لم تكتف الثورة الجزائرية بمواجهة الاستعمار الفرنسي على التراب الجزائري فقط، بل كانت استراتيجياتها محددة منذ البداية، وكانت ترمي إلى مواجهة الاستعمار الفرنسي أينما وجد وملاحقته بأية وسيلة كانت. محمد ودوع* من أجل تحقيق ذلك الهدف فتحت الثورة الجزائرية جبهات لها خارج الجزائر. كانت أكبر جبهة ثورية في الخارج هي نقل النشاط الثوري إلى فرنسا، وتنفيذ عمليات فدائية فوق التراب الفرنسي. في هذا الإطار فإن جيش التحرير الوطني، لم يكتف بنشاطه العسكري على التراب الجزائري فقط، بل فتح جبهات أخرى للجزائر، وظهر هذا بوضوح خاصة بعد مؤتمر الصومام. كانت بعض الوحدات جيش التحرير مرابطة وراء الحدود، وشكلت مصدر قلق للقوات الفرنسية، وذلك من خلال العمليات والغارات العسكرية التي كانت تقوم بها ضد مراكز حراسة الحدود التابعة للقوات الفرنسية، وهذا ما عرف بمعارك الحدود وكانت القوات الجزائرية قد فقدت أكثر من 50 بالمائة من القوات العابرة للحدود الشرقية، ثلاثة أشهر من بداية 1958. فتح جبهة الصحراء على الحدود الليبية تحولت الثورة الجزائرية في صراعها ضد الاستعمار الفرنسي إلى حرب مواقع وصراع استراتيجي، وهذا الذي دفع قادتها لتوسيع دائرة القتال، وفي هذا الإطار جاء فتح جبهة الصحراء لاسيما على الحدود الليبية، بهدف تشتيت قوات الاستعمار الفرنسي وتخفيف الضغط الذي كان مضروب على وحدات جيش التحرير الوطني في الشمال. إضافة إلى ذلك فإن فتح جبهة الصحراء هو رد على إدعاءات الاستعمار الفرنسي الرامي إلى فصل الجنوبالجزائري عن شماله. كانت مناطق الحدود الليبية الجزائرية من بين المناطق النشيطة في جبهة الصحراء، والهدف هنا واضح، وهو ضرب المصالح الفرنسية الاقتصادية وخاصة الشركات البترولية التي بدأت تنتشر. والشيء الذي سهل العمل لفتح هذه الجبهة، هو سهولة تنقل أفراد جيش التحرير الوطني بين الجزائر وليبيا دون مشاكل، كان هناك تنسيقا وتنظيما فيما يخص النشاط العسكري بين مناطق الولاية السادسة، وقاعدة جيش التحرير الوطني المتمركزة في الجنوب الليبي. معركة إيسين عرفت منطقة الجنوب الليبي المحاذية للحدود الجزائرية الليبية أحداث عسكرية عديدة، لكن أهم هذه الأحداث والتي أخذت أبعادا دولية هي معركة "إيسين" التي وقعت في أكتوبر 1957، والتي كانت نتيجة عوامل عديدة نذكر منها: تكوين قاعدة جيش التحرير الوطني بمنطقة "غات" بفزان، بحيث عرفت منطقة الحدود الجزائرية الليبية ومنطقة الجنوب الليبي المحاذية للحدود نشاطا ملحوظا، وكان جيش التحرير قد كسب الساحة الاجتماعية والتي أصبحت عونا كبيرا لنشاطاته، وتحركاته ودليله في كل عمل يقوم به. علما أن السلطات الفرنسية حاولت بمناورات وإغراءات لكسب سكان المنطقة إلى جانبها، من جهتها عملت الثورة على بسط نفوذها في المنطقة بموجب القرارات التنظيمية لمؤتمر الصومام، بحيث نظمت منطقة الجنوبالجزائري، وقد ازداد اهتمام الثورة بهذه المنطقة خاصة بعد ظهور سياسة فرنسا الداعية إلى فصل الصحراء الجزائرية عن الشمال. وفي هذا الجانب يذكر محمد قنطاري أحد المجاهدين الذين كانوا ينشطون في