مثلما ارتبطت مسيرة الكفاح من أجل تحرير فلسطين بأسماء قادة وزعماء ومناضلين، ارتبطت أيضا بأسماء مثقّفين ومبدعين، وأدباء وشعراء، خلّدوا بأحرفهم، وما يزالون، ملحمة الدفاع عن شرف الأمة وكرامتها. في هذا السياق، يحدّثنا المؤلف والمخرج والممثل المسرحي الفلسطيني، غنّام صابر غنّام، عن ثقافة المقاومة / مقاومة الثقافة، وعن تأثير الإعلام، ودور شبكات التواصل. كما يؤكّد ابن مدينة «أريحا» عن مواصلة الأجيال الصاعدة مسيرة الكفاح، معتبرا أن أشراط انتفاضة فلسطينية ثالثة متوفّرة اليوم. - الشعب: ما الذي يمكن قوله فيما يتعرض إليه الفلسطينيون من عدوان هذه الأيام، أم أنّ الصور الواردة من فلسطين قطعت قول كل خطيب؟ المسرحي غنام غنام: القول واضح يا عزيزي، إنها حلقة جديدة من حلقات صراع وجود، بين مُغْتَصِبٍ ومُغْتَصَبٍ، صراع لا يدور على قطعة أرض بين جارين أضاعا حدها الفاصل، وليس على ميراث لإخوة أو أفراد عائلة، إنه صراع وجود، صراع على التاريخ، صراع على حضارة، صراع على وطن هو صرة الأرض والحبل السرّي إلى السماء، وهو صراع يومي بالمناسبة، لا يتوقف ولم يتوقف على مدار أكثر من مئة عام، لكنه يتقدم ليحتلّ صدارة المشهد العالمي كلما تحرك الفلسطيني ليدافع عن وجوده فيوغل المحتل في الدم والقتل، لأن نجاح الفلسطيني في جولة واحدة سيكون بوابة نهاية المحتل. أو تدري، ما يحقّقه في أيام السكون والهدوء أكبر بكثير من أيام الغليان الشعبي، لذا فإن ما يحدث في فلسطين الآن، يرعبه، يربكه، يجعله ينفلت من عقاله، ويكلفه أكثر بكثير مما يرتضي، فبرغم كل شيء، الاحتلال مشروع اقتصادي بالنسبة للمحتل، ولا يريده إلا رابحاً، ولا يريحه أن يكون خاسراً، لذا تجده في صفقات السلام مع بعض العرب يضع المنافع الاقتصادية المتبادلة في مقدمة الاتفاقيات، وهو الرابح لأن ليس لديه ما يفيد الأطراف الأخرى بل هو يسعى ليعيش على (مص دم) مقدراتها الاقتصادية، إضافة لفكّ عزلته التي ما زالت قائمة رغم بلوغ (كيانه) عامه الثالث والسبعين. - لطالما كان للمثقّفين والمبدعين دور رائد في التعريف بالقضية الفلسطينية، كيف تقيّم هذا الدور اليوم؟ وما الذي يمكن فعله في هذا الصدد؟ ثمّ هل يوجد جمهور محدّد يوجّه إليه المبدع الملتزم إبداعه، أم أنها جماهير متعددة المشارب واللغات؟ الجبهة الثقافية في صراعنا مع الصهيونية ظلت هي الجبهة العربية الوحيدة التي لم تذق طعم الهزيمة بل ظلت تحمل راية الانتصار، في الوقت الذي هزم الكيان الصهيوني القادة العرب من عسكريين وسياسيين واقتصاديين مجتمعين، انتصرت الجبهة الثقافية عليه على الدوام، فالمحتل يمكن أن يباهي بجنرالات ورجال أعمال وعملاء ولكن هل يستطيع أن يباهي بمن هو أهم من محمود درويش، أو سميح القاسم أو توفيق زياد أو نجيب محفوظ أو إميل حبيبي أو غسان كنفاني أو ناجي العلي أو سليمان منصور أو مارسيل خليفة أو أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، أو الطاهر وطار، أو الجواهري أو ونوس أو عبد الرحمن منيف أو إبراهيم نصر الله ومحمد البكري وريم البنا وسناء موسى وثريا جبران ومحمد الماغوط وسهيل إدريس والطيب صالح وخالد الهبر وأحمد قعبور وقبل ذلك وبعدهم الرحابنة جميعاً وخاصة زياد وكذلك حليم وأم كلثوم والسنباطي وعبد الوهاب الكثير الكثير من الفنانين والمبدعين؟ إذن هذه هي الحقيقة: كل هؤلاء المبدعين شكّلوا سدوداً منيعة ضد انتصار العدو ثقافياً، رغم أن أغلبهم لم يكونوا صنيعة الأنظمة، بل كانت الأنظمة غالباً ما تشكل طعنة في خاصرة الثقافة. وما كان يميز هؤلاء المبدعين أنهم كانوا منحازين للحق والجمال والحرية، كانوا صوت الفقراء والطلبة والفلاحين والعمال، كانوا خلاصة الثقافة الشعبية والثقافة الرصينة والمشتبكة مع الثقافة العالمية. ولا يمكن لنا أن نغمض أعيننا عن دور المثقفين الذي ما زال مستمراً في رفع درجة الوعي، مع فارق بسيط أن مثقفي هذه المرحلة يعانون أكثر بسبب تكثيف جهود الصهيونية مع الامبريالية والرجعية، هذه الجهود التي وازاها صعود التيارات الدينية التي تعرقل الإبداع ما لم يكن في خدمة إيديولوجيا الغيبيات. إنّ الخطاب الإبداعي يجب أن يتمتع بما تمتع به القرآن الكريم، عليه أن يكون معجزة صانعه، عليه أن يكون خطاباً للعامة من الأناس العاديين وخطاباً للخاصة في نفس الوقت، ودون أن يختلفوا في تأويله، بل أن يكون ذا (دلالة متعددة التأويل في اتجاه واحد تبعاً لثقافة المتلقي) وأن يساهم بكل تأكيد في صياغة الهوية الحضارية للإنسان، فلا انتصار مع إنسان غير حضاري. - هل الكتابة عن فلسطين من على أرضها كالكتابة عنها أو لها من المنفى، ما الذي يضيفه أو ينقصه في الكتابة عن فلسطين؟ كلّها زوايا للتّناول في موضوع واحد، الوعي الشّامل بالقضية بتاريخها وبمحركات الصراع فيها يؤثر في عمق وتأثير ما تنتجه الكتابة، محمود درويش كتب من على أرضها ومن المنفى خارجها، وظلت فلسطين كاملة بحجرها وروحها كاملة الحضور في نتاجه الشعري، وكذلك فإننا نجد توفيق زياد قد عاش وقضى على أرضها وهو يكتب القصيدة التحريضية منطلقاً من موقفه الذاتي وموقعه من المسيرة النضالية، إميل حبيبي كتب من داخلها وأبدع أسلوباً فريداً في الأدب يفوق ما فعل ماركيز وأمادو وهم من المدرسة، سميح القاسم كتب من داخلها ونثر شعره خارجها / مريد البرغوثي كتب من داخلها وخارجها بنفس الروعة، المسألة تكمن في وعي الكاتب بأدوات الصراع وأدوات الإبداع، كثير من كتاب العالم كتبوا عن فلسطين وكأنهم يعيشون على أرضها، وعدد من كتاب على أرضها كتبوا وكأنهم يراقبونها من المريخ. الكتابة بفلسطين وعنها ولها تمنح الكاتب معيناً إنسانياً غير مسبوق في صيرورة تاريخ البشرية وتحولاتها، لذا من المعيب أن يكون هناك كاتب فلسطيني ليس بحجم هذه الصفة العابرة للتاريخ والجغرافيا والفنون. - هل نجحت شبكات التواصل، ولو نسبياً، في إزاحة التعتيم الذي يمارسه الإعلام الغربي على الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني؟ وهل يفسّر ذلك حجب شبكات التواصل للعديد من المنشورات المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني؟ وإلى أي مدى تتبنى هذه الشبكات الحياد؟ لقد غيّرت شبكات التواصل الاجتماعي ملامح إعلامية كثيرة، خاصة حين صار بإمكان كل من يحمل (هاتفاً نقالاً) نقل أي حدث من أي مكان وفي أي زمان، ليكون بين يدي كل العالم في ذات اللحظة، لكنها أيضاً وككل المؤسسات الإعلامية الرأسمالية تخضع لأمرين، الأول الموقف الأيديولوجي لمالكيها، وهم إما صهاينة أو من بلاد غسلت الصهيونية إعلامها وثقافتها، وإما تجار لا يرون في الأمر سوى الربح والخسارة، وطالما أن عصب الاقتصاد العالمي بيد الصهاينة فمالكو الشبكات سيخضعون للضغط، وفي كلتا الحالتين نحن أمام التحدي، وستظل تحجب ما يتعارض مع موقفها، أو ستظل تحجب ما يمكن أن يضعف الإعلان المعتمد على اللوبي الصهيوني، وعلينا نحن أن نتمكن من تشكيل الضغط الكبير عليها حتى لا تستطيع تجاوز ما ننشره عن قضيتنا، وهذا ممكن، لكن يجب علينا أن نتقن اللعبة، إنها معركة من نوع خاص، فالمحتوى الذي تنشره قد يصب في خانة عدوك، عليك أن تنتقي الصورة والوسم والجملة والموسيقى.. عليك أن تبدع في النشر لا أن تخسر المعركة. جيش الاحتلال لديه كتيبة خاصة بشبكات التواصل الاجتماعي، وعليها مستعربون، وهذا يؤكد إدراك العدو لأهمية الشبكات هذه، وعلينا بالمقابل أن نشكل كتائب إلكترونية ذكية بذكاء الثورة ونبل مقاصدها. - قلت إنّ شروط انتفاضة فلسطينية ثالثة قد توفّرت، هل لك أن تشرح أكثر؟ وهل ترى أنّ الانتفاضة هي أحسن استراتيجية في معركة التحرير؟ وهل ترى غير ذلك؟ هل ترى أن شروطها تحتاج أكثر ما انطلقت منه؟ انظر إلى قضية حي الشيخ جراح، إنّها شرارة أوقدت ناراً كبيرة تماماً كشرارة مصادرة أراضي سخنين التي أطلقت يوم الأرض الفلسطيني، وانظر إلى قضية اقتحام وتدنيس الأقصى كيف كانت شرارة أوقدت الهبّة الجماهيرية كما فعلت في الانتفاضة الثانية، بل يمكنني القول بالفم الملآن إن مستوى الاستجابة من كافة المدن والبلدات والقرى في فلسطين كاملة كانت أسرع وأشمل وأقوى من الانتفاضتين الأولى والثانية، وتنوّع فئات وشرائح وطوائف واتجاهات المنتفضين كانت أشمل من الانتفاضتين الأولى والثانية، وفي هذه المرة كما في الانتفاضتين السابقتين يتصدر الشباب العشريني في كل المناطق المشهد، لقد صادفت شرارتا الشيخ جراح والأقصى احتقانا كبيرا لدى الفلسطينيين في كل مناطق فلسطين وحتى المنافي، الفلسطيني تحت الاحتلال حانق عل الاضطهاد والعنصرية والبطش والاعتقالات والتمييز السافر من قبل الاحتلال، والفلسطيني تحت السلطة حانق من ميوعة موقفها ورخاوة مشاريعها الوطنية، والفلسطيني في القطاع حانق من الانقسام والحصار من العدو والصديق، وفلسطيني المنافي حانق من كل ذلك بالشفعة إضافة إلى تهاوي الجدار العربي والهرولة نحو أوهام السلام، كل هذا أرض خصبة للانتفاضة الثالثة التي يمكن أن تغير كل الموازين، فالمنتفض مشتبك ومشترك في الشارع والمؤسسة والحاجز والعملة والتصريح مع عدوه، هذا داخل فلسطين التاريخية، والفلسطيني في الخارج مشتبك ومشترك مع الشارع العربي المتضامن والنظام العربي المتهاون.. كلها أسباب عظيمة لقيامة انتفاضة ثالثة، وعليه فهي مرهقة ومتعبة للعدو الذي لا يمكنه أن يشن حرباً شاملة على مدينة مثل حيفا أو عكا أو اللد أو يافا ... إلخ لأنها مدن تحتوي الفلسطيني والمستوطن المحتل.. ولكن للأسف وأقولها وأعلم أن كلامي لن يلاقي هوى وقبولاً عند الكثيرين وهو أنّ معركة الصواريخ التي أطلقتها بعض الفصائل من غزة سرقت وهج انطلاقة الانتفاضة، وسرقت الضوء والاهتمام من الأقصى والشيخ جراح رغم أنها انطلقت (نصرة لهما) ولكن ها هو الإعلام