يعد الحديث عن تعريف قار وثابت ل «الحداثة « أمرا شبه مستحيل، ذلك راجع إلى تشعّب المصطلح وزئبقيته، فالحداثة لا تخضع للزمن، كما لا يُمكن حصرها في مكان معين أو في حضارة دون غيرها، فرغم أنّها برزت على الساحة الفكرية بأوروبا، وارتبطت بعدة حوادث فهناك من يُرجع ظهورها إلى 1436م، مع اختراع «جوهان غوتنبرغ « للطابعة، وهناك من يربطها بالفيلسوف الفرنسي «إيمانويل كانط» مع فلسفة الأنوار، وخروج الإنسان من وصاية الكنسية إلى وصاية العقل. تختلف الحداثة عن التحديث، فالحداثة مرتبطة بمجموع حالات وظواهر مرتبطة بالبعد عن الميتافيزيقي غير المدرك، إلى العقلاني المدرك، فهل يعني هذا أن كل عمل يستند إلى العقل هو عمل يمكن وسمه بأنه حداثي؟! لا يمكن بالتأكيد، يقول آلان تورين: «ترتبط فكرة الحداثة إذن ارتباطا وثيقا بالعقلنة. التخلي عن إحداها يعني رفض الأخرى، ولكن هل يُمكن اختزال الحداثة إلى العقلنة؟ هل هي تاريخ تقدم العقل أي تاريخ تقدم الحرية والسعادة وتدمير العقائد والانتماءات والثقافات التقليدية؟ إنّ ما يميز العقل في الفكر الغربي، في أقوى لحظات تماهيه مع الحداثة، هو إرادة الانتقال من الدور المحدود لعملية العقلنة إلى فكرة المجتمع العقلاني الأكثر شمولا، والذي لا يقوم العقل فيه بتوجيه النشاط العلمي والتقني فحسب، ولكنه أيضا يوجّه حكم البشر وإرادة الأشياء»، فتورين، وإن أكد فكرة الحداثة/العقلانية؛ إلا أنه يشير إلى أنَّ الحداثة كذلك قد تكون خروجا عن العقائد والتقاليد والانتماءات، وهو ما يشكّل انسلاخا لمتلقفي الحداثة عن ثقافتهم الأصلية، باعتبار أن الحداثة ليست حالة محدودة جغرافيا، وأنّ وجودها لا يقتصر فقط على الثقافة الأوروبية؛ بل تمتد إلى كل الثقافات والحضارات، بما فيها الثقافة الإسلامية التي وجدت نفسها في صدام مع الحداثة، خاصة إذا أكدنا على ذلك البون بين التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي؛ فالتاريخ الإسلامي يشكّل سيرورة من المعارف والتراكمات الحضارية التي لا يمكن بمكان إلغاؤها، وهو ما يختلف عن التاريخ الأوروبي الذي انزوى لقرون عديدة تحت ظلم النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة على مختلف مناحي الحياة الفكرية والثقافية والحياتية. ظهر مصطلح الحداثة في شقها الأدبي / الشعري، لأول مرة، مع الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» حين رفضه تبعية الشاعر للكنيسة، يقول: «هذا الإنسان يجري ويبحث، فعمَّ يبحث؟ المؤكّد أنَّ لهذا الإنسان الذي أصف، والمتوحّد الذي يملك خيالا نشطا والمسافر عبر صحراء البشر الشاسعة، هدفا أسمى من هدف متسكّع بسيط، وأكثر شمولا من المتعة الهاربة والعارضة؛ إنّه يبحث عن هذا الشيء الذي أستسمحكم عذرا في تسميته الحداثة؛ إذ ليس ثمة كلمة أبلغ من هذه الفكرة»، فالحداثة حسب بودلير ارتباط بالحقيقة، وخروج من النمطية التي سادت أوروبا طوال عصور متعاقبة من الجهل والظلام. ينوّه «مصطفى بن تمسك» رفضَ الحداثة لفكرة الماضي، ذلك أنَّ الماضي عند الحداثيين قد يرتبط بمفهوم الزمنية، أو بمفهوم الاستمرارية النمطية لشكل معين من أشكال الإبداع، وهو ما لا تقبله الحداثة، يقول: «يمكن القول من وجهة نظر تعريفية، إنَّ مفهوم الحداثة استقر على تحديدها بكونها حالة حدوث مستمرة غير منقطعة، وحاضرا متجها باستمرار إلى المستقبل، والقطع مع القديم، لذلك لا يمكنها أن تكون مفهوما مدرسيا، ولا سوسيولوجيا، ولا سياسيا أو حتى تاريخيا، إنها نمط حضاري خاص يتعارض دوما مع نمط التقليد». لترتبط الحداثة مع مفهوم القطيعة، ورفض كل ما هو تراثي أو ماضوي. في حديثه عن قضية الماضي في علاقته بالحداثة، يذهب المفكر السوري «علي أحمد سعيد/أدونيس» أنَّ الحداثة لا يجب أن تتخلص من الماضي كماضٍ، بل يجب أن تتخلص من القراءات المألوفة للماضي؛ إذ يرى أن الماضي / التراث العربي، يحوي في طياته ما يُمكن أن نسميه سرديات كبرى لا يمكن بمكان تجاهلها، أو القفز عليها، لتصنع الحداثة كما استقبلها العرب جدلا واسعا في الساحة النقدية والفكرية العربية؛ سواء من حيث المصطلح، أو من حيث السرديات الكبرى التي انبنت عليها في الفكر الغربي. إنَّ ما يشكل اختلافا بين الحداثة كما عاشها الغرب وأسس لها، وبين ما تلقفه العرب، هو غياب المرجعية التأسيسية عند العرب وتوافرها عند الغرب، يقول آلان تورين: الغرب إذن قد تمثّل الحداثة وعاشها كثورة، العقل لا يعترف بأي مكسب من الماضي، بل على العكس يتخلص من المعتقدات وأشكال التنظيم والاجتماعي والسياسي التي لا تؤسس على أدلة من النوع العلمي»، وهو ما يشكّل إشكالية بالنسبة لنا، إذ أنّنا أخذنا من الحداثة بعض جوانبها المتعلقة ب «الخلق» و»الإبداع» و»العقلانية»، وطبقناها على بعض ثقافتنا - الشعر، الرواية، الدين - مهملين بذلك بقية الجوانب، خاصة العلمية منها، ما جعل عديد نقادنا ومثقفينا يرفضون فكرة «الحداثة»، ويتّهمون روادها من العرب بأنهم من المقلدة؛ نظرا لغياب أسس حقَّة يمكن أن تتأسس عليها الحداثة العربية. إنّ «الحداثة» في صورتها العربية، هي انعتاق من قيود المجتمع، والدين والقوالب الجاهزة، غير أن تأثيرها الكبير كان منصبا على الجوانب «الأدبية» و»الفلسفية»، دون الجوانب الأخرى التي انبثقت منها «الحداثة» الغربية؛ كالعلم والتقنية. لكن ورغم ذلك، يصٍّر عدد من النقاد والمفكرين العرب على صلاحية الفكر الحداثي في مجتمع عربي لم يعرف من التحديث غير اسمه، ومن «الحداثة» غير وسمها، وهو ما نجده في ذلك التوجه المريب الذي اتخذه الأدب العربي رواية كان أم شعرا، في ميلهِ نحو الاقتداء بالنموذج الغربي، ومثال ذلك محاولات عديد الروائيين والشعراء اتباع النموذج الحداثي، وميلهم نحو كتابة جديدة تتخذ الحداثة حتمية لمجمل التغيرات والتحولات التي شهدها العالم الغربي، ما جعل الروائيين العرب ينحون نحو الكتابة اللاّ-يقينية، أو العودة إلى التراث العربي ومحاولة إعادة قراءته - جرجي زيدان، واسيني الأعرج...- أو إقحام الإيديولوجي في الروائي – الطاهر وطار، رشيد بوجدرة…إلخ. يؤكّد «فتحي التريكي» كونية الحداثة، وعالميتها، كما يشير إلى فكرة انعتاقها من المحلي وارتمائها في مصاف العالمي، عن طريق المثاقفة، وتلاقح الحضارات بعضها ببعض، من أجل الوصول إلى حداثة جامعة تغرف منها جميع الشعوب والثقافات يقول: الحداثة هي نقطة استكمال الدورة الجدلية للتفاعل الحضاري بين الشعوب والأمم. وهي حركة دائمة تستبدل بالقديم جديدًا، وذلك بالاعتماد على المنجزات العلمية والعقلية والثقافية في جميع الحضارات. والحداثة هي قبل كل شيء مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور المجتمع بتطوير اقتصاده وأنماط حياته وتفكيره وتعبيراته المتنوعة، معتمدة في ذلك على جدلية العودة والتجاوز، عودة إلى التراث بعقل نقدي متجذّر متجاوزة التقاليد المكبّلة، ومحررة الأنا من الإنمائية الدوغمائية الضيقة»، لكن هل يؤمن الغرب فعلا برؤية «فتحي التريكي» حول كونية الحداثة وتراكميتها؟ إنَّ ما صدَّره الغرب للعالم الشرقي، لم يكن كلَّ ما أنتجه من حضارة طوال ثلاثة قرون فالحداثة الغربية أنتجت كمًا هائلاً من المعارف والعلوم في مجالات مختلفة، بدءًا بالحداثة الصناعية، والزراعية، والفكرية التي تلقَّف العرب قشُورها دون بحث في إوالياتها وأسسها، ما جعلنا نعيش صداما بين من يؤمنون بأنّ الحداثة العربية تجربةٌ منبعثة في حضارتنا الإسلامية منذ العصر العباسي، وبين من يرفضها باعتبارها تقليدًا أعمى للآخر الاستعماري / الغرب، يقول داريوش شايغان: «الحداثة في أيامنا واقع ساطع لا يمكن إخفاؤه، فهي تزعج وتنزعج، وتغير ولكنها تخلق أيضا مقاومات سلفية، وتعزّز بشكل تناقضي دور أولئك الذين تسعى لاستئصالهم». ما يمكن أن نقوله عن حداثتنا العربية، أنها لم تكن حداثة بالمعنى الفكري والمصطلحي للكلمة، بل كانت «خديعة» أو «وهمًا» حسب الناقد «محمد علاء الدين عبد المولى»؛ إذ يقول: في مناخ عربي - تلك صفاته - أصبحت صفات الشاعر الكبير والشاعرة الأولى، وشاعرة العرب وشاعر المستقبل، ألقابا توزع هنا وهناك دون وازع ولا رادع ولا من أحد، نظرا لغياب من يردع وعدم استجابة من يُردع، وربما كان من ضرائب الحداثة التي أُصبنا بها بكل ما فيها من أمراض وسرطانات خبيثة، أن تتساوى الأشياء وتنمحي العلامات الفارقة، نظرا لانكسار الهوية التي لم تعد شأنا عظيما لدى الكثيرين»، وهو ما يظهر في تلك الفوضى المعرفية التي عرفها الأدب العربي، وباقي العلوم الإنسانية التي حاولت تقليد مشروع أقرَّ الغرب بعد الحربيين العالميتين (الأولى والثانية) بفشله، وفشل جميع القيم التي جاء بها ما مهد لظهور حالة جديدة لم تكن أقل من الحداثة، والتي جسدتها فلسفلة أو حالة «ما بعد الحداثة»، رغم محاولة عديد النقاد رفضهم لها، ك «هبرماس» الذي رأى أنَّ: «مشروع الحداثة، المتجذّر في سياق عقلنة عصر التنوير، لم يكتمل بعد وهو يتطلّب إكمالا».