المناطق للحدود الجزائرية الليبية، أن الشيء الهام الذي جعل الثورة الجزائرية تنجح في بسط نفوذها بالمنطقة بكل سهولة هو التركيبة الاجتماعية لسكان مناطق الحدود الجزائرية الليبية، بحيث هناك اختلاط وانصهار في الأنساب والقرابة بين الشعبيين. بل أننا نجد جزائريين الأصل يقطنون في الجنوب الليبي، ومنهم من أصبح ضابطا في الجيش الليبي، واستمرت العلاقات بين الأسر والعشائر، وهذا الانصهار الاجتماعي هو الذي سهل من مهمة نشاط الثورة الجزائرية وإحباط مناورات الاستعمار الفرنسي. وفي مقابل ذلك التنظيم الثوري والنشاط العسكري لوحدات جيش التحرير الوطني في المنطقة، فإن القوات الفرنسية من جهتها قامت بعمليات ودوريات عسكرية على طول الحدود الليبية الجزائرية لمراقبة تحركات وحدات جيش التحرير، وتعقب نشاطه. وفي هذا الشأن يذكر نوري الصديق قائد القوات الليبية: "أنه لما تزايد عدد قوات جيش التحرير الجزائري في منطقة إفاون، فإنه كلف من قبل الحكومة الليبية الموجودة بالشمال إلى منطقة غات، وذلك حتى تكون بالقرب من قوات جيش التحرير الجزائري وبالتالي حمايتها وحماية القوافل التي كانت تحمل المدد للجزائر". ويضيف:« يذكر أن الاتصال كان مستمرا بين وحدات جيش التحرير الجزائري والقوات الليبية وخلال هذا التعاون المتبادل لاحظت أن فيه إخوان من الجزائر وهم التوارق بالإبل "المهاريين" يحملون الأسلحة على جمال مسومة أي عليها أحرف عسكرية". وكانت هذه القوافل تتظاهر بأنها تحمل الأسلحة إلى مراكز جيش التحرير الجزائري، لكن الشك بدأ يخامر قائد الجيش الليبي الذي بعث بدوره إلى قائد الجيش الليبي، وتأكد أن تلك القوافل هي خديعة من قائد الحامية الفرنسية في "غات". إن تحرك المهاريين في المنطقة كان يندرج ضمن محاولة السلطات الفرنسية إنشاء قوات محلية من التوارق موازية لقوات جيش التحرير الوطني بالمنطقة، وكانت تهدف إلى خلق شوكة ضد كل من ليبيا والجزائر، ولذلك فإن الحكومة الليبية أسرعت لإحباط تلك المؤامرة. قامت قيادة القوات الليبية في هذه الفترة بإرسال ثلاث ضباط ليبيين هم مصطفى مينو المدعو عبد ربو ومحمد بن الدم للقيام بعملية استطلاعية على الأوضاع، وكانت النتيجة أن ثبت تخطيط القوات الفرنسية للقيام بهجوم على الجزائريين المتمركزين بمنطقة الفاون. لذلك عمد قائد الجيش الليبي نوري الصديق بنقل مركز جيش التحرير الجزائري، والمتمركز بالفاوت الذي كان مستهدفا إلى مركز قيادة جيش القوات الليبية بغات، وكلف وحدات عسكرية ليبية وعلى رأسها موسى الجزلة، وعبد الله حلو أن يعسكروا في منطقة الفاون برفع العلم الليبي، وذلك لإيهام القوات الفرنسية. وبعد ذلك اتصل بقائد الحامية الفرنسية المدعو "روسي" بغات وأخبر أن ادعاءات السلطات الفرنسية بوجود قوات جزائرية في الجنوب الليبي ليس له أساس من الصحة. حرق القافلة الفرنسية لقد استمرت المناوشات بين قوات الجيش الفرنسي ووحدات جيش التحرير الجزائري، قامت فرقة الكومندوس (الضفادع)، التي تدربت بمصر وأرسلت في باخرة محملة بالأسلحة من أجل حمايتها والقيام بعمليات تخريب في الموانئ الفرنسية