بادئ ذي بدء، أشكر الأستاذ عمر بوساحة رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية الذي أهداني هذه الفرصة الفكرية المعرفية لأقدم مداخلة حول مفكر عزيز عليّ، كمعزة أبي حيان التوحيدي عليه، وأعني المفكر الجزائري المغاربي العربي المسلم محمد أركون. كما أشكر الأستاذ والصديق منير بهادي مدير المكتبة الوطنية الذي وفّر لنا هذا المكان الذي لم أبارح أغلب نشاطاته منذ أن كان الأستاذ أمين زاوي مديرا للمكتبة، كما لهذا المكان معزة خاصة، فهنا في حي الحامة- بلكور عشت طفولتي ومراهقتي وشبابي، وهنا تلقيت تعليمي الابتدائي والتكميلي والثانوي بالثعالبية، وهنا أيضا تلقيت تعليمي الديني التقليدي بمسجدي العربي التبسي والنادي. وبذلك فإني أشعر بنوع من الهيبة والحنين للماضي. في الحقيقة، عندما كلمني الأستاذ عمر بوساحة عن الموضوع، تذكرت الكلام المأثور «أيفتى ومالك بالمدينة»، فقلت له هناك أساتذة جامعيون مختصون في محمد أركون، من أمثال فارح مسرحي ومصطفى كيحل وآخرين، لكن أصرّ وقال لي أنت صديق الجمعية منذ أكثر من عقد، ولك مناشير ومقالات حول أركون توحي أنك متمكن من فكره، وستكون بمعية الأستاذ محمد نور الدين جباب (للأسف غاب بسبب زكام أصابه). فقلت هذا شرف كبير أن أشارك قامة فكرية كالأستاذ جباب، وستكون فرصة للخروج من السياج القانوني والإداري الذي أنا سجين به منذ الثمانينات من القرن الماضي، فاتفقنا على أن تكون مداخلتي «حول تجربتي الشخصية في قراءة الفكر الأركوني خارج الإطار الأكاديمي»، بمعنى كيف تلقى هذا المواطن-الموظف المختص في القانون والإدارة والمالية الفكر الأركوني، ولماذا هذا الاهتمام خارج الانشغالات الأكاديمية، وما هي النتيجة التي توصل إليها، فهل شعر هذا المواطن-الموظف أنه كان سجين السياج الدوغمائي المغلق، وهل تحرر منه بعد قراءته للمشروع الأركوني في نقد العقل الإسلامي المُجسّد في كتابه المترجم أول مرة بتاريخية الفكر العربي-الإسلامي بدل نقد العقل الإسلامي، الذي كان يثير حساسية مفرطة أيام الصحوة الإسلامية في الثمانينات من القرن الماضي. وقد قسمت المداخلة إلى ثلاثة محاور وخاتمة، هي: - المكتسبات المعرفية التقليدية والعقلية والحداثية التي ساعدتني على اكتشاف فكر أركون؛ - اكتشاف فكر أركون عن طريق كتابه «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد» الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب من ترجمة هاشم صالح في سنة 1993. - مواصلة قراءة كتب أركون وما كتب عنه. - الخاتمة: ماذا يريد منا أركون؟ وهل نجح مشروعه؟ 1- المكتسبات المعرفية التقليدية والعقلية والحداثية التي ساعدتني على اكتشاف فكر أركون لماذا ركزت على هذه النقطة؟! أعتقد أنّ من الأسباب التي دفعتني إلى الاهتمام بالفكر الأركوني هو هذا الزاد المعرفي الديني والفلسفي الذي تلقيته حتى قبل أن أتحصل على البكالوريا. فالتمكن من تاريخ الفكر الإسلامي بملله وعقائده ولو بطريقة تقليدية، كان حافزا على اكتشاف الفكر الأركوني الذي راح يخلخل ويزحزح معارفي السابقة حول الفكر الإسلامي. كان من حظي المعرفي أنّ الوالد الذي كان متدينا حدّ النخاع على الطريقة التقليدية طبعا، كان يحوز على مكتبة صغيرة بها عدّة نسخ من القرآن الكريم، وكذا