شكّلت التّحوّلات الكبيرة التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة منعرجا كبيرا على مستوى التنظير في العلاقات الدولية ودراسة الظّواهر الجديدة المرتبطة بها، خاصة ما تعلّق بتلك التّغيّرات التي عرفتها العديد من المفاهيم الكلاسيكية كالقوة والمصلحة وتوازن القوى والحرب والأمن. هذا الأخير أصبح يحمل مفهوما حديثا لا يقتصر فقط على الجوانب العسكرية، بل أصبح يواكب كل التّهديدات والتّحديات التي تشكّل عائقا أمام الدول السّاعية إلى البحث عن المعلومة، وخاصة مع التّطوّرات الهائلة التي عرفت بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي اختزلت بل أذابت تلك الفوارق الجغرافية والسياسية والثقافية بين الوحدات الدولية، ما يستوجب على تلك الدول أن تضع استراتيجيات وتكتيكات تحافظ من خلالها على أمن معلوماتها الرسمية من الاختراقات والتجسس، خاصة عبر تلك الفضاءات الزرقاء ووسائط التواصل الاجتماعي. مع تلك المتغيّرات الدولية المتسارعة يواجه العالم عددا هائلا من التّهديدات الأمنية المتنوّعة، والتي غالبا ما تتميز بالتطور المفاجئ والتغير المستمر والانتشار الرهيب خارج المحيط الجغرافي للدول، ممّا ينجر عنه أضرار بليغة تمس كيان الدول سواء كانت مجتمعة أو بشكل انفرادي ممّا ينعكس سلبا على الأمن الوطني والأمن العالمي على حد سواء، وبالتالي تلك التطورات التكنولوجية التي أصبحت تشكّل عاملا مؤثّرا سواء على مستوى التنمية المنشودة للدول أو على مستوى أمنها القومي. هذا الأخير أصبح يعرف نوعا جديدا من تلك التحديات والتهديدات التي أثّرت وبشكل كبير عليه، ولعل الفضاء الازرق الذي يعتبر إحدى تلك التطورات الكبيرة التي عرفتها تكنولوجيا الاتصالات يشكّل إحدى أهم التهديدات الجديدة التي تؤثر على أمن الدول في الوقت الراهن، من خلال الأمن المعلوماتي أو ما يعرف بالأمن السيبراني. لذلك جاءت هذه المساهمة لتناقش الإشكالية التالية: كيف أنّ الاستخدامات السيئة للفضاء الأزرق سيشكّل إحدى أهم التهديدات السيبرانية التي تؤثر على أمن الدول وسيادتها الوطنية؟ الفرضية التي انطلقنا منها في دراسة لهذه الاشكالية وهي: الفضاء الأزرق إحدى أهم التحديات، وفي نفس الوقت هو أهم التهديدات الجديدة التي تهدد الأمن السيبراني للدولة، ومنه التهديد المباشر والخطير للأمن القومي للدول جميعا نظرا للأدوار المختلفة والمتنوعة والمتطورة وكذا السريعة لذلك الفضاء المعلوماتي والإتصالي المتعدد الأبعاد والادوار في الراهن الدولي، والذي يشكل تهديدا كبيرا لكيان الدولة واستمرارها. الأمن السيبراني: المفهوم والأبعاد: بعد التّحوّلات الكبيرة والمتغيّرات المتسارعة التي عرفها العالم نتيجة لجملة من الظواهر الجديدة التي شهدتها الساحة الدولية أرغمت المختصين في ميدان العلاقات الدولية أن يجروا عدة أبحاث ودراسات ميدانية من أجل تحليل وتفسير تلك الظواهر وصولا الى وضع نظريات ومقاربات كفيلة بتفسير الواقع الدولي الذي طرأت عليه تغيرات عديدة مست تلك المفاهيم الكلاسيكية على غرار مفهوم الحرب والمصلحة والقوة والنزاع والصراع الأمن. هذا الأخير عرف تطورا كبيرا وسريعا، بانتقاله من المفهوم الكلاسيكي وهو الأمن القومي أثناء اندلاع الحروب العالمية المختلفة وسعي الدول الى تحقيق أمنها القومي المتمثل في الاستقلال إلى أن تغير ذلك المفهوم بعد الحرب الباردة، فأصبح المهتمون بالشأن الدولي من العلماء والباحثين والمختصين في الدراسات الأمنية يتحدثون عن نوع جديد من الامن كالأمن الفكري والأمن الايكولوجي - البيئي والأمن البيولوجي والأمن السيبراني، هذا الأخير كان من اهتمامات المتخصصين في الدراسات الأمنية