حارس الفكر إذ هو يفككه ويركبه، إذ هو ينشئ المقولات والألفاظ والمصطلحات، إذ هو يجيش المعاني، يخصبها، يخضبها، يجرحها، يعدلها، لمحمد أركون كل هذا وله أكثر، منظومة فكر، حقل تداول، ملعب مصطلح، أرمادة مناهج، بروفيسور أركيولوجيا ومناهج ومنهجيات، لئن غامر أصحاب المشاريع بطموحاتهم السوبرمانية في بلوغ كمالات العقل، لئن غامر الجابري والعروي والعظم وطه عبد الرحمان بخروجهم على النصوص التراثية إلى المناطق الأكثر قتامة، اقتياد التراث من أصوله، ومن تاريخياته نحو رحابة الضوء، نحو الفضاء الرحيب، نحو العقل واتساعه، لئن فعل هذا المشاريعيون الكبار فإن محمد أركون تخير المواقع الأصعب والحصون الأكثر وعورة كي يؤدي عمله المعرفي، الكوني، الحداثي، السوربوني· لقد استلطفت أكثر كلمة أو عبارة أو عبارتين ظلتا تصاحبان محمد أركون هما مثقف، وإسلامي، ذلك أن المثقف الإسلامي في الراهن العربي هي ما أطلق على الشيوع والإعتباطية والعواهن، مثقف إسلامي معناه، الداعية، المبشر الديني، الكهنوني، الدوغمائي، الرجل الأخروي، الأخلاقوي، لكن تكنيك الإزاحة والإستبدال منح لأركون اللقب الذي يستحقه منزوعا من كليشيهات أدلجة ومعلبات انتماء لا تسمن بالنفع ولا تغني عن عطش الأسئلة· إن محمد أركون هو المجتهد الإسلامي إذا تمت مطابقته مع المفاهيم الحقيقية ومع حالته يندر جدا إسباغ المفهوم على آخرين لا يكونون مثله، لا يفكرون فكره، لا يبدعون، يتقدمون كشراح مطولين أو طالبي أنس بالعهد النبوي، الصحابي، التابعي، أو أي أنس بالعصر الذهبي وتمجيداته، أكثرهم تعولما وانتشارا بالبحث وتواصلا مع الحضارة، حضارتنا العربية الإسلامية، أكثرهم نسقا غير مفكوك، أكثرهم إيمانا بمشروعه من غيره لا في العالم العربي، بل في المتوسط وفي كل الجغرافيات· محمد أركون، الرسم والإسم، المجاز والعبارة الواضحة أوسع من القراءة الواحدة، وأوسع من التأويل وأوسع من الهوية، فهو جزائري حتى النسيان، قبائلي من تاوريرت ميمون أبعد من الجهالة البربرية بعد المشرقين عن المغربين، سجل سجله واسمه في الجامعة الفرنسية المشهورة بلا مشقة، وبلا مشقة اصطفت رمزيته مع رمزيات كبرى، فأن تقول محمد أركون فكما أنك تقول محمد عبده، أو الطهطاوي، أو ارنست رينان أو لويس ماسينيونئ· يجب أن تكون هناك قراءة جديدة للقرآن، يجب التوغل بعمق في الفتوحات الكبرى للنصوص وعناصرها التكوينية، يجب إعادة تحريك المفاهيم داخل السياقات الاجتماعية والثقافية لعالم المسلمين، يحب دراسة الخطابات الكلاسيكية كمجموعات كتل، نصوص الحديث والتشريع العديدة والمختلفة، الفرائض القانونية الخمس والشعائر اللازمة لتأديتها، الدينامو الروحي المشترك لدى كل المؤمنين والذي يشكل خاصية مميزة للتراث، يمضي هكذا أركون في التأكيد على الواجبات بالكتابة الدؤوبة، الجسورة، المغامرة، بالندوة والتلفاز والميديا، بالظهور الأكاديمي الاستثنائي غير المقطوع عن التقاليد الملكية الكبرى تلك التي تنفرد بها كبريات الجامعات والمعاهد والمحافل· يعلم محمد أركون الصبر المعرفي لمريديه، حوارييه، وأشياعه، فلقد كان يأخذ من المفردة الواحدة حلقة مدارسة إبستمولوجية تطول وتطال الكتب والدراسات، مفردة واحدة من سورة الفاتحة أو من البقرة أو من آل عمران وأخرى من أحاديث الآحاد وأخرى من عمل الصحابي وأخرى من قياس الفقهاء ويذهب ويشرد ويشارف المتاهة بل يتيه··· إنه في النص الثقافي العربي يشبه دولوز أو فوكو أو سعيدئ· إن أول ما بدأت الاستماع إليه وأثار في السحر والشغف بالفكر قافلة مصطلحاته المنحوتة نحتا على صخر المعاني وصخر اليقين إذ يروح أركون الأركوني يفرغ، يفكك، يقسم، يشطر، يجزئ، لا يترك الخطاب على مذهب واحد وأقاويل التفاسير الصغرى، لا يترك النص متلفعا بحقيقة واحدة لا تصبو إلا إلى التمويه أو المخاتلة أو التعالي، لا يترك اللحظة التاريخية المذهبة رهينة الأسطوريات، بل حتى لا يترك أي من الأنظمة التيولوجية تقول للناس ما تريد كيفما تريد في المشرق الإسلامي الكبير وفي الغرب الحضاري المهيمن· ليس محمد أركون ابن الغرب وتلميذه، الأصح أنه سارق النار، نار المعرفة التي أحرق بها الجميع، النوم، المخدرين بالأفيون التراثي دون غربلة، المتغربين الذين لا يستحون من سياسويتهم المتماهية مع الغرب الرسمي الكبير· هي قافلة مصطلحات مغذاة، محملة، ومرمزة، يضعها أركون في كتاباته، في معالجاته الفكرية الغزيرة فيما يشبه الجمع والطرح أو القسمة والضرب، اللامفكر فيه، المسكوت عنه، نظام الإيمان، القطيعة الإبستمولوجية، السياج الدوغمائي، المخيال الاجتماعي، نظام الفكر، نظام اللغة، نظام الثقافة· وتعمل هذه المصطلحات عمل المفاتيح إذ أنها الطريقة والمنهج، أو الجدل أو الديالكتيك الذي يجعل من الطوبى الإسلامية حقيقة معاشة ويجعل من الإسلاموية قراءة خاطئة، مجرد قراءة خاطئة لتاريخية الديانة الإسلامية ونصوصها المقدسة كما الشارحة أو المشروحة· لا يمكن تصور فلسفة عربية لكل الخطابات المشكلة للواقع العربي ولتاريخه دون محمد أركون كما أنه يصعب إنتاجه بالإعادة أو استنساخه أو تثبيت مفكر آخر يعمل عمله أو يواصل مشروعه أو يكتب نثره الفلسفي على منهجيته أو حتى يتداخل معه تقديما وعرضا، تفسيرا ومدارسة، جرأة وحسن ترصد للحالة الإسلامية في كل تجاربها النصوصية وسياقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية· لقد تلازمت الجابرية بالرشدية وتلازمت العروية لعبد الله العروي بتاريخانيته وتلازمت جهود طه عبد الرحمان بالعمل الديني التأصيلي والسؤال الأخلاقي وفي اللحظة الممكنة اليوم لفتح نقاش أركون وحول أركون فإنه يجب القول أن أركون متلازم، متناغم مع أركونيته، إنه العصر الإسلامي، عصره، لا باحثا إسلاميا قدّم ما قدّم ولا شارحا شرح بمنهجه وروحه ولا مفكرا إسلاميا بلور ما بلوره من أطروحات التجاوز والاستباق والتمايز ·· ''إن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش خلال وقت قصير جدا ثورات مؤسساتية وصناعية وزراعية وثقافية كان الغرب قد عاشها خلال أربعة قرون، وهذا ما يحدث فيها نوعا من التخلخل والاضطراب الحاد· وفي مثل هذا السياق من الأزمة والانقلابات البنيوية والمفصلية نجد التراث اليوم يقوم بدور ثمين لا يمكن التعويض عنه في تهدئة المجتمع وتسكينه وتوفير الأمان والشرعية· ولكن هذا العطاء الحيوي الذي يقدّمه التراث لكل الجسد الاجتماعي (لكل المجتمع) يجعله بمنأى عن كل تحليل نقدي وعن كل تقييم موضوعي، ونحن اليوم نجد أنفسنا عاجزين أكثر من أي وقت مضى عن فتح الإضبارات التي أغلقت منذ القرنيين الثالث والرابع الهجريين والتي تخصّ المصحف وتشكله ومجموعات الحديث النبوي الكبرى وكتب الفقه القانونية وأصول الدين وأصول الفقه''·· من الصفحة 30 من كتابه المرجعي''الفكر الإسلامي قراءة علمية'' يعرض أركون هواجسه، وقلقه التدشيني المبكر في وجود اضبارات محكمة الرتاج غير مسموح البتة بالتطرق إليها ومناولتها بروح نقدية، ابستمولوجية هذه الروح التي تشتعل في الفكر الأركوني وعلى مدار اجتهاداته واقفة، مجابهة للعقل التيولوجي، الأرثودوكسي، الإختزالي، المتمنع على الصرف والتحويل، على الزحزحة والتبدل، على التطور والمرونة، من الوجهة المنهجية تحوز المنظومة الأركونية وسائل عمل هامة وتستميت في الدفاع عن مشروعها، ومن هذه الوجهة هو الأسبق والإستثنائي والمجانب للمماحكات اللفظية والإصطلاحية المضيعة للوقت والورق وللعقل· وهذه لفتة أعجبت كثيرا الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن وأحالني عليها في لقاء به ذات مرةئ· إنني أدعو إلى اكتشاف أركون، الترحيب به، إعادة طباعة أعماله والترويج المعرفي الصادق لها، ومثلما حظيت حقبة طه حسين بالرواج، ثم حقبة أنور الجندي، ثم حقبة البوطي والقرضاوي، آن أوان العرب أن يتسمى عصرهم المتقدم هذا وحقبتهم هذه بالحقبة الأركونية· حقبة نقد العقل الإسلامي بغزارة محمولاته وأساطيره ولاهوتييه ومثل ذلك لم يكتب إلا في الفكر الإسلامي نقده واجتهاده من فيصل التفرقة إلى فصل المقال القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ''معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية'' و''قضايا في نقد العقل الديني'' ، ''الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى، إرادات الهيمنة''·إنه من الغرابة القدرية تلك أن يسبق مترجمه الرائع الإشكالي الدكتور هاشم صالح موته بقليل من الوقت، فهاشم عمل مع محمد في مناغمة خلاقة وخلوقة لم يشهدها الفكر العربي برمته عكست صرامة العطاء الأكاديمي الثنائي من داعيتى التنوير والعقلانية والحرية هاشم صالح ومحمد أركون، قال هاشم صالح المترجم الفذّ لكامل ترجمات محمد أركون ، ''إذ أنخرط في هذا النهج وأسلك هاتيك الدروب سنوات سبع فإني أرجو أن أكون قد وفقت ولو قليلا، في نقل بعض هذه الأفكار الأساسية إلى ساحة اللغة العربية والثقافة العربية، على أي حال فإنني أدرك تماما بأن الأمر يتطلب تضافر جهود عديدة تبذل في كافة المجالات من أجل إحداث الزحزحة المنشودة وإجراء تغيير حاسم في ساحة الفكر العربي المعاصر وهذه هي المهمة المطروحة على المستقبل'' · لا يغامر سوادهم الأعظم- من العرب خاصة- في التعاطي مع أركون بوصفه ظاهرة فكرية حرة· المؤسسات تخشاه فهي لا تعلم أين يمكن أن يذهب أولا يذهب بانتهاكاته وأسلحته، الأفراد كمثقفين يتمترسون خلف السياج الاجتماعي، الفقهاء يعتبرونه مؤسس ردة جليلة ومرتكب موبقة، الساسة لا يفهمونه ولا يحتاجونه من فرط غباوتهم، بينما يخاطب أركون الجمهور الغربي بطرفيه الرسمي والشعبي كي يتم إدراج المادة الإسلامية كثقافة وكيتولوجيا وكديانة في المعاهد المتخصصة التي ينبغي أن تنشأ لاحقا إن تمّ أيضا إعادة تحديد العلمنة وأطرها· في فرنسا يسري الاعتقاد أن المسلم لا يمكنه إلا أن يكون مضادا للعلمانية وهذه فكرة رسخها المستشارون الجيدون للمسؤولين السياسيين نقلا من الرؤية الاستشراقية للإسلام لكن مفكرا هاما، مستقلا، من هذا الطراز عمل مضادا لهذه الرؤية الإكليروسية للمسلم وحرص على أن يظل التعليم العام على صلة لا تهمل الأبعاد الفكرية والروحية والثقافية للديانة الإسلامية· ''لقد علمتني التجربة واحترقت أصابعي بها ودفعت ثمنها، أقصد تجربة المثقف الفرنسي الذي يظل متضامنا مع أصوله أو جذوره الإسلامية، فهو لا يستطيع أن يتحدث عن العلمانية إلا إذا حلف على رؤوس الأشهاد بأن يحترم العلمانية الجمهورية ويتقيد بها تقيدا حرفيا''· تعجبني جدا هذه ''الواجباتية'' التي تطبع السلوك الأركوني، فهو نازل على الغرب ومخادعاته، على تفرقة بين غرب وغرب، بين فرنسا وفرنسا، حتى في أدق الخيوط الملتبسة معرفيا، سلاح كهذا ظل أركون يشهره في صولاته الفكرية كما في نزلاته وطلعاته الهائمة وراء المعارف والأنوار· إن المثقف الإسلامي محمد أركون لا يعيش في المنفى الأيديويوجي والفكري والغربي، فهو لا يخطب في الساحات المتاخمة للمساجد أيام الجمعة في باريس ولندن وبروكسل ولا ينشد في الغرب منافعه الخاصة من مأكل وملبس وحاجيات حيوانية، بل يعيش في المسكن المعرفي، في أتون المحرقة من أجل الدور والفعاليات، من أجل العدالة والحق الإنساني، من أجل المعركة الحقيقية، لا تلك التي حاول تزييفها شخص مجهول اسمه رشيد بن عيسى في إحدى ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر·لقد نسي الناس أنور الجندي بسرعة وبقي طه حسين، كما نسوا بن عيسى وأمثاله وسيذكرون أركون الأركوني ولو بعد حين·