يختارني الإيقاعُ، يَشْرقُ بي"، هكذا وصف محمود درويش قدره الموهوب للإيقاع. في ستة عشر بحرًا استخرجها الخليل والأخفش، مضى الشعر العربي عبر ألف وخمسمئة سنة. ومن الأهازيