاشرين الذين كانوا يجدون فيه فضاءً وحيداً لتسويق إصداراتهم في ظلّ غياب شبكات لتوزيع الكتاب في الجزائر، وأيضاً للقارئ الجزائري الذي لا يصل إليه الكتابُ الأجنبي إلّا خلال هذه التظاهرة. وهذا يقودنا إلى أن نتساءل حول إشكالية تمويل صناعة الكتاب في الجزائر من ناحية الفرص والإمكانيات والعقبات، وكيفية تقوية القطاع النشر في الجزائر، وجوانب الدعم الرسمي وأيضا تمكين الفعل الثّقافي عموما بأن يكون منتجا اقتصاديا، ليكون الهدف من مناقشة وضع صناعة الكتاب الوقوف على أهم النّقائص والمشاكل التي يعيشها ويعاني منها القطاع، بحثا عن مؤشّرات على بدء تشكّل نمط أو تجربة أو رؤية جديدة لصناعة النّشر، مستنبطة من دروس الأزمة التي تسبّب فيها الوباء. هل من دراسات لتوجّهات القرّاء بعد الأزمة تسمح بمعرفة أولوياتهم وما استجد لديهم من اهتمامات بعد الأزمة وبسببها؟ هل راجعت دور النشر سياسات النشر لديها وأعادت النظر في برامج وقوائم النشر لديها في ضوء المتغيرات الجديدة، أم أنها ستواصل إصدار ما كان مبرمجاً لديها؟ وكيف يكون التعويض عن خسائر دور النشر الجزائرية الصاعدة وخدمة للمثقف والباحث عن الكتاب، وأيضا المساهمة بتعويض خسائر قطاع النشر وقطاعات الثقافة عموما، التي كانت تعرف مشاكل كبيرة تفاقمت وتضخمت تحت تأثير وباء كورونا، وذلك ضمن تفعيل سياسة وطنية للكتاب تدعمه وتشجّع صناعته وتساهم في تطوير ميدان النشر؟ - راهن الفاعلون الثّقافيّون على وسائل الاتصال الحديثة لمواصلة الإبداع عن بُعد..هل يمكن ل «الثّقافة الافتراضية» أن تنوب عن التّظاهرات واللّقاءات والعروض الحيّة؟ الثقافة خصوصا بعد فيروس كورونا وانعكاساته التي تركت تغييرا واضحا على مجمل مناحي الحياة، تطرح نقاشات حول مواضيع عدّة. فالمشهد الثقافي الذي لم يكن قد حسم موقفه قبل الجائحة بين الوفاء لأنماط الثقافة التقليدية، وبين وسائط الحداثة ومتطلّباتها، ضمن هذه التغييرات في ظل الفرص والمزايا التي تتيحها الحلول الذكية والرقمية، ساعدته لإيجاد طرق بديلة للوصول إلي الجمهور عبر المنصات الالكترونية لكسر عزلته، لتمنح أفراد المجتمع متنفّسا إبداعيا. ولكن ما يجري ويحدث لن يكون دائما، والرقمنة الثقافية هي مجرد حلول إبداعية بديلة فقط، لأن الفنون ومنها المسرح والسينما تعتمد على العمل الجماعي والتواصل المباشر، ماعدا الكتب والروايات فالقارئ يحتاج أن يقرأها بمفرده، ونتمنى أن لا يستمر الوضع الحالي على المدى الطويل، وأن توجد عموما النية الحقيقية للتغيير الفعلي للخروج من الفترات الماضية من أجل ثورة حقيقية لإعادة الاعتبار لقطاع الثقافة بوجه عام، وللفنون بوجه خاص، وإيجاد الثقة لرفع تحديات ثقافية كثيرة، لتصبح المساحات مواتية لتمكّن المثقّف والمبدع من التنفس مجدّدا، ولتفعيل حضور الثقافة في الفضاء العمومي. لكن لا بد من القول إن «شهية» الثقافة لا تأتي بقرارات، ولا يمكن فرضها بمراسيم من أعلى، ولكن يتم بناؤها على المدى الطويل وبجهد كبير. - هل تحضّر لجديد ما؟ هناك مخطوطات قيد الطبع، منها كتاب قاموس شامل أنجزته للمخرجات السينمائيات العربيات، تطرّق إلى تجارب 420 مخرجة عربية. وهناك كتاب آخر عن الأدب وتشكله على الشاشة، وثالث يؤرّخ للسينما الجزائرية، وأيضا مجموعة شعرية سادسة كتبت نصوصها بالجزائر.