بعض الكتيبات الصغيرة الحجم تتعلق بسيرة النبي المصطفى والخلفاء الراشدين، وكان يسمح لنا بقراءتها أثناء العطل المدرسية.. كان الطفل القارئ يعيش العجيب الخلاب مع هذه الكتب إلى أن اصطدم بقصة الصراع بين علي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين.. طبعا طرحت السؤال على الوالد، فكانت إجابته صارمة.. لا تتدخل فيما لا يعنيك، وهذه هي العقيدة والنظرة السنية فيما يخص هذه الأحداث.. أقصد معركة الجمل، وهذا عكس العقيدة والنظرة الشيعية التي اكتشفتها فيما بعد طبعا.. هنا أشير إلى أنّ أركون كان حريصا على دراسة هذا الصراع المذهبي الذي صنفه ضمن الظاهرة الإسلامية، وقد خصص فصلا كاملا للمسألة في كتابه: «عندما يستيقظ الإسلام» بعنوان: سنة-شيعة؛ نحو توحيد وعي إسلامي آخر. ولم يسمح له القدر بتطوير هذه المسألة في كتاب مستقل كما تمنى ذلك في أثناء مرضه. كان الوالد أيضا كثير التجوال بمساجد العاصمة، وكان يصطحبني أحيانا معه للسماع إلى دروس ما بقي من علماء الإصلاحيين من أمثال الشيخ العرباوي وسحنون وسلطاني. من حظي أيضا، وجود شيخ محمد رحو كإمام لمسجد الحي العربي التبسي، وهو صوفي رحماني. وكان كثير الاهتمام بإلقاء الدروس النقلية على طريقة الزوايا.. على يده تلقيت فقه العبادات وأحكام الردة، ودفعني إلى شراء موطأ مالك وقراءته، فيما دفعني أركون إلى قراءة رسالة الشافعي لفهم ماهية العقل الإسلامي، كما تلقيت على يده علم الكلام على الطريقة الأشعرية، وهو ما دفعني إلى الاهتمام بالفرق الكلامية الأخرى، واكتشاف المعتزلة عن طريق قراءتي الخاصة، ونشير إلى أنّ أركون كان يحبذ فرقة المعتزلة التي كانت أكثر عقلانية من كل الفرق الكلامية، وكانت تؤمن بخلق القرآن، عكس العقيدة الشعرية التي ترى أن القرآن غير مخلوق، وما زلت أتذكر بيت أرجوزة التوحيد التي درسناها على يد الشيخ محمد رحو، وهي: ونزه القرآن أي كلامه... عن الحدوث واحذر انتقامه. كان للشيخ الإصلاحي الأزهري اليعلاوي بمسجد النادي ببلكور، نصيب في زادي المعرفي الديني، حيث درست عنده سيرة ابن هشام والحديث عن طريق رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام يحي ابن شرف النووي، وكذا تفسير القرآن عن طريق شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وهو تفسير شبه عصري مقارنة بما سبقه.. أشير هنا أيضا إلى أن أركون كان ضد التفسير العلموي للقرآن، وكان يقول إن كتاب الله متعال، وهو كتاب أخلاق، فيما يبقى العلم نسبيا خاضعا للتطورات. وكان أركون يحبذ تفسير فخر الدين الرازي صاحب كتاب مفاتيح الغيب. هذه الدروس المسجدية، دفعتني إلى قراءة الكتب الدينية التقليدية الإيمانية منها والنضالية، من أمثال عفيف طبارة صاحب كتاب مع الأنبياء في القرآن وروح الصلاة في الإسلام، ووحيد الدين خان صاحب كتاب الإسلام يتحدى والدين في مواجهة العلم، وسيد قطب خاصة كتبه معالم في الطريق والعدالة الاجتماعية والمستقبل لهذا الدين، ومحمد قطب صاحب كتاب مذاهب فكرية معاصرة، وهذا الكتاب كان له الفضل في اكتشاف الفلسفة الغربية، حيث بفضله رحت أبحث عن كل مذهب وفلاسفته. طبعا هذه عينة صغيرة من الكتب التي قرأتها إيمانا واحتسابا، أذكر كل هذا لأقول إنني بتعبير محمد أركون، كنت أسبح