والجهود الدولية قد تركزت على جهود التهدئة ووقف تبادل إطلاق النار بين غزة والكيان المحتل، تحول الشارع من قضية الأقصى وشوارع المدن الأخرى إلى قضية الدم النازف في غزة، هذا الدم الذي يسفكه جيش الاحتلال بتلذذ كبير، فما لا يستطيع إثباته في مواجهة المنتفضين يثبته بسهولة في غاراته والحرب العسكرية، إن عسكرة الانتفاضة في هذا الوقت المبكر من وجهة نظري ليست في صالح تجذير الانتفاضة الثالثة. - في الذّكرى ال 73 للنّكبة، هل يجوز أن نخشى على القضية الفلسطينية من التّقادم؟ وما رأيك في وعي الأجيال الصّاعدة؟ في الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة (يوم استقلالهم يوم نكبتنا) كان هذا شعارنا حتى العام الماضي، أما السنة فنقول (آن للنكبة أن تنتهي)، فالتحرك الجماهيري العارم وفي كل مدن فلسطين التاريخية أثبت أن الكيان الصهيوني المغتصب ما زال يحاول إرساء دعائم (إسرائيل)، وقد مرّر بهزيمة وباتفاقات مع أنظمة عديدة ما يعتقد أنه يرسخ هذه الدعائم، ونسي أن شعوب الأنظمة التي سالمته ترفضه وترفض وجوده والسلام معه، لذا أعجبني قول (إنّ «إسرائيل» وخلال 73 عاما قد احتلّت عديد الأنظمة العربية لكنها لم تتمكن من احتلال فلسطين). راهن المحتلون على أن الكبار سيموتون، وأن الصغار سينسون ولكنهم نسوا أن هذا لا ينطبق على الفلسطينيين، الجيل الحالي من الشباب له وعي كبير ويعي وسائل الصراع ويتقن إدارتها، وبالمناسبة هو نتيجة حتمية لأجيال سبقت، جربت ونجحت وفشلت، لذا يبدو هذا الجيل مستوعباً بشكل أفضل لأسس الصراع، وأفضل ما يعزز ذلك عنده هو تعميق الإيديولوجيا التي تساعده في تنظيم أسس هذا الصراع. - كلمة أخيرة؟ في نص مسرحيتي (صفير في الرأس صلاة للقدس) التي كتبتها عام 2012، دعوت فيها أن يستعيد المسلمون القبلة الأولى في صلاتهم، وقلت فيها على لسان بطلها (صبري غريِب) وهو يقف بين يدي الله للصلاة: أنت الملك ولك الملك، وأنت الخبير البصير والعالم ما تعلنه الألسن وما تُكِنه الصدور، ربي أقف بين يديك اليوم وأعلم ما من خطّاء في هذه الفانية مثلي، خطّاء يعرف ما يفعله ويتقصده، مولاي أنت العفوُ الرحيم..لك أن تعفو ولك أن تذرني للتي لا تبقي ولا تذر تلك اللواحة للبشر. تعلم ويجوز أنهم لا يعلمون، من لما بلغت الحلم ما قطعت فرضا، كل صلاة بصلاتها، وما وجهت وجهي إلا لبيتك العتيق. لكنك يا ودود يا قدّوس ترى مثلما يرى عبدك بعينيه الفانيتين، ولا تخفى عليك خافية لذا تراني اليوم أيمم شطر قبلتك الأولى، نحو المسجد الأقصى، نحو القدس. القدس اليوم أولى بأن أتوجّه لها وأنا أناديك وأطلبك المغفرة، ثقلت ذنوبي تجاهها لذا أصلي باتجاهها، مولاي الموجود في كل الوجود أكرمني واكشف الحجاب عن وجهك في قبلتي هذه، مولاي وربي ومجيري هذي القدس ءأدشرها تروح؟ ويهوّدوها يهود الدونمة والفلاشا؟ ربي لو توجّه عبادك اليوم في صلاتهم للقدس، إنّي لأرى الكون يرتعد ويرتجف من خشية، فاترك لي أن أستعيد قبلتي.. هي مسرى حبيبك محمد، وهي معراجه للسّماء، وهي التي سرى المسيح في دروبها حتى صار نبيا، وهي معراج صعوده بعد ما حمل ذنوبنا وطهرنا وهي أيلياء التي جمعت الأنبياء. وهي بيت جدي ومستقبل ولدي، عفوك اللّهمّ وهي بعد الآن قبلتي.