في الوقت الراهن كانت له عدة تعاريف منها: يعرف على أنّه أمن الشبكات والأنظمة الإلكترونية والبيانات والمعلومات والأجهزة المتصلة بالأنترنت، وعليه فهو المجال الذي يتعلق بإجراءات ومقاييس الحماية المفروض اتخاذها أو الالتزام بها لمواجهة التهديدات ومنع التعديات أو على الأقل الحد من آثارها. ويعرفه ريتشارد كامرر Richard A.Kemmerer بأنّه عبارة عن وسائل دفاعية من شأنها كشف وإحباط المحاولات التي يقوم بها القراصنة. أما إدوارد ايمورسو Edward Amorso فقد عرّفها: بأنّها وسائل من شأنها الحد من خطر الهجوم على البرمجيات أو أجهزة الحاسوب أو الشبكات، وتشمل تلك الوسائل الأدوات المستخدمة في مواجهة القرصنة وكشف الفيروسات ووقفها. هذا التعدد في تعريف الأمن السيبراني يشير إلى أنّ هذا النوع من الأمن متعدد الأوجه، فكل مختص في هذا الميدان ينظر للأمن السيبراني من زاويته الخاصة، هنا نشير إلى أن الأمن السيبراني هو عبارة عن تلك الاستراتيجيات الحكومية المتخذة من أجل الوقوف أمام تلك الاختراقات الالكترونية المختلفة، والتي تهدد الأمن المعلوماتي للأفراد أو الدولة. أبعاد الأمن السيبراني يشمل الأمن السيبراني كل المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية بغية الوصول إلى تحقيق نظام أمني متكامل يحقق الأمن القومي للدول والمجتمعات نتيجة لتلك التهديدات السيبرانية المتنوعة وانعكاساتها، ونجمل تلك الأبعاد فيما يلي: البعد السياسي: لعل تلك التّسريبات للملفات السرية والاختراقات الخطيرة لحواسيب الدول ومنظوماتها الرقمية عادة ما تتسبّب في أزمات سياسية ودبلوماسية، كما أن الفضاء الرقمي السيبراني (الفضاء الأزرق) أصبح من الآليات المستعملة حديثا في الحملات الانتخابية المختلفة. البعد الاقتصادي: أصبح الأنترنت فضاءً خصبا لكل تلك المعاملات الاقتصادية في ميدان التجارة والصناعة والاستيراد والتصدير والمعاملات البنكية والمصرفية بين الدول وبين الأفراد تطويرا للاقتصاد الوطني، مما يدعو الى الاهتمام بهذا النوع من الأمن السيبراني في هذا المجال الحيوي الذي يهدف الى تحقيق التنمية للدول المترابطة بشبكة الكترونية قوية يخشى عليها من الاختراقات التي قد تعطل مسارات تلك التنمية، بل وقد ترهن مستقبل تلك العلاقات الاقتصادية بين الدول والمجتمعات. البعد العسكري: يشمل هذا البعد الحسّاس على المحافظة على الشبكات العسكرية بين مختلف الوحدات العسكرية مما يضمن تبادل آمن للمعلومات العسكرية، ويضمن كذلك عدم تعرضها للاختراق من طرف قراصنة الأنترنت، والتي قد تدمّر قاعدة البيانات العسكرية الهامة والسرية، ممّا يعرض الأمن القومي للدول للخطر الكبير. الفضاء الأزرق إحدى تحدّيات الأمن السيبراني الجديدة أصبح الفضاء الإلكتروني مسرحا للصّراعات الدولية الراهنة، نتيجة لتلك التطورات الكبيرة والمتسارعة لتكنولوجيا الاتصالات الرقمية والفضاء الرقمي، والتي استخدمتها الدول كآليات جديدة في الصراع الدولي الراهن، فكثير من الوحدات الدولية تسعى للدخول لمجال الفضاء الإلكتروني (الفضاء الأزرق) كساحة للصّراعات والنزاعات الدولية المختلفة، وكمجال للحروب عن طريق استخدام القوة والقدرات التكنولوجية، وحقّقت ما يعرف بالقوة السيبرانية. فمفهوم القوة وحتى الأمن تأثّر بالتكنولوجيا الرقمية الحاصلة، وانتقلت تلك الدول من الحروب والتهديدات الأمنية الكلاسيكية إلى حروب وتهديدات من نوع مختلف، وبوسائل وأساليب مختلفة. تهديدات الفضاء الأزرق على الأمن القومي للدول - تحوّل كبير في مفهوم القوة والصراع الدولي من خلال الاستخدامات الكبيرة للثورة المعلوماتية والرقمية المتطورة في شتى المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، انجر عنه بروز نوع جديد من أنماط القوة وهي القوة السيبرانية، والتي أصبح لديها تأثير كبير على المستوى الوطني والدولي، لذلك تسارعت الدول الى التنافس لامتلاك تلك القوة الناعمة تأمينا لمصالحها وتحقيقا لأهداف التنمية والأمن القومي المنشود. وهنا أصبحنا أمام مفهوم جديد للقوة التي تعتمد على الفضاء الإلكتروني، الذي غيّر علاقات القوّة في السّاحة الدّولية. - تغير في مفهوم الحروب التّقليدية بين الفاعلين الدوليين، والتي أصبحت تعتمد على حرب المعلومات التي تجنيها من الفضاء الإلكتروني والرقمي المتطور جدا، مثل المناورات التي تمّ إجراؤها للتدريب على هذا النوع من الصراع الدولي، وكيف يمكن مواجهته والاستعداد له مثل الحرب بين جورجيا وروسيا عام 2008 وبين إستونيا وروسيا عام 2007، كما قامت كل من الولاياتالمتحدة والصين ببناء وحدات إلكترونية على شبكات الأنترنت. من التّحدّيات والتّهديدات السيبرانية التي تواجه الدّول وتهدّد أمنها المعلوماتي نجد: - الجريمة السيبرانية داخل الدول: تشكّل تهديدا مباشرة ومؤثّرا على استقرار الدولة وكيانها، فهي - أي الجريمة السيبرانية - نشاط غير مشروع موجها لنسخ أو تغير أو حذف أو الوصول إلى المعلومات المخزنة على الحاسوب مثل التصنت على الهواتف، وسرقة الوثائق السرية، وتسريب بيانات للمواطنين وغيرها، كل ذلك له التأثير الكبير على الأمن المعلوماتي للدولة وللأفراد. - الإرهاب الإلكتروني: هو عبارة عن الدمج بين العنف وتوظيف التكنولوجيا مع مواكبة عصر العولمة، تتّسع ساحة الفاعلين الدوليين، منهم: الدول القومية، المنظمات الحكومية العالمية والقومية، الفواعل فوق القومين مثل الاتحاد الأوروبي، التحالفات الدولية سواء اتخذت طابعا عسكريا أو سياسا، أو كليهما، المنظمات الدولية غير الحكومية، أو العابرة للقارات مثل الصليب الأحمر...، المنظمات الإجرامية متعددة الجنسية، حيث تقوم بعمليات قرصنة لسرقة المعلومات واختراق الحسابات البنكية، وسرقة بطاقات الائتمان وتعتبر القوة إرهابا عبر الأنترنت، إذا صاحبها دوافع سياسية مثل التأثير على الرأي العام، قرارات الحكومة، وتعتبر حركات التحرر الوطني من أهم الفواعل من دون الدول. من هنا يبرز لدينا أنّ توظيف تكنولوجيا المعلومات الحديثة كان لها الدور الكبير في تسريع وانتشار الفكر المتطرف من قبل المنظّمات الإجرامية إلى كافة الدول عبر تلك الوسائط الالكترونية والرقمية هذا من جهة، ومن جهة ثانية تستعملها حركات التحرر المختلفة من أجل التأثير على الرأي العام الدولي وإبراز مدى عدالة قضيتهم التّحرّرية، وهذا ما يعبر عن الشق الإيجابي لتوظيف القوّة السيبرانية في القضايا العادلة والتّحرّرية. آليات مواجهة التّهديدات: مقاربات عملية ونظرة استشرافية تشكّل تلك التّطوّرات للقدرات التكنولوجية والإلكترونية للدول في ميدان القوّة السيبرانية، مكوّنا رئيسيا من مكوّنات مناعتها على الصّعيدين المحلي والعالمي، وممّا لا شك أنّ أمنها القومي يتأثّر سلبا وإيجابا من خلال جملة من الاستراتيجيات القومية الواجب توفرها تجنّبا لأي طارئ قد يرهن أمن تلك الدول القومية، وفي أي لحظة وتصبح تلك الدول عرضة للمساومات والتنازلات المفروضة، لذلك فالانفتاح على المعرفة والاستعانة بتكنولوجيا المعلومات والاعتماد المتزايد على أنظمة الحواسيب المتطورة وامتلاك القوة السيبرانية في العالم تقف أمامه جملة من التحديات الجديدة التي تتطلب أخذها بعين الاعتبار على المستوى الوطني أو الدولي: - التحديث الإلكتروني المتواصل للأجهزة والمعدات الإلكترونية الحسّاسة والسرية. - تطوير التّرسانة الإلكترونية للدول وعصرنتها لتكون في مستوى المنافسة الدولية. - تدريب الكفاءات الوطنية المتخصّصة في مجال الرقمية، ورسكلتها بشكل مستمر ودوري. - اعتماد جملة من القوانين والتشريعات الصارمة لمواجهة تلك الاختراقات الالكترونية والقرصنة. - تطوير استراتيجية وطنية للأمن السيبراني من أجل حماية المعلومات والبيانات للدولة وللأفراد، ومواجهة التهديدات السيبرانية المحتملة. - التوعية المستمرّة للموظفين داخل المؤسسات الرسمية بقواعد استخدام قواعد بيانات المواطنين، وتنمية المعايير المهنية الاحترافية لديهم، مقابل تشديد العقوبات ضد عمليات النسخ أو نقل أو تسريب البيانات. - ضرورة إرساء بنية تحتية للدول بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف من أجل صناعة البرمجيات عالية التقنية، ومحصّنة ضد الإختراقات الإلكترونية والقرصنة المتكرّرة. لقد تحوّل مفهوم الصراع الدولي في الفضاء الإلكتروني، من خلال تأثير التكنولوجية الرقمية المتطورة بشكل لافت على استخدامات مفهوم القوة التقليدية في الصراعات الدولية المختلفة وخاصة في مجال الحروب السيبرانية، فكثير من الدول تسعى لدخول مجال التسابق والتنافس في امتلاك القوة السيبرانية من خلال الفضاء الإلكتروني، واستعمالها كأداة للصراعات الدولية وتحقيق مكاسب وانتصارات متنوعة على الصعيد السياسي أو الاقتصادي والعسكري باستعمال تلك التكنولوجيا الرقمية المتطورة، وبذلك انتقلت الفواعل الدولية من مستوى الحروب والتهديدات الأمنية الكلاسيكية إلى مستوى حروب وتهديدات من نوع مختلف، وهي الحروب والتهديدات السيبرانية. ومن جملة النتائج: ^ الصّراع الإلكتروني الدولي أحد أوجه الصّراع التقليدي، الذي يهدّد الأمن الدولي وأمن الدولة الواحدة، والذي يستطيع أن يخلّف خسائر فادحة كبيرة لها، ويتسبّب في شل البنية المعلوماتية والاتصالية والرقمية للدولة المستهدفة عن طريق امتلاك تلك القدرات التكنولوجية والسيبرانية كبرامج التّجسّس والفيروسات. لقد أصبح المفهوم الجديد للأمن القومي خلافا للمفهوم التقليدي يهدف للحفاظ على سلامة الدولة والأفراد في ظل تلك التطورات التكنولوجية والرقمية السريعة والمتطورة، ومن ثم اختلفت آليات التعامل معها، وأصبح الأمن انعكاساً للمسار التاريخي الذي عرف تطورا تصاعديا، وذلك انعكس على طبيعة الصراع الدولي الراهن مع الموجة المعلوماتية الجديدة التي يشهدها العالم، والتي تأثّرت بتكنولوجيا المعلومات والفضاء الأزرق، والذي غيّر طبيعة الصّراع والقوّة التّقليديين وممارستها على الصعيد الدولي، وبذلك أحدث جملة من التّغييرات داخل البيئة الأمنية للنظام الدولي الراهن. اتّجه الصّراع الدولي الرّاهن نحو التنافس في ساحة الإنجازات الاقتصادية والنجاحات التجارية وزيادة الصادرات، وامتلاك الأفكار والإبداعات المتنوعة واكتساح الأسواق العالمية، ذلك كله من خلال اكتساب المعلومات والبيانات والأسرار بالاستعانة بالقوة السيبرانية التي تمتلكها بعض الدول لاختراق تلك الأسرار الاقتصادية والتقنية والعلمية والتجارية للدول الأخرى من أجل تحقيق التنمية، ورفع معدلات النمو الاقتصادي لها. - إنّ ظهور الإرهاب الدولي الجديد الذي يوظف تكنولوجيا الاتصال والمعلومات يعتبر من أخطر التّهديدات الأمنية الجديدة التي تهدد أمن الدول والمجتمعات على حد سواء، ويختلف تماما عن الإرهاب التّقليدي، وذلك من خلال خصائصه وآثاره وطبيعة أطرافه، وإمكانية استخدامه للقوة السيبرانية كتهديد مباشر والاستعمال المفرط لكل البرامج المتطورة في مجال الفضاء الإلكتروني، واستعمالها في كافة أنشطته الحسّاسة، والتي تهدّد الأمن الدولي والعالمي كالإرهاب النووي والبيولوجي والكيماوي.