حاولت السلطات العمومية في السنوات العشر الأخيرة جاهدة تنظيم سوق العمل، وترشيد الموارد البشرية، ومساعدة الشباب البطال المؤهل من خريجي الجامعات والمعاهد على الاندماج المهني، تحسبا لإمكانية إستخلاف المتقاعدين الذين يسرحهم، فخلقت العديد من الأجهزة التي سطرت في إطار وزارة التشغيل والتضامن الوطني بغرض تأطير جيد لهذا الجهاز وتفادي اللجوء المفرط دون مقابل إلى الإمكانيات التي يوفرها هذا الجهاز، فقد تم تحديد سقف للإستفادة من هذه العقود لكل مستخدم حيث لا يتجاوز 15 % من عدد العمال المشغلين بالمؤسسة المعنية، إلا أنه يمكن للمؤسسات المصغرة المنشأة في إطار أجهزة دعم إستحداث النشاطات أن تستفيد من تخصيص منصبين لطالبي العمل لأول مرة. كما أن المؤسسات التي لم تبادر بتوظيف 25 % على الأقل من الشباب المستفيدين من عقود الإدماج لا يمكنها الإستفادة من تخصيص مناصب جديدة في إطار هذا الجهاز. أما المؤسسات التي حققت نسبة توظيف تفوق 25 % فيمكنها الإستفادة من تخصيص إضافي في حدود 30 % من عدد العمال المشغلين بها. ويكتمل الجهاز بعقد العمل المدعم الذي يهدف إلى دعم المؤسسات في تحقيق مخططات تسيير مواردها البشرية في شقها المتعلق بالتوظيف، وفي حصيلة أولية واستنادا لما لديها من بيانات رأت وزارة التشغيل والتضامن الوطني أنه في أفاق 2009 - 2013 يمكن إدماج 400000 طالب عمل لأول مرة daip بنسبة توظيف بعد فترة إدماج مؤقت قدرها حوالي 33 % أي ما يعادل 130000 منصب شغل سنويا. ضف إلى ذلك سياسة الوزارة التي تنص على إستحداث النشاطات والتي بإمكانها أن تستوعب 55000 منصب عمل مباشر سنويا، وبالنسبة للشق الخاص بتشغيل الشباب توفير ما يعادل 185000 منصب شغل سنويا، وفي القطاع الإقتصادي ما يوازي توفير 21500 منصب شغل سنويا، في المجموع وبإحتساب كافة الأجهزة مجتمعة سنويا يتم تنصيب ما يعادل 400000 ألف شاب بطال في مناصب قارة. أي إذا كان التركيبة الديمغرافية للمجتمع الجزائري 75 % شباب بما يعادل أكثر من 20 مليون شاب، فحسب هذه الأرقام والإحصائيات فإنه في أقل من عشر سنوات سيتم طي ملف البطالة في الجزائر، ولن نجد من يبحث عن عمل، لكن للواقع حقائق أخرى. حاولت “الشعب” في هذا الموضوع أن تقف على حقيقة هذه الأرقام التي تدعو إلى التفاؤل من جهة، ومن جهة أخرى أن نعرف هل تسير العملية فعلا كما سطرتها وزارة التشغيل والتضامن الوطني؟ وهل الأولوية في أن تكون المناصب من نصيب هذه الفئة من الشباب، شباب عقود ما قبل التشغيل؟ وما هي حصة هذا الشباب “النصف بطال” من المناصب الممنوحة كل عام للإدارات والمؤسسات العمومية؟ وهل تعرف هذه الفئة من الشباب فعلا حقيقة هذه الأرقام؟ شهادات عن ظروف عملهم ترى على صفحات “الفايس بوك” فئة من الشباب خريجي المعاهد والجامعات الجزائرية إنظمت تحت العديد من العناوين في مجموعات مختلفة الإهتمامات فرضها عليهم إطار الشغل الذي يزاولونه، محاولين على اختلاف القطاعات التي ينتمون إليها توحيد صوتهم الذي ينادي بالإلتفات، يطالبون بحقهم في مناصب قارة تكفل لهم العيش الكريم. يشكون الظلم المسلط عليهم من طرف إدارات ومؤسسات يزاولون بها نشاطهم.. الحقرة والاستغلال الفاحش من طرف إطارات من المفترض أنه أحيلت على التقاعد، لكن لماذا يتقاعدون؟ يقول أحد الشباب الذين إلتقيناهم ماداموا يجدوننا نحن من يحرك الإدارات ويسهر على سيرها، إنهم أضحوا أرباب عمل في هذه الإدارات العمومية يأمرون وينهون، وإذا لم تستجب فاعلم أن أجرة يومك قد خصمت منك. أمام هذا السيل الجارف من الشباب الذي يغادر مقاعد الجامعة كل عام ليوجه إلى هذه الفئة محدودة التعليم ممارسي الإدارات العمومية، ممن يتمتعون بخبرة أعطاها لهم تقدمهم في السن، شباب كان من المفترض أن يكون الطاقة الإضافية التي يعول عليها في إستخلاف هذه الفئة الهرمة. حاولنا أن نغوص في هذه الفئة الحية، النشطة، التي قتلت فيها هذه الممارسات الأمل .. تقول “أمينة” وهي مهندسة معمارية، خريجة جامعة عنابة 2008 “أكبر شيء ندمت عليه أنني أتممت دراستي ولم أتزوج في سن مبكرة، كان هذا هو حظي من تكويني كمهندسة دولة ليتوقف بي المطاف أمام قلة من عديمي الضمير، يبتزوننا صباح مساء، وكأننا عبيد، بأجور زهيدة قد لا تكفي مصروف جيبك اليومي.. والأدهى من ذلك أنك أحيانا تحتم على نفسك أن تمشي بناءً على ما يمليه عليك رب العمل وأنت تدرك أن ما يقوله خاطئ، لكن ما عساك أن تفعل؟ خاصة وأنه في بعض الأحيان تكون عملية التثبيت في المنصب انتقائية، لكن في الحقيقة هي عملية بيروقراطية لا تخضع لأي معايير مهنية، وقد لا تسمع شيئا عن عروض العمل التي تزاول بها نشاطك منذ سنوات، لتتفاجأ بإحداهن قد تم تنصيبها على رأس المنصب التي أنت فيه، ما عليك سوى أن تستكمل عقد عملك وتخرج بخفي حنين، تخرج منها جائعا كما دخلتها جائعا. يقول “خالد”، مستفيد من عقد عمل لدى بريد الجزائر “العام الماضي خرج وزير القطاع بكذا تصريح إعلامي وقال أنه سيتم وبصفة رسمية تثبيت شباب عقود ما قبل التشغيل العاملين لدى بريد الجزائر، وكم كانت فرحتنا كبيرة نحن من يعمل ببريد الجزائر، بل أضحينا محل حسد العديد من زملائنا في القطاعات الأخرى، حتى رئيسي في العمل أصبح يتابعني صباح مساء ليوقعني في أخطاء مهنية حتى لا استفيد من هذا الإدماج الموعود، لكن لا حياة لمن تنادي، مرت الأيام واتضح أن الحكاية مجرد وعود جوفاء وحتى المناصب التي استفاد منها القطاع تمت عن طريق المسابقات التي يشرف عليها الوظيف العمومي، وكما لا يخفى على أحد المسابقات التي يدخلها الجميع ولا تعود المناصب إلا لأصحابها ممن فصلت خصيصا على مقاسهم. هذا شيء من واقع هذه الفئة، فئة عقود ما قبل التشغيل، شباب مكون ومؤهل لكن لا سلطة له، بقي رهين ممارسات قذرة، البعض من محدودي الإمكانيات والمؤهلات والتكوين يريد أن يذل هذه الطبقة الحية التي درست وسهرت لاستكمال دراسات ما بعد التدرج، ومنهم من هو في طور التدرج ماجستير والدكتوراه. والأغرب أن توزيع هذه العقود يكون بطريقة عشوائية، فمثلا ترى أن التخصصات غالبا لا تتطابق والمناصب التي تمنح للشباب ، كما أن حصة الأسد من هذه العقود تكون على مستوى البلديات، ونحن نتجول بين أحد بلديات عنابة ترى العديد من التخصصات العلمية لشباب يقوم على تحرير عقود وشهادات الميلاد. أصبح المهم أنك تفتك عقد عمل في إطار عقود ما قبل التشغيل ولا يهم في أي قطاع كان، يقول “أحمد” أحد الشباب “لقد نسينا شهاداتنا ومستوانا العلمي وأسطورة الرجل المناسب في المكان المناسب، المهم أنك تفتك عقد عمل وتستفيد من العلاوة المالية المخصصة وتهرب من الشارع والبطالة وفقط”. ماذا يقول المختصون في ذلك؟ “محمد الأمين” أستاذ علم النفس الإجتماعي يقول “المشكلة ليست في تلك الأرقام التي تزودنا بها الوزارة كل عام، حقيقة الدولة في بدايات استحداث هذه الفئة على مستوى الإدارات والمؤسسات العمومية كانت جادة في ذلك، من جهة للتكفل بهذه الشريحة الكبيرة من الشباب، ومن جهة أخرى فقد وضعت استراتيجية للحد من ممارسات الإدارات العمومية التي استفحلت في السنوات الأخيرة، لكن تطبيقها بهذه الطريقة لم يضف شيئا، بقيت الممارسات القديمة قائمة لأن هذا الشباب الذي تم منحه هذه العقود هو إنسان أراد أن يبدأ مشواره المهني بسلام، أهم شيء لابد من البحث في أسباب الرضا الوظيفي، هل فعلا هذا الشاب راض بحالته المهنية هذه؟ أكيد لا، فهو نصف بطال، قدم في المنصب وقدم في عالم البطالة، كما أن المسؤولين أرباب العمل في الإدارات والمؤسسات هم أنفسهم، بل بالعكس أصبحت العملية أكثر تعقيدا، بصراحة هذا الشباب الآن معظمه يشتغل تحت الضغط والحاجة، ضغط نفسي رهيب مسلط عليه من طرف ذلك الموظف السيد الذي يتمتع بمنصب دائم وبأقدمية تؤهله لأن تكون له الكلمة الفصل في كل شيء، ضف إلى ذلك أن عملية المتابعة الدورية للشاب تكون من طرف هذا الموظف، فغالبا ما تكون العلاقة متوترة.. ومن الناحية النفسية هذا الشاب الذي يتمتع بحيوية كبيرة وروح مبادرة مع مرور الوقت يفقد هذه الروح، ويدخل عالم الرتابة في الوظيفة لأنه لا يؤدي مهامه بكل حرية. والأدهى من ذلك أن مردود عمل هذا الشاب لا يتمتع به هو لأنه لم يصبح موظفا مستقلا بعد، وتتضح هذه الممارسات أكثر بين الشباب الذي لا يحب أن يخضع لأي ضغوط، بينما تقل عند نسبة الإناث التي تتميز بنوع من المرونة، لكن هن بدورهن تأثرن من النساء في الإدارات وكذا العديد من المضايقات، من جهة أخرى وكما يقول المثل الشعبي “قل لي كم في جيبك من نقود أقول لك من أنت”، فهذه المنحة المقدرة بين 10000 و15000دج هي أجر زهيد جدا، قد لا يغطي حاجة الشاب شهريا، ضف إلى ذلك هذا الشباب هو في سن لا يؤهله لأن يفكر في مصروف جيبه فقط، عموما يتراوح سن هذه الفئة من الشباب بين 23 و39 سنة، في فترة عمرية تحتم عليه أن يضاعف الجهد والدخل من أجل أن يستقل بحياته ويفكر في الزواج وبناء أسرة هو كذلك، فهذا الأجر بات يقتله أكثر مما يحييه يقول أحد الشباب. ما نخلص إليه هو أن السلطات العمومية مشكورة على ما قامت به تجاه هذه الفئة الحية من المجتمع، غير أن الفراغ يبقى سيد الموقف، استحدثت هذه العقود لتؤطر وتهيكل هذه الطاقات الشابة، لكن افتقدت إلى التنسيق بين مختلف الوزارات التي من المفترض أن تضمن حقوق هذه الفئة، لا أن تتركها تتقاذفها الأهواء بين أروقة المؤسسات والإدارات العمومية، من أجل نجاح هذه العملية التي تضبط أهم مورد بشري تقوم عليه مفاصل الدولة لابد من ضبط الحقوق والواجبات وإيجاد آلية جادة تربط بين وزارة التشغيل والتضامن الوطني من جهة وكل من الوظيفة العمومية وكذا شبكات الموارد البشرية على مستوى المؤسسات والمديريات، لأن القضية هي قضية رضا وظيفي بالدرجة الأولى، فلابد أن يكون الشاب متحررا من القيود حتى يبدع، ولابد أن يكون أجره بناءً على ما يتطلبه سنه وما تتطلبه حاجته للحياة والمساهمة في تأسيس المجتمع، ومساعدته على شق الطريق في مسار بناء حياته الشخصية.