بين السياب ومحمود درويش، فارق كبير في رسم هذه اللحظة، درويش الذي كان حريصا على الهدوء والرومانسية المبالغ فيها، وغير الواقعية، إلا لشخص قد يوصف أنه يعاني من الارتباك في لقاءات النساء. فدرويش في قصيدة «درس من كاموسطرا» يوصي العاشقيْنِ بالانتظار إذا ما جن الليل عليهما، وأصبحا غارقين في هدأة الليل.. أما السياب فلم ينتظر؛ فثمة فارق مع العاشق الحقيقيّ، ولعلّ موقف السيّاب هذا أشبه بموقف عمر بن أبي ربيعة، ففي مقطوعة قصيرة يقع ابن أبي ربيعة في المشهدية ذاتها، إذ يقول: قالت وعيش أبي وحرمة إخوتي لأنبهنّ الحي إن لم تخرجِ فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرجِ يتشابه المشهدان، مشهد بداية قصيدة السياب عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة، في أنه لا انتظار، ولا طقوس، وإنما كل شيء عابر، إضافة إلى الناحية السرد القصصية لدى الشاعرين والصورة القائمة على التخيّل. هذا المشهد الافتتاحي عند السياب لم يطلْ كثيراً، إذ تنتقل القصيدة إلى صوت المرأة، صاحبة اللقاء، عدا أن الشاعر السياب منحها صوتا للحديث، فإن القصيدة ترسم صورة مختلفة لتلك المرأة، وجاءت متسقة مع المقدمة المغلّفة بالعنف منذ البداية، فما طلبها للرحمة من الشاعر ما هو إلا محض مراوغة أنثوية؛ تمهيديا لإعلان الصخب والعنف الذي طالبته فيه.. إنها صورة مهدت للشاعر أن يكمل الفعل التخيلي فيما يأتي من سطور شعرية، وصولا إلى الكناية اللطيفة بانتهاء المشهد. وهنا يغلق الشاعر النص بعلامة الترقيم النقطة، هذه العلامة التي توحي بانتهاء المشهد الكليّ للقاء من الوصل صاخبٍ، مع أنّ الشاعر جعل خلفيّة هذا المشهد طبيعيّة، حيث النهر والقرية وأجواؤهما. هذه القرية «جيكور» التي لم تفارق شعر الشاعر وظلت تتردد في أشعاره، حتى وهو في آخر البقاع، بُعدا عنها، إلا أنها هي الحاضرة دوما في وجدانه ولب لباب أشعاره. تتحول القصيدة بعد ذلك إلى الإيقاع الهادئ، في هذا الجزء من النص، أو هذا «التخيل الاستباقي»، سيلتفت إلى أفعال أخرى أقل صخباً ودرامتيكية؛ فيهيم ثغره وينخطف، وصولا إلى قوله «سأذوب فيها حين ألقاها». هذه الجملة - إذا ما تم غض الطرف عن تفسيرها النفسي السابق- منحت النص بعدا روحيا، ورفعت شعرية القصيدة في خاتمتها، بعيدا عن المتخيّل العابر الذي أوهم به الشاعر قراءه في البداية، فكأنه يعيد إلى أذهان القارئ كثيرا من المقولات الفلسفية حول علاقة الجسد بالروح والمتعة الروحية المتأتية من العلاقة الكاملة، فالجسد حامل للروح، بل هو وعاء للنفس، ولن تولَج الروح إلا من بوابة الجسد. إن العاشقين جميعا، بل الرجال كلهم، والنساء كذلك، لا يجب أن تتحول علاقاتهم إلى «شيء» أو «موضوع» مسكوت عنه أو «تابو» محظور الاقتراب منه، ولذلك فإنني أرى أن ما أعلن عنه الفنان اللبناني مارسيل خليفة عام 2019 في إحدى حلقات برنامج «بيت ياسين» أن هذه القصيدة سيلحنها ويغنيها من بين مجموعة أعمال أخرى- لغير السياب- تحتفي بالمرأة، وهذا أمر في غاية الجمال والأهمية، ولعل أجمل ما يهدى شاعر في ذكراه أن نحيي شعره ونحيّيه بهذه الالتفاتة الفنية التي يتضافر فيها الشعر مع الموسيقى، تحقيقاً عملياً لمقولة «الشاعر لا يموت برحيل جسده»، إنما هو باق ما دام هناك قراء وفنانون يستعيدون شعره، قراءة وبحثاً وألحاناً. إنّ في دراستي لهذه القصيدة محاولة للإضاءة على جانب مخفيّ من شعر كثير من الشعراء، إنني معنيّ- على نحو خاص- برصد هذا الجانب لدى كثير من الشعراء، وخصصت له فصلا كاملا في كتاب «بلاغة الصنعة الشعرية». هذا أمر، والأمر الآخر الذي يدفعني إلى قراءة السياب واستعادته بقصيدة «هامشية» على أنها من عيون أشعاره أن بعض أشعار السياب تدرس للطلاب في المدارس في مناهج اللغة العربية، وبلا شكّ فيه فإن المعلمين والنظام التربوي برمته لن يضيء هذا الجانب في حياة الشعراء وأشعارهم، ولن يدفع الطلاب إلى البحث فيها، ولذا ستظل مخفية، ولن يتعرفوا إلا على «أنشودة المطر» و»غريب على الخليج» و»هل كان حبّا؟»، كما هو حاصل عندنا في فلسطين، حيث تدرس هذه القصائد للطلاب؛ ما يعني تقديم صورة منقوصة ومشوّهة للشعراء. لذلك كله- أخلاقيا وجماليا وفكريا- لا بد من استعادة بدر شاكر السياب في هذا النوع من الشعر ومحمود درويش ونزار قباني، كما يجب استعادة كل شعر عربي يحمل هذا الموضوع من امرئ القيس إلى عمرو بن كلثوم إلى أبي نواس والاحتفاء بشعر الشاعرات أمثال ولادة بنت المستكفي ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجية، وكل شعر خارجيّ النزعة، وخارج عن المألوف، ولا بد من كسر هذا «التابو»، والانفلات من هذه الحلقة التي وضعَنا في سياقها الزّيف، وأوجدت عند طلابنا نوعا من الاغتراب عن حقيقة الشعر والشعراء، وحقيقة النفس الإنسانية التي لن تشعر بالأمان إلا وهي تحقق حاجتيها: الحسية والروحية، بل يجب أن يفهم «التربويون المتكلسون» أن الكتابة النقدية وتدريس الأدب؛ شعرا ونثراً ليس جرماً، وأن كتابته، تعدّ خلقا إبداعيّاً، كذلك ليس جريمة مطلقاً. إنها محاولة لكسر دائرة الصمت المطبق؛ لعلّ بعض الضوء ينفذ إلى هذا الجدار، فيخلخل حجارته وأساساته، ويحلحل تلك العقول السابحة في محيطات من الظلام، وهي تحسب أنها من دعاة التنوير والحداثة والمعاصرة. أو ربما أنها تحسب أنها تحسن صنعاً.