لعلّ أبرز وصف يترجم مدى الخطر الذي يفرضه الإرهاب على إفريقيا، ذاك الذي قدّمه رئيس مفوّضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي، بداية الأسبوع، خلال قمّة مالابو بغينيا الاستوائية، حيث لفت الدبلوماسي التشادي إلى أنّ «الإرهاب، بمثابة غرغرينا تنخر بشكل تدريجي كل مناطق القارة». وصف فقي يضع الأصبع على الجرح، ليذكّر المجموعة الدولية المنشغلة بحرب أوكرانيا وأزمة الغذاء والفيروسات، بأن القارة الإفريقية تعاني بحدّة من ظاهرة الإرهاب التي تزداد شراسة وتمدّدا، حيث تضاعفت أعداد التنظيمات الإرهابية وأرقام المنخرطين فيها خاصة بعد أن تمّ تجنيد المرتزقة والدمويين الذين انسحبوا من سوريا والعراق بعد إنهاء مهمتهم القذرة هناك. وحسب مؤشر الإرهاب الدولي لسنة 2022، فإن دول الساحل - خاصة ماليوبوركينافاسووالنيجر، تتصدّر المراكز الأولى سواء فيما يتعلق بالهجمات الدموية أو معدل الضحايا، حيث تحولت منطقة الساحل والصحراء خلال السنوات الأخيرة إلى نقطة جذب للإرهابيين القادمين من كلّ مكان، وبرزت العديد من التنظيمات الإرهابية تحت مسمّيات مختلفة ينتمي بعضها لتنظيم «القاعدة» الدموي ويتبع بعضها ل «داعش»، وقد ارتكب التنظيمان جرائم مروّعة ضد السكان، سواء في إطار مواجهتهما للقوات العسكرية والأمنية بدول المنطقة، أو في سياق محاربتهما لبعضهما البعض، وخلال العامين الأخيرين دفع المدنيون فاتورة رهيبة من القتلى والنازحين والمشردين دون الحديث عن الخسائر المادية الجسيمة. لقد عرف إقليم الساحل تدهورًا كبيرًا، إذ سجلت بوركينا فاسو وماليوالنيجر زيادات كبيرة في الوفيات جرّاء أحداث إرهابية في العام 2021. وتضم قائمة الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب في أفريقيا جنوب الصحراء ستًا من دول الساحل. ومثلت الوفيات في أربع دول إفريقية مجتمعة (بوركينا فاسو والصومالوماليوالنيجر) نسبة 34 % من إجمالي الوفيات في العالم في العام 2021، كما تنشط اثنتان من أخطر الجماعات الإرهابية الأربع في العالم في إفريقيا، وهما حركة «الشباب» وتتمركز في الصومال، وجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الدموية في الساحل. قوّة عسكرية قارية لا جدال في أن الوضع الأمني بلغ أقصى درجات التدهور بإفريقيا، لهذا عقد قادة القارة السمراء بداية الأسبوع قمّة استثنائية في مالابو عاصمة غينيا الاستوائية لبحث وسائل وطرق مواجهة الإرهاب الذي لم تعد تحدّه حدودا أو تصدّه أسلحة، كما بحثوا أيضا تدفق المقاتلين الأجانب والشركات العسكرية والمرتزقة، فضلا عن الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وانعكاس كلّ ذلك على السلام والأمن والاستقرار والتنمية بإفريقيا. وبالمناسبة، وبعد أن أعرب عن أسفه «لعدم كفاية التضامن الإفريقي مع البلدان المتضررة»، دعا رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي قادة القارة إلى اتخاذ تدابير ملموسة، أولها إنشاء قوة عسكرية قارية تحدّ من الاعتماد على القوات الأجنبية التي لم تحقق تدخلاتها أيّة نتائج تذكر، بل على العكس تماما، حيث أدّت إلى استفحال الإرهاب بدل دحره. وقال موسى فقي «نفتقد للإرادة السياسية بالرغم من أن لدينا الوسائل والرجال، فالجيوش الإفريقية قوامها نحو 2.7 مليون عنصر، وتعبئة 1 إلى 2 % فقط منهم وتزويدهم الوسائل اللازمة، يسمح بتقليل اعتمادنا على القوات الأجنبية». وأضاف: «إفريقيا بلا شك آخر قارة في العالم تشهد إرهاباً بهذه الكثافة، ولا تزال هناك تغييرات غير دستورية في الحكم، وهاتان الظاهرتان تُقوّضان أولوياتنا التنموية». وأدان بشدة «العودة القوية للانقلابات العسكرية في إفريقيا» بذريعة «عجز الحكومات المدنية المنتخبة ديمقراطياً على مكافحة الإرهاب»، وهي ذريعة جديدة للانقلابيين. أفرقة الحرب على الإرهاب الحديث عن إنشاء قوة عسكرية قارية لمحاربة الإرهاب، يقود لطرح أكثر من علامة استفهام، أوّلا عن إمكانية إنشاء هذه القوة التي يدور حولها الحديث منذ أزيد من عقدين، وثانيا عن حظوظها في النجاح - إذا رأت النور طبعا - خاصة وأن تجربة مجموعة «ساحل5» لا تبعث على التفاؤل. فإثر استفحال العمليات الإرهابية، قرّرت خمس دول من الساحل الإفريقي، في جويلية 2017، تكوين قوة «ساحل 5» برعاية فرنسية تضم 5 آلاف عسكري من موريتانياوتشادوماليوالنيجروبوركينافاسو، وتحدّد هدف هذه القوة في التنسيق العسكري بين الدول الخمس لمواجهة التنظيمات الإرهابية ومهربي المخدرات، ما يسمح بتدعيم العمليات الإنسانية وعودة النازحين واللاجئين واستعادة سلطة الدولة وتنفيذ استراتيجيات التنمية. إلاّ أنّ هذه المجموعة تعثّرت ولم تحقّق المبتغى، حيث اصطدمت بالعديد من العقبات والمشكلات الهيكلية، أهمها نقص التمويل، فلم يخصص لها مجلس الأمن الدولي الدعم اللازم بحجة أنه يدعم بعثة الأممالمتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، وبمبرر وجود عملية برخان الفرنسية، وجاءت المساهمة الأوروبية ضئيلة جداً، الأمر الذي حرم هذه المجموعة من التفويض الكافي لمحاربة الإرهاب. وبالإضافة إلى الجانب المالي، تعاني مجموعة «ساحل 5» إقليميا من نقص الموارد البشرية، وضعف الدعم اللوجستي، وغياب التنسيق بين الدول الأعضاء، وتتعرض قواتها لاتهامات بارتكاب انتهاكات حقوقية. كما أن الاضطرابات السياسية التي تعيشها دول المجموعة كثيرا ما تجعل هذه الدول تركّز على التهديدات الداخلية التي تعاني منها وتنشغل عن التهديدات المشتركة، ونذكّر بقرار تشاد في أوت 2021 سحب 600 عسكري، يمثلون تقريباً نصف عدد قواتها في المجموعة للتركيز على مخاطر المجموعات المتمردة، ومع قرار الحكومة المالية الانسحاب منها تزداد مجموعة «ساحل 5» ضعفاً، حتى أن رئيس النيجر محمد بازوم حكم بموتها. وقد جاء قرار المجلس العسكري الحاكم في مالي بالانسحاب من المجموعة احتجاجاً على رفض تولى بلاده رئاستها، ليفرض مزيدا من التفكير حول قدرة الأفارقة على محاربة الإرهاب بمفردهم، خاصة مع غياب الإمكانيات والتمويل والكفاءة القتالية، إذ يؤكّد الواقع، بأن التنظيمات الإرهابية تتمتع بقدرات قتالية كبيرة نتيجة الخبرة التي اكتسبها عناصرها في سوريا والعراق، وتتوفر على أسلحة فتاكة قد لا تمتلكها جيوش المنطقة. كبح التّدخّل الأجنبي التشديد على إنشاء قوة إفريقية يصبّ في اتجاه تقليص ووقف الاعتماد على التدخلات العسكرية الخارجية العقيمة، التي باتت الشعوب الإفريقية تعتبرها استعمارا جديدا يجب التخلّص منه، كما حصل في مالي، عندما انتفض الشعب والقيادة العسكرية هناك ضدّ الوجود الفرنسي، ما أجبر باريس على إنهاء عملية «بارخان» وسحب قواتها. ومعلوم أنّ الوجود العسكري الأجنبي في عموم إفريقيا، وفي الساحل على وجه الخصوص، كان مقصورًا سابقًا على تقديم المشورة والتدريب وتجهيز الجيوش الوطنية، ولكن منذ بداية أزمة مالي عام 2012، توسّع هذا الوجود ليشمل نشر قوات برية، وإقامة قواعد لوجستية وعسكرية. لكن تزاحم القوات الأجنبية بعددها وعدّتها وجنسياتها المختلفة لدخول المنطقة، لم يحقق شيئا في مجال مكافحة الإرهاب، فالظاهرة ازدادت استفحالا، ما جعل القوات الأجنبية تقع في مرمى انتقادات عديدة وعلنية، وأصبح ينظر لها على أنها بمثابة احتلال يجب دحره. وقد وقفنا ولا زلنا على احتجاجات ومظاهرات تجري في هذه الدولة والأخرى للمطالبة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، الذي يرمي في حقيقة الأمر إلى حماية مصالح الدول التي تقف وراءه، ومن مالي إلى بوكينافاسو وتشاد وغيرها، اهتزّت الشوارع بصوت واحد تطالب بالتخلّص من الاستعمار الجديد، وتمنع أي اتفاقيات عسكرية جديدة مع القوى الخارجية، مثلما حصل في غانا في أفريل الماضي، حيث خرج الشعب في احتجاجات عارمة رفضا لاتفاق التعاون الدفاعي مع الولاياتالمتحدة، ما جعل الرئيس «نانا أكوفو أدو» يعلن «أن غانا لم ولن تسمح للولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية فيها». المقاربة الأمنية لا تكفي إنّ الاستياء الإفريقي من الوجود العسكري الأجنبي، يدفع بقوّة للتفكير بجدية أكثر في إنشاء قوة عسكرية قارية تقود الكفاح ضدّ الإرهاب، كما يدفع للبحث عن مقاربة فعالة لتحقيق الأمن والاستقرار تقوم على تحديد المسبّبات الحقيقية للإرهاب ومعالجتها، وهو المطلب الذي ترفعه الجزائر في كلّ مناسبة، حيث شدّدت خلال قمة مالابو الأخيرة على لسان وزير الشؤون الخارجية رمطان لعمامرة، على التركيز على معالجة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة التي تنخر إفريقيا، وتمنع استقرارها وتنميتها. لعمامرة وخلال تقديمه لعرض عن التقرير الذي رفعه الرئيس عبد المجيد تبون بصفته منسقا للاتحاد الإفريقي حول الوقاية ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف في إفريقيا، أوضح بأن «الجزائر تعلمت من تجربتها بأن هزيمة الإرهاب بالاعتماد على الوسائل العسكرية فقط ستكون دائما غير مكتملة، لأن هذه الآفة ستجد دائما طريقة أو أخرى للظهور من جديد»، مشيرا إلى أن «الاستجابة الجماعية يجب أن تعتمد على إستراتيجية متكاملة وشاملة تضمن معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب، ومكافحة التطرف والدعاية الإرهابية، خاصة تجاه الشباب، وكذا معالجة الانعكاسات المدمرة الناتجة عن الإرهاب على المجتمع بما في ذلك دعم الضحايا ومعالجة مسألة إعادة الإدماج، مع ضرورة إعادة بناء وتعزيز ثقة السكان في قدرة حكوماتهم على الاستجابة لاحتياجاتهم». الجزائر التي عانت قبل غيرها من الإرهاب، لا تترك مناسبة تمرّ إلاّ وتستغلها لعرض تجربتها الناجحة في محاربة هذه الظاهرة المقيتة، وقد استغلت قمة مالابو المنعقدة، السبت الماضي، بغينيا الإستوائية لتنصح المجتمعين بإيلاء الاهتمام اللازم للعوامل التي أدت إلى انتشار هذا العدوان العنيف، على غرار تهجير وعودة المقاتلين الأجانب الذين تلقوا الهزيمة في مناطق الصراع الأخرى، خاصة في الشرق الأوسط، واستغلال الجماعات الإرهابية للفضاء الافتراضي لنشر دعايتها وتجنيد الشباب، وتحالفها مع مجموعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، بما فيها التي تتاجر بالمخدرات وبالبشر، واستغلالها غير المشروع للموارد الطبيعية ودفع الفدية. ولا تغفل الجزائر وهي تحصي أسباب الإرهاب عن الانعكاسات السلبية لظاهرة الانقلابات العسكرية، حيث تضعف مؤسسات الدولة وتفاقم المشهد الأمني الهش في العديد من البلدان. الوقاية والعمل الجماعي رمطان لعمامرة ومن خلال عرضه، أكد بأن الوقاية من الإرهاب ومكافحته «يستدعيان درجة عالية من اليقظة والتعبئة والتعاون»، وأشار إلى أنه «نظرا لتراجع الاهتمام العالمي بهذه المسألة، يجب أن نسعى بشكل جماعي لزخم دولي من خلال التأكيد على أن ما تواجهه إفريقيا هو تهديد عالمي ليس له حدود، وهو خطر لا ينبغي ربطه بأي دين أو جنسية، ولا يجب مساواته مع النضال المشروع للشعوب الواقعة تحت الاحتلال من أجل حقها غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال على النحو المنصوص عليه في اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1999 حول الوقاية من الإرهاب ومكافحته». وفي هذا الشأن، دعا لعمامرة الشركاء الدوليين إلى «زيادة مساعدتهم للدول الإفريقية الأعضاء، دعما لجهودهم في مكافحة الإرهاب، وفي نفس الوقت التركيز على معالجة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة». لا شكّ أن الإرهاب هو وجع إفريقيا الكبير، ومواجهته والتغلب عليه ليس بالأمر الهيّن ولا اليسير، فهو يحتاج إلى تكاتف قاري ودولي، وإلى إستراتيجية مقاومة فعالة وشاملة تبحث في أسباب هذه الآفة العالمية، وتعمل على علاجها بآليات محدّدة تضمن في النهاية أمن واستقرار القارة. ويبقى في الأخير التأكيد على أهمية الرؤية الجزائرية الشاملة و الجامعة لتحجيم الإرهاب، والقضاء عليه باعتباره آفة لا يمكن مواجهتها إلا بالعمل الجماعي والوقاية، والبحث عن مقاربة أخرى غير المقاربة الأمنية، تعتمد على التنمية والحكم الراشد والتعليم ومحاربة البطالة.