داخل «السياج الدوغمائي المغلق»، فكل ما تلقيته كنت أعتبره الحقيقة المطلقة التي بفضلها نتجه - لا محالة - إلى دار الخلاص، وكنا نعتقد أن مذهب مالك هو أحسن المذاهب الفقهية، وكيف لا وقد انطلق من المدينة.. كذلك كنا نعتبر الأشعرية أحسن مذهب كلامي وهو وسطي بين المعتزلة ومدرسة الحديث. هنا يجب الإشارة إلى أنّ هذا التكوين الديني لم يكن نضاليا ولم نكن نعرف معنى النضال الإسلامي، لهذا كنت في المقابل قوميا، أومن بالوحدة العربية على طريقة اليسار العربي دون أن أشعر بذلك، فقد كنا ضد الرجعية المحلية والعربية والامبريالية العالمية، كما كنا نسمعها من الخطابات السياسية لبومدين وأمثاله من رؤساء العرب. كان للأستاذ علي الإدريسي المغربي، أستاذ الفلسفة في القسم النهائي، فضل كبير في إخراجي جزئيا من هذا السياج الدوغمائي، وعلمني روح النقد، ولا أنسى كلام صديقي محمد الخربة الذي قال لي ذات يوم ونحن في تحضير البكالوريا: «لقد كنا أقنانا، فجاء الإدريسي فأصبحنا برجوازيين»، والكلام له مغزى فكري عميق.. بفضل الأستاذ، أصبحت أقرأ لمالك بن نبي، خاصة ثلاثيته (مشكلة الثقافة، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي) وأحمد أمين (من فجر الإسلام إلى ضحى الإسلام) وزكي نجيب محمود (تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري) وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) وطه حسين (في الشعر الجاهلي) وحسين مروّة (النزعات المادية) ومهدي عامل (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية)، صادق جلال العظم (نقد الفكر الديني).. إلخ. طبعا انتقالي إلى الجامعة واختياري مادة الفلسفة بعد حصولي على البكالوريا، سمح لي أن أدرس بتمعن الفلسفات الشرقية القديمة واليونانية والعربية والغربية والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد. كانت القطيعة مع الفكر عموما بعد التحاقي بالمدرسة الوطنية للإدارة في 1981. كثرة المواد وثقلها (قانون-إدارة- مؤسسات-مالية-محاسبة) وصعوبة وصرامة الدراسة، لم تسهل عليّ مواصلة قراءة الفكر عموما، والفلسفي خصوصا.. كانت لي عودة محتشمة بعد حصولي على دبلوم المدرسة والتحاقي بالوظيفة العمومية. استمر الوضع على ذلك إلى أن اكتشفت بالصدفة كتاب محمد أركون: الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، بمكتبة ديدوش مراد بالعاصمة الذي أحيا فيّ روح القراءة والبحث من جديد، حول كل ما يتعلق بالفكر الإسلامي.
2- اكتشاف فكر أركون عن طريق كتابه «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد» كان ذلك بالصدفة في خريف 1993 في عز الأزمة الأمنية التي شهدتها الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي.. اقتنيت الكتاب نظرا لعنوانه الجذاب، وليس بسبب مؤلفه، فالعنوان الفرعي «نقد واجتهاد» أثارا فضولي.. لم أكن أسمع كثيرا عن محمد أركون إلاّ بعض الإشارات العامة كحادثة اختلافه مع المصري محمد الغزالي في ملتقى الفكر الإسلامي الذي جرى في سنة 1984 بفندق الأوراسي بعنوان: «الصحوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي»، وكان مضمون مداخلة أركون حول اعتبار النص القرآني خطابا لغويا يمكن إخضاعه لأحكام ومقاييس النقد الألسني، كما فعل ذلك من قبل مع سورة الفاتحة في كتابه قراءات في القرآن، وهو ما أثار حفيظة الغزالي الذي قال له: «إن كنت تؤمن بصحة ما تدعو إليه، فأنت مرتد». لم أكن ألتقي أيضا بكتب أركون في مكتبات العاصمة، خاصة وأنّ أغلبها لم يكن قد ترجم بعد، كما يبدو لي أنّ كتبه بالفرنسية لم تزر المعارض الدولية للكتاب في الثمانينات، وأتساءل مع الأساتذة الكرام إن كان أركون معروفا لدى الطلبة بالجامعات الجزائرية في عز الصحوة الإسلامية.. عن نفسي أقول: أمضيت سنة جامعية كاملة بقسم الفلسفة بجامعة خروبة 80-81 ولم أسمع به لا من طالب ولا من أستاذ، فيما يسمع الجميع ويتكلمون ويقرأون لمالك بن نبي على سبيل المثال وأنا واحد منهم. كان كتاب «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد» من ترجمة وتعليق هاشم صالح، أول كتاب تصدره المؤسسة الوطنية للكتاب بمعية دار النشر الخاصة «لافوميك»، كما نشرا في نفس السنة النسخة الفرنسية بعنوان مغاير هو: (Penser l'Islam aujourd'hui) وهو الآخر عنوان مغاير للنسخة الأصلية التي صدرت في 1989 بفرنسا بعنوان (Ouverture sur l'Islam).. الكتاب أعيد طبعه بالفرنسية وبفرنسا بعنوان (ABC de l'Islam)، وبالعربية «الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر».. طبعا نشر كتاب أركون في هذه الظروف الأمنية جاء في إطار الاحتواء الفكري للظاهرة الإسلامية، لكن لنقلها صراحة، كان ذلك بعد فوات الأوان.. نفس دار النشر الخاصة لافوميك، نشرت بمعية دار بوشن الخاصة أيضا، كتاب محمد سعيد العشماوي بالفرنسية سنة 1990 المعنون (L'Islam politique)، وهي دراسة نقدية للظاهرة السياسية الإسلامية. الكتاب في طبعته الفرنسية الأولى كان موجها للقراء الفرنسيين ويحتوي على 21 سؤالا، طرحها صحفيون على أركون، بعضها تبدو بديهية لكل مسلم تقليدي كالسؤال عمّا تعني كلمتا إسلام ومسلم؟ ما المقصود بالوحي وما معنى كلمة قرآن؟ من الذي دوّن القرآن ومتى دُوّن ثم ما الذي يحتويه هذا الكتاب؟ هل هناك عقائد في الإسلام وما هي؟ لكن أسئلة أخرى تبدو عويصة على المسلم التقليدي العادي، مثل كيف تتمفصل ذروتا السيادة الروحية العليا والسلطة السياسية في الإسلام؟ أو ما هي الروابط الموجودة بين الأنظمة الثلاثة: الإسلام والعلوم والفلسفة وذلك من حيث الفعالية العقلية والثقافية؟ طبعا إجابة أركون حتى على الأسئلة التي تبدو بديهية، كانت مخالفة تماما للإجابات التقليدية التي يمكن أن يقدمها أي إمام في مسجد عادي.. لقد استعمل المنهج النقدي التاريخي في إجابته، فمصطلح الإسلام على سبيل المثال، أخذ عدّة تصورات من اللحظة التأسيسية إلى يومنا هذا. لكن ليست هذه الأسئلة هي التي فتحت لي شهية قراءة أركون، واعتبار هذا الكتاب دليلا فكريا أو لوحة قيادة (Tableau de bord) للغوص في الفكر الأركوني وتسييره وفق معطيات هذا الكتاب، وإنما المحتويات الأخرى، والمتمثلة فيما يلي: أولا: المقدمة المعنونة «بعض مهام المثقف المسلم والعربي اليوم»: وهي في الحقيقة مداخلة ألقاها أركون في المؤتمر العلمي بجامعة نيس الفرنسية، بعنوان:»المثقفون والمناضلون في العالم الإسلامي»، وذلك في ديسمبر 1986.. هذه المقدمة كانت بالنسبة لي المفتاح الذي أكتشف به القاموس الفكري الأركوني، وهي مصطلحات لم ألتق بها من قبل من خلال قراءتي الفكرية والفلسفية، «كالساحة الفكرية» الذي استلهمه من «بيير بورديو»، و»السياج الدوغمائي المغلق»، و»مديونية المعنى»، وهو مصطلح بلوره مارسيل غوشيه في كتابه (le désenchantement du monde)، و»الإسلاميات الكلاسيكية» والتي ترتكز على المنهجية الفيلولوجية والتاريخوية في مقابل «الإسلاميات التطبيقية» التي تعتمد على المناهج المختلفة كالنقد التاريخي والمعرفي والألسني والأنتروبولوجي، وهو مصطلح استلهمه أركون من «روجي باستيد» صاحب كتاب (Anthropologie appliquée)، ومصطلحات الأنسنة والمخيال والمفكر فيه واللامفكر فيه والممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه، والثقافة العالمة في مقابل الثقافة الشفهية والأرثوذوكسية في مقابل الهرطقة، الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، والإبستمه والقطيعة المعرفية ... إلخ. طبعا كل هذه المصطلحات والمناهج المختلفة رحت أبحث عنها في كتب أخرى وقواميس لعلي أجد المفاتيح التي أتوصل بها إلى أسرار الفكر الأركوني. وقد لخص أركون في مداخلته هذه مهام المثقف العربي-المسلم في: - نقد الخطاب، مهما كانت طبيعته: سياسي أدبي ديني. - التاريخ النقدي للفكر العربي-الإسلامي. - البحث الأنتروبولوجي. - إعادة الاعتبار للموقف الفلسفي. - ثانيا: ملحق رقم 1 وهو حوار مطوّل بين المترجم هاشم صالح ومحمد أركون في سنة (1988): وفيه ثلاثة محاور: - سؤال في المنهج، وفيه أبرز أركون منهجيته العلمية في دراسة الفكر العربي-الإسلامي. - أركون ومساره الفكري: مشكلة الفلسفة والعلوم الإنسانية. - في الفلسفة السياسية: أسئلة حول المجتمع والدين والدولة. واختار أركون ثلاثة نماذج سياسية لدراستها، وهي تجربة أتاتورك وتجربة بورقيبة وتجربة المغرب الأقصى. - ثالثا: ملحق رقم 2: وهي محاضرة بعنوان «الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان» ألقاها أركون بأكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية بفرنسا في يناير 1989. وفيها حاول أركون وضع النص القرآني داخل المنظور التوحيدي، خاصة وأنّ المستشرقين كانوا وما زالوا يرفضون هذا الطرح. كما حاول إثبات أن الخلافات المزمنة، هي من صنع التركيبات التيولوجية عبر التاريخ، وليس من صنع النصوص الروحية الكبرى. المقدمة والحوار بين هاشم وأركون قدما لي نظرة شاملة عن فكر أركون، وماذا يريده بالضبط، لكن هذا لا يعني أنني فهمت كل مشروعه من خلال هذا الكتاب الذي دلني على مشروعه الأساسي وهو نقد العقل الإسلامي، وعلى كتبه الأخرى التي رحت بعد سنين من البحث عنها، أحرص على قراءتها والتمعن فيها. 3- مواصلة قراءة كتب أركون وما كتب عنه كان اهتمامي الأول هو اكتشاف المشروع الأساسي لأركون، والمتمثل في نقد العقل الإسلامي (Critique de la raison islamique) والذي ترجمه هاشم صالح أول مرّة ب»تاريخية الفكر العربي-الإسلامي»، وفيه قصة طريفة سردها هاشم صالح في مقدمة كتاب «الهوامل والشوامل» حيث قال له أركون وهو متخوف ومبتسم: «سوف يغضب علينا الأزهر إذا ترجمناه بنقد العقل الإسلامي، فلا داعي إلى إثارة المشاكل ولفت الانتباه إلينا الآن».. طبعا الكتاب ترجم فيما بعد «بنحو نقد العقل الإسلامي»، وهو مؤشر على انتشار الفكر الأركوني في العالم العربي والإسلامي وتغيير ذهنية المسلم في الألفية الجديدة مقارنة بفترة الثمانينيات. لم يكن سهلا عليّ فهم المغزى العام للمشروع، خاصة وأن أركون ألّح على أن مشروعه النقدي لا يفهمه من لم يقرأ رسالة الشافعي، وللأمانة لم أستطع قراءة الرسالة التي حققها أحمد محمد شاكر بتمعن، كانت قراءة سطحية، خاصة وأن أركون لخصها تلخيصا محكما في كتابه. طبعا.. قراءتي للنسخة الأولى، أعني «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، كانت مغايرة تماما لقراءتي للنسخة الأخيرة التي صدرت في 2009 بعنوان «نحو نقد العقل الإسلامي».. لقد أصبحت متمكنا، ولو نسبيا، وبكل تواضع، من القاموس الأركوني ومن المناهج المستعملة، وهذا ما شجعني مؤخرا على كتابة مقال مطول بعنوان: «من العقل الإسلامي إلى العقل المغاربي مرورا بالعقل العربي» وهي مقارنة أجريتها بين العقول الثلاثة أي العقل الإسلامي لأركون، والعقل العربي للجابري، والعقل المغاربي للإدريسي، وهو أستاذي في الفلسفة بالقسم النهائي بثانوية الثعالبية كما أشرت إليه سابقا. وبين قراءة النسختين، قرأت أغلب كتب أركون، والمتمثلة على الخصوص في كتاب «الفكر العربي»، وفيه استطاع أركون قراءة تاريخ الفكر العربي قراءة إبستيمية، أي وفق المنظومات الفكرية التي عرفها الفكر العربي عبر حقباته المختلفة، وقد كتبت مقالا حول الكتاب منشور بجريدتي «الوسط» و»الشعب» بعنوان: «من التحقيب التاريخي السياسي إلى التحقيب التاريخي المعرفي.. قراءة في كتاب الفكر العربي». الكتاب الآخر الذي خلخل وزحزح أفكاري هو «قراءات في القرآن» (Lectures du Coran) والعنوان العربي هو: «القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني». وفيه يرى أركون أن القراءات الحداثية للقرآن تتطلب الإحاطة بالأرضية المفهومية الخاصة باللسانيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الإبستمولوجي، كما يجب على القارئ التمييز بين الاحتجاج والإدراك والتأويل والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي العقائدي، وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني. في كتابه هذا، يكون أركون أوّل من تجرأ على تطبيق المنهجيات الحديثة كعلوم الألسنيات والمنهجية البنيوية على النص القرآني بغرض كشف البنية اللغوية لهذا النص، كما فعله في سورة الفاتحة، فضلا عن تطبيقه لمنهجية النقد التاريخي كما فعله في قراءة سورة الكهف، إلى جانب المنهج الأنتروبولوجي كما فعلة في سورة التوبة.. والهدف من كل ذلك، تبيان حقيقة العلاقة القائمة ما بين الوحي والتاريخ، وزحزحة مفهوم الوحي التقليدي الذي قدمته الأنظمة اللاهوتية.. أكيد تعرّض هذا الكتاب إلى نقد شرس من قبل المحافظين والعلماء التقليديين، نسرد مثال لذلك أطروحة المغربي الحسن العباقي في كتابه المعنون: القرآن الكريم والقراءة الحداثية؛ دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون، حيث جاء في الغلاف الرابع للكتاب: «إنّ أعمال محمد أركون لم تستطع التخلص من الشروح التبشيرية والاستشراقية القديمة، بل إنه قد أضاف إلى تلك الطروح أسلوبا استفزازيا مليئا بالقدح والتجريح والقذف» طبعا هذا هو أسلوب التقليديين. هنا أشرت إلى الكتب الثلاثة التي تأثرت بها، والتي أحدثت خلخلة وزحزحة في أفكاري. ثم توالت قراءتي للكتب المتبقية منها على سبيل المثال: الأطروحة: «نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي»، «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل»، «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي»، «الأنسنة والإسلام: مدخل تاريخي نقدي»، «تحرير الوعي الإسلامي: نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة»، و»قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟». كذلك درست كثيرا من الكتب التي أُلفت حول الفكر الأركوني منها مؤلفات صديقنا فارح مسرحي مثل «الحداثة في فكر محمد أركون» و»المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي» وصديقنا مصطفى كيحل «الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون» ومن المغرب محمد الشبة «مفهوم المخيال عند محمد أركون»، وعبد المجيد خليقي «قراءة النص الديني عند محمد أركون»، ومصطفى الحسن «الدين والنص والحقيقة: قراءة تحليلية في فكر محمد أركون»، والصديقة اللبنانية نايلة أبي نادر «التراث والمنهج بين أركون والجابري...إلخ - ماذا يريد منا أركون وهل نجح مشروعه؟ سؤال طرحه عليّ مرارا صديقي صهيب بن شيخ الحسين في المجالس الفكرية التي كنا نقيمها ببيته سنوات 2012-2016، عندما كان مقيما بالعاصمة. صديقي كان يرى أن لا فائدة من إصلاح الدين، علينا فقط إدراجه في المجال الخاص وتجاوزه إلى علمانية تحترم كل الأديان دون تمييز بين المواطنين كما تقره في الحقيقة أغلب الدساتير العربية والإسلامية. وكانت إجابتي أن الضمير الإسلامي لا يقبل هذه العلمانية، مادام يسبح في السياج الدوغمائي المغلق، وأركون هدفه الأساسي هو تحرير الوعي الإسلامي من هذا السياج، والخروج منه، وذلك بتفكيك هذا الإرث الديني عن طريق نقد العقل الإسلامي. هل نجح المشروع الأركوني أم فشل هو الآخر كما فشل ابن رشد في زمانه؟ ودعانا أركون إلى ما سماه القيام بسيسيولوجية الفشل لتفسير الظاهرة.. يبدو لي أنّ السؤال سابق لأوانه، فلا نستطيع الحكم على المشروع إلاّ مستقبلا، وهي مهمة الأجيال الصاعدة. شخصيا أشعر أنّ هناك اهتماما متزايدا من قبل القراء بالفكر الأركوني، ويبدو لي أن الشبكات الاجتماعية خاصة «فايسبوك»، ساهمت في انتشار أفكاره.. شخصيا كنت أنشر سلسلة بعنوان: «كشف المكنون في فكر أركون» وأكد لي كثير من الأصدقاء خاصة الطلبة، أنهم اكتشفوا أركون بفضل هذه المناشير وأمسوا من قرائه. كلمة أخيرة، أقول إنّ أركون كان صادقا في مشروعه، وكنت أشعر بالألم والإحباط الذي يصيبه أحيانا سواء عبر كتبه أو الحوارات والندوات التي سمعتها وما أزال أسمعها عبر اليوتوب. لا أعرف مفكرا نال من الألقاب المتناقضة كما نالها أركون، فهو الملحد والكافر والمسيحي المبشر والمستشرق، وهو أيضا الأصولي والسلفي كما وصفه الهولندي رون هاليبر في كتابه «العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب؛ الجهود الفلسفية عند محمد أركون» وقارن فكره مع السلفي المغربي عبد السلام ياسين ليجد تقاربا فكريا بينهما. كذلك فعل التونسي محمد المازوغي الذي وصفه بالإخواني في كتابه «نقد الاستشراق المحور أركون/صالح».