بالجزائر، انتقاما للعمليات التي قامت بها القوات الفرنسية ضد بعض البواخر التي كانت تحمل الأسلحة للثورة الجزائرية. لكن هذه الفرقة حولت في الأخير إلى الحدود الليبية الجزائرية، لتنفيذ بعض العمليات الاستشهادية، وبالفعل قامت ببعض العمليات استشهد على إثرها بعض عناصرها في المنطقة. وتحضيرا لهجومات عسكرية فرنسية على مراكز الجيش الجزائري بمنطقة الجنوب الليبي استمرت القوات الفرنسية في عمليات ودوريات عسكرية، بحيث كانت تتنقل بين تقرت وجانت، وذلك لتموين وحدات الجيش الفرنسي المتمركز بمناطق الجنوب الشرقي الجزائري والتي كانت تقوم بحماية وحراسة الشركات البترولية الفرنسية والحدود. ونظرا لانعدام طريق يربط بين المنطقتين، كان على القافلة الفرنسية المرور بالتراب الليبي. نتائج المعركة يذكر الحاج مبروك أمسيك المسؤول الأول على منطقة ايسيين، أنه في صبيحة اليوم الأول من أكتوبر 1957 ظهرت دورية عسكرية فرنسية قوامها ثلاث مدرعات ودبابة مجهزة بالأسلحة، واقتربت من قرية ايسين الليبية حتى وصلت إلى مرتفع تبيت، ثم عادت إلى القاعدة الفرنسية التي تبعد عن هذه المنطقة بحوالي 25 كلم. ويبدو أن الدورية الأولى كانت محاولة استطلاعية وجسا للنبض، فبعد ذلك عادت القوة نفسها في اليوم الثالث من أكتوبر 1957، تصحبها ثلاث طائرات عسكرية. وفي هذه الأثناء جاء الحاج الحسني وهو احد المتصرفين في منطقة ايسين إلى قائد الجيش الليبي نوري الصديق واخبره أن القوات الفرنسية قد هاجمت قرية ايسين. فكان أول رد فعل من جانب القوات الليبية هو استنفار وحداتها، وجعل الجيش الليبي بقيادة يوسف الجزلة وحامية "غات" وفرقة من الشرطة يقودها مبروك أمسيك، يتوجهون نحو قرية ايسين. وأخذت أماكنها في الجبال المحاذية للقرية لإعتراض القوات الفرنسية. ويذكر قائد الجيش الليبي نوري الصديق انه أصبح في حيرة من أمره، فهو يعلم أن هناك اتفاقية صداقة بين ليبيا وفرنسا، وفي الوقت نفسه يرى بأم عينيه القوات الفرنسية تخرق السيادة الليبية. بدأت المعركة بين القوات الفرنسية من جهة والقوات الليبية والجزائرية من جهة أخرى حوالي الساعة التاسعة صباحا، واستمرت إلى غاية الساعة الخامسة مساءً. وتمكنت القوات الليبية من إسقاط طائرة فرنسية، توفي جنديان ليبيان وجرح آخرين، وخلفت بعض الأضرار في بعض المنازل. غير أن القوات الفرنسية التي انسحبت بعد انتهاء المعركة، عادت بعد ذلك وأحرقت الأكواخ المنتشرة هناك، ومن بين نتائج هذه المعركة أن الحكومة الليبية أصدرت بيانا رسميا نشرته على صفحات الجرائد. جاء فيه: "في يوم 3 أكتوبر 1957 قامت القوات الفرنسية المرابطة بجنوبالجزائر، متكونة من بعض الدبابات والمصفحات والجنود تدعمها طائرات بمهاجمة قرية ايسين". كان الهجوم على القافلة الفرنسية في 16 سبتمبر 1957 ثم رد فعل القوات الفرنسية بشن هجوم على قرية ايسين في 3 أكتوبر 1957، أهم حادث تتأثر به العلاقات الليبية الفرنسية وتعقدت الأمور فيما بينهما، فبعد حرق القافلة الفرنسية وجهت السلطات الفرنسية احتجاجا لدى الحكومة الليبية. ووصل بها الأمر إلى حد تهديدها