تدخل الشّراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية -بالبنط العريض - في مهام الجامعة منذ ظهور (ل.م.د) (الليسانس، الماستر، الدكتوراه) وتطبيقه على الأقل. فهذه الشّراكة ليست سوى الآليات التي تهدف في منطق العمل إلى تعزيز الروابط بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية؛ لإنجاز أعمال مشتركة؛ والتي تكتسب أهمّية خاصّة بالنّسبة للجامعة والمؤسّسة الاقتصادية على حدّ سواء؛ لأنّها تتيح للجامعة أن تكون في تكافل مع بيئتها الاجتماعية والاقتصادية؛ من خلال أجهزة متعدّدة (مشاتل، حاضنات…)، وتفتح المجال للمؤسّسة الاقتصادية التي ترغب في الاستفادة من التطورات التكنولوجية ونقلها. إنّ التطرّق لهذا الجهاز اليوم لا يمكن أن يمرّ دون تحليل الصعوبات التي تقف مثل الجبل الذي يصعب تسلّقه. وفي هذا المقال؛ سنحاول - على الرّغم من كلّ شيء - تقديم بعض الأفكار للنقاش على ضوء بعض التجارب الجامعية؛ حتى نقترب ولو قليلا من قمة الجبل. الآثار المترتّبة عن الشّراكة ومتطلّباتها ومبادئها
يترتّب عن الشّراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية مصالح جماعية عديدة؛ ينبغي ترجمتها إلى عمل حتى يكون لهذه الشراكة معنى مستديم وقابل للتطبيق؛ هذه الشّراكة من شأنها تمكين الجامعة من الانفتاح على بيئتها، وضمان التربّصات الميدانية لطلّابها، والاندماج والمتابعة المهنية، وتطوير برامج تكوينية تلبّي احتياجات المؤسّسة الاقتصادية، ورعاية الأحداث العلمية (الندوات والملتقيات، ...) وتطوير تثمين البحوث...أمّا بالنسبة للمؤسّسة؛ فإنّ مصلحتها واضحة؛ فهذه الشراكة تسمح لها بمعرفة أحدث نتائج البحث، ودمج التقنيات الجديدة؛ من خلال حركة الأفكار، وتحسين صورة علامتها التجارية، والتكوين المستمرّ لموظّفيها... ويتطلّب تحقيق هذه الأعمال على أرض الواقع تهيئة البيئة التي يعمل فيها هذان الكيانان أوّلا، ثمّ خلق فضاءات يمكن من خلالها إعداد المشاريع من البداية إلى النهاية؛ تحت الرعاية المشتركة للجامعة والمؤسّسة الاقتصادية (الحاضنات) من خلال إنشاء فضاءات للدّعم والخدمات الاستشارية لمؤسّسي الشركات (مشاتل) وخلق فضاء حضري، أو مشروع مشترك يجمع بين المؤسّسات والمؤسّسات الأكاديمية ومراكز البحوث والتكوين المهني (قطب تكنولوجي). ومن الواضح أنّ هذه الشراكة لا يمكن تحقيقها إلا إذا اجتمعت عدّة مبادئ مثل: مبدأ المصالح المتبادلة؛ حيث يجد كلّ طرف امتيازاته، ومبدأ المساواة؛ حيث يجب ألا تكون العلاقة بين الشركاء هرمية بل على قدم المساواة، ومبدأ الاستقلال الذاتي؛ حيث يظلّ الشركاء أحرارا في أعمالهم، وأخيرا؛ مبدأ التعاون؛ الذي يتطلب مساعدة متبادلة من الشركاء (بما في ذلك الشركاء الاجتماعيون) والتبادل الهادف للمعلومات والبيانات والخبرات. مصدر صعوبات الشّراكة بين المؤسّسة الاقتصادية والجامعة نظرا لوجود العديد من المزايا في الشراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية؛ يتساءل المرء عن سبب عدم تحقيقها في كثير من الأحيان، ولماذا يُستخفّ بها كثير من كلا الطرفين! ولعلّ السّبب بعود في الواقع إلى صعوبات نظامية في كلٍّ من الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية. وإذا كانت الجامعة غارقة في تضخيم اليد العاملة التي تميل إلى أن تستغرق كلّ وقتها؛ فإنّ الجامعيّين أنفسهم من خلال تكوينهم يرجعون بشكل عامّ لمجتمع الأعمال، وعلاوة على ذلك؛ فإنّ أيّ محاولة تصطدم بصلابة النصوص التنفيذية في هذا المجال. أمّا بالنسبة للمؤسّسة؛ فهي تزرع مواقف معادية للجامعة، وتعتبر أن الدراسات الجامعية نظرية للغاية؛ كما أنّ المؤسّسة الاقتصادية منهمكة أيضًا في إدارة أعمالها، ومراقبة السوق، وما إلى ذلك. تميل هذه الصّعوبات - جنبا إلى جنب مع عدم وجود ثقافة جامعية ومهنية - إلى أن تتعزّز؛ إذا استمرّت الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية في اتّخاذ مسارات متباينة؛ فهي مصدر العديد من المشاكل للحكومات؛ مثل: البطالة، وانخفاض عائدات الاستثمار الممنوحة للتكوين والبحوث؛ ففي الجزائر؛ وحسب الإحصائية التي بحوزتنا من عام 2019؛ بلغ معدّل البطالة على المستوى الوطني خلال 11.4 ٪ من السكان العاملين؛ أي: 1449,000 شخص؛ منهم 70 ٪ من الرجال و30٪ من النساء، ويبلغ معدّل بطالة الشباب من إجمالي السكان العاطلين عن العمل 26.9 ٪ والمقسمة إلى 45.8 ٪ من غير الحاصلين على شهادات، و26.5 ٪ من خريجي التكوين المهني و27.8٪ حاصلين على شهادة التعليم العالي (المصدر: منظمة العمل الدولية / مكتب الإحصاءات الوطني لعام 2019). ويبلغ عدد المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة 1393339 التي تُوظّف 2885651 موزعة بطريقة غير متوازنة على التراب الوطني: 69.69% في شمال البلد، و21.98% في الهضاب العليا، و8.43% فقط في الجنوب. وبلغ عرض العمل لهذه المؤسّسات لنفس الفترة 4096 عمل، 80 ٪ منها من القطاع الخاصّ و20 ٪ في القطاع العمومي. وهذه النتائج تتناقض مع السياسات والوسائل التي تخصّصها الحكومة لتنمية المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة. وتتفاقم هذه الصعوبات بسبب الوضع الوبائيّ لفيروس كورونا؛ الذي ساهم في إبطاء الأنشطة بشكل كبير؛ كما أنّها تتفاقم بسبب مواصفات بعض التكوينات الجامعية غير المناسبة حاليًّا لاقتصاد البلد. فعلى سبيل المثال؛ يمثّل التكوين في العلوم الإنسانية حوالي 65 ٪ من الطلّاب؛ على حساب التخصّصات التكنولوجية الأكثر احتمالا لخلق فرص العمل. وأخيرا وليس آخرا؛ شكل المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة؛ فهي تتألّف من 97 ٪ من المؤسّسات الصغيرة جدًّا؛ التي لديها أقلّ من 10 موظّفين، و2.6٪ من المؤسّسات الصغيرة التي تضمّ ما بين 10 و49 موظّفا، و0.4 ٪ من المؤسسات المتوسّطة؛ التي يبلغ عدد موظّفيها ما بين 50 و249 موظّفا. ويمكن ملاحظة أنّ المؤسّسات الصغيرة جدًّا تهيمن على هذه الفئة من المؤسّسات؛ وعادةً ما تكون هذه المؤسّسات مؤسّسات عائلية ولصغار التجّار والحرفيّين؛ والتي لها تأثير ضئيل أو معدوم على اقتصاد البلاد. العوامل التي تعيق شراكة الجامعة تتقاسم كلٌّ من الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية مسؤولية الصعوبات والعوائق التي تعيق الشّراكة بينهما، وتلحق الضرر باقتصاد البلاد. فأمّا الجامعة؛ فترى أنّ مهنة الأستاذ تقوم على البحث الأساسي المنجز، وتنظر إلى البحث والتطوير على أنّهما عبءٌ إضافيٌّ بدون فوائد، والعمل المنجز على مستوى المخبر غير واضح في ظلّ اهتمام المؤسّسة الاقتصادية بالبحث عن حلّ مشاكلها في مكان آخر؛ بدلًا من اللّجوء إلى الجامعة. وأمّا المؤسّسة الاقتصادية ، فتفتقر إلى حوافزَ لتثبت وجودها في التكوين والمشاركة في تطوير المناهج الدراسية؛. كما أنّ هناك أيضا ضعفا واضحا في استضافة المتربّصين (يعتمد التربّص الداخلي النادر على المعرفة الشخصيّة) بسبب عدم وجود مكتب ربط بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية. وممّا يثير القلق أنّ بعض المؤسّسات تكافح من أجل هيكلة احتياجاتها والتعبير عنها بوضوح. وأمّا من جانبهما معًا؛ أي: الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية ؛ فيتمّ إمضاء العديد من الاتفاقيات؛ ولكن لا يتبعها أثر، وتتمثّل عواقبها في تغليط الإحصاءات، وتشويه سمعة العلاقة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية، وتثبيط الموظّفين من كلا الجانبين، وإبطاء إنشاء آليات الشراكة (الحاضنات، المشاتل، الأقطاب التكنولوجية). دور الشّريك الاجتماعي ودور الوزارة يجب أن يكون الشّريك الاجتماعيّ مهتمًّا بتطوير المؤسّسة الاقتصادية وتحديثها، وتحقيقا لهذه الغاية؛ يمكن أن يلعب دورا رئيسًا في بناء مشروع شراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية؛ من خلال تشجيع المؤسّسات على معرفة المزيد عمّا يجري في الجامعات؛ من خلال تشجيع تنفيذ وحدة مسؤولة عن الاتّصالات مع الجامعة داخل المؤسّسة الاقتصادية، وتعزيز الاجتماعات والموائد المستديرة التي تجمع بين الأكاديميّين والمهنيّين من أجل مشاريع الشراكة. ويتعلق الأمر أيضا بإقناع المؤسّسات بالترحيب بالمتربّصين والإشراف عليهم لمعرفة الطلّاب بشكل أفضل (موظّفيهم في المستقبل)، وإقناع المؤسّسة الاقتصادية باستثمار الوقت والمال في الشراكة، وفي النهاية تنبيه المؤسّسة الاقتصادية حتّى تصبح أكثر وعيا بالابتكار في المؤسّسة الاقتصادية. أمّا دور الوزارات المعنية؛ فهو دور رئيسٌ أيضا؛ إذ يتعيّن عليها تكييف النصوص لتشجيع مختلف الشركاء على التعاون على نحو أفضل، ويجب أن تُمكِّن هذه النصوص المؤسّسة الاقتصادية بالفعل من الاستفادة من التحفيزات (التخفيض الضريبي على سبيل المثال)؛ كما يجب أن تُمكِّن الجامعة الأخذ في اعتبار التطوير الوظيفي النتائج التي حصل عليها الباحث التابع لمشروع شراكة حقيقيّة للاستفادة منها بإنصاف...ولكن يجب التأكيد على الدور الذي يجب على وزارة التكوين المهني في الجهود المبذولة للتغلّب على هذه الصعوبات. الإجراءات والتّوصيات من أجل شراكة مثمرة وفقا للصّعوبات المذكورة، والنتائج المتوصل إليها على أساس التجربة، وممارستنا في هذا المجال؛ يمكننا تقديم سلسلة من التوصيّات اللازمة لبناء هذا الجهاز ذي الفائدة العالية لسير اقتصاد البلد. اعتبار الشّراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية جزءًا من مهامّ الجامعة؛ وفي الوقت نفسه ضرورية للمؤسّسة؛ الإصرار على الحاجة إلى مزيد من الدعم من الشركاء، وتطوير دورات تكوينية لإضفاء الطابع المهني عليهم؛ إجراء دراسات حول المواءمة بين التكوين والتوظيف من أجل التحكّم في احتياجات المؤسّسة الاقتصادية، واقتراح تحسينات على البرامج الدراسية على أساس هذه النتائج. خلق جو من الثقة ملائم للحوار والتواصل، وأن تصبح المؤسسات تقدّر مزايا هذه الشراكة، وإنشاء أجهزة تسيير مشروع الشراكة (الواجهات، الحاضنات المشاتل…). وتنظيم ندوات حول مواضيع مفيدة لصالح الصناعيّين. وإذا كان هناك شرط مسبق للتنفيذ الفعال والمفيد لهذه التوصيات، فهو ألا نهمل التحول الثقافي الأساسي، والتحكّم في تحدّيات هذه الشراكة؛ كما يوصى بعوامل أخرى: كالتكوين المستمر وتوفير الخدمات، وعقود البحوث التطبيقية، وتجسيد فكرة «طالب خمس نجوم»، ومتابعة توظيف ورضا الخرّيجين والتحقيق فيه، وتهيئة الجوّ المواتي للمبادرات والعمل. وأخيرا؛ فإن العامل الذي يبدو ذا صلة بالشراكة المثمرة هو المعرفة الجامعةِ المسبقةُ للشريك: هل لديه القدرة على التطوير والتكامل والتحويل والاستثمار والإنتاج وما إلى ذلك؟ وما مدى موثوقيته؟ وهل هو الشريك الأفضل؟ ليبقى هناك جزء آخر ضروري بنفس القدر لتحقيق شراكة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية هو تثمين البحث (ممّا يجعل نتائج البحوث التي أجريت في الجامعة أو في المؤسّسة الاقتصادية قابلة للاستخدام المشترك والتسويق). لذلك؛ إذا كان التثمين مهمة جديدة للجامعة؛ فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ستتكيّف الجامعة مع مهامّها التقليدية المتمثّلة في التدريس والبحث؛ مع عدم إغفال دورها كمسرّع للابتكارات. وختامًا؛ من الضّروري التأكيد على ضرورة إنجاز مدوّنة المهن، ويتعلّق الأمر بالنسبة للمؤسّسات بتصميم ملفّات المهن أو التوظيف وفقا للمرجع التجاريّ للمدوّنة الجزائرية للحرف والوظائف) وبالنسبة للجامعات؛ فإنّ الأمر يتعلق بتنفيذ محرّك بحث في مواقع الويب (المؤسّسات والجامعات والوزارات) يستغلّ المدونات المطوّرة لجعل كلّ من عروض التكوين والملف الوظيفي للمؤسّسة واضحا؛ من أجل تطوير استماراتٍ للتخصّصات وفقًا للمدونة (NAME) التي تتكيّف مع أهدافها. وفي جامعة محمد بوضياف بالمسيلة؛ انتهى العمل المنجز بشأن مدوّنة المهن؛ والذي يساعد إدارة عمل ولاية المسيلة على إنجاز البطاقات الوظيفيّة لجميع مؤسّسات الولاية، وإنجاز بطاقات التخصّصات لعروض التكوين. وأخيرا؛ يجب الإصرار على الحاجة إلى إنشاء ضمان الجودة، وهو مجال ذو فائدة عظيمة ولا غنى عنه للجامعة والمؤسّسة الاقتصادية معًا؛ فهو يسمح بموائمة الإجراءات وتحسينها ومتابعتها واحترامها. الخاتمة من المؤكّد أنّ الجزائر لديها خبرة وتجربة في الشّراكة التي تعود بدايتها إلى السبعينيات، والخاصة بالصّناعة المصنّعة آنذاك؛ والتي كانت تتمثّل في تقريب المؤسّسة الاقتصادية والتكوين نحو السيادة السياسية والاقتصادية، فكانت كلّ مؤسّسة ملزمة أن تدرج في ميزانيتها مادّة مكرّسة للتكوين المستمرّ واستقبال المتربّصين. وهذا الشرط لا يزال موجودا؛ ولكن تطبيقه لا يزال غامضا إلى حدّ ما. وفي الاقتصاد القائم على المعرفة؛ تتموقع الجامعة كفاعل مركزيّ؛ حيث إنّ مكانتها ودورها في المجتمع دائما موضوع نقاشات حيّة ومثيرة للاهتمام بين الأطراف المعنية. ومهما كانت الصّعوبات التي ذُكِرت؛ إلّا أنّ الجامعة تظلّ منتجة بامتياز للمهارات الأساسية لسير المجتمع؛ وسبب وجود المؤسّسة الاقتصادية هو استخدام وتحسين هذه المهارات من أجل مصلحتها؛ مع العمل على تحسين الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. إنّ التّعاون بين هذين الكيانين أمر مندوحةَ عنه، ويستند نجاحه واستدامته إلى فهم جميع الأطراف، وإلى المبادئ التأسيسية المقبولة؛ والتي يحترمها الجميع، ووضوح الأهداف المحددة، وشكل الشراكة الذي يتوافق على أفضل وجه مع قدرات وتوقّعات الشركاء. إنّ اتّخاذ هذه الإجراءات من مؤسّسات الدولة أمر ضروريّ؛ لأنّها قضايا ذات أهمية أساسية؛ اجتماعية واقتصادية وعلمية. ولمواجهة هذه التحديات؛ يتعيّن على البلد تعزيز أو حتى إجراء إصلاحات هيكلية في مجالات البحث والتعليم والتكوين؛ مع أهداف رشيدة في الحوكمة السليمة. ^ بروفيسور جامعة محمد بوضياف - المسيلة