باحتلال منطقة فزان من جديد، من اجل حماية الطريق الحيوي الذي تمر به قوافلها. لجنة تحقيق تدين الاعتداء الفرنسي ومن جهة أخرى حاولت ليبيا اتهام القوات الفرنسية بالاعتداء على ترابها، ووصل الأمر إلى تكوين لجنة تحقيق مشتركة بين ليبيا وفرنسا، كان ممثل الحكومة الفرنسية في ليبيا روسي، وممثل الحكومة الليبية نوري الصديق مسؤول اللجنة ومنصور الكيخيا مندوب الاتصال الخارجي ومترجم للغة الفرنسية. وعن عملية التحقيق كان الموقف الليبي واضح، فقد تبين أن عملية اعتراض القافلة الفرنسية وحرق سياراتها تم على الأراضي الجزائرية، أي لا توجد أي مسؤولية ليبية في ذلك. في حين أن هجوم القوات الفرنسية على القاعدة الجزائرية في ايسين تم في الأراضي الليبية، وما قام به الجيش الليبي هو الدفاع عن أراضيه وشرفه. وانتهت عملية التحقيق بإدانة الحكومة الفرنسية التي اعتدت على الأراضي الليبية، ومن جهة أخرى فإن القوات الفرنسية لم تتمكن من إصابة أي مركز جزائري. في حين نجد أن قيادي السيارات الفرنسية المكونة للقافلة، وكانوا جزائريين انضموا إلى الثورة الجزائرية بعد ذلك. من جهته أرسل قائد منطقة جنوب الصحراء الجزائرية برسالته إلى قائد القوات المسلحة التابعة للجيش الليبي نوري الصديق، شكر الجيش الليبي على كل ما بذلوه من جهود جبارة في سبيل القضيتين العربيتين الجزائرية والليبية. وأرسلت رسالة ثانية شكرت من خلالها كل الضباط والجنود الليبيين التابعين للقوات المسلحة الليبية، الذين أبدوا شجاعة خلال الاشتباك الذي وقع بالحدود الجزائرية الليبية ضد القوات الفرنسية. ندد ممثل الحكومة الليبية في الأممالمتحدة باعتداء القوات الفرنسية على قرية ايسين، وذكر أن ذلك لا يمكن أن يجعل ليبيا تتخلى عن مواقفها اتجاه الثورة الجزائرية. وصرّح أن بلاده تعتبر باعترافها بالحكومة الجزائرية المؤقتة هو أقصر طريق بالنسبة لفرنسا لوضع نهاية كمغامرتها في الجزائر. تكرار الاعتداءات الفرنسية على الحدود الجنوبية لليبيا أثر كثيرا في نفوس الشعب الليبي، فخرج الشعب الليبي في مظاهرات بتاريخ 6 أكتوبر 1958 في أغلب المدن الليبية الكبرى مثل طرابلس وبنغازي. تأييد شعبي وعقد مؤتمر شعبي تضامنا مع الشعب الجزائري، خلص إلى قرارات منها استنكار العدوان الذي ارتكبته القوات الفرنسية على قرية ايسين بفزان، واعتبار العدوان مؤامرة ضد القومية العربية. تأييد الحكومة الليبية بقطع جميع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع فرنسا، إلغاء المعاهدة الليبية الفرنسية غير المتكافئة، واستنكار موقف بريطانياوأمريكا الذي دل على تواطؤ سابق وتدبير مشترك بين قوى الشر الثلاثة. مطالبة الحكومة الليبية بإعادة النظر في المعاهدتين المبرمة مع أمريكاوبريطانيا، وتأكيد الإرادة الشعبية على دعم حركة التحرير الجزائرية، وذلك ببذل الجهود لمساعدة الشعب الجزائري بكل الإمكانيات المادية والمعنوية، وتكتل الجبهة الشعبية وذلك بإعلان التعبئة العامة وفتح مكاتب التطوع، وتدريب الشعب لحمل السلاح حتى يكون مهيأ لرد أي عدوان جديد. * أستاذ بجامعة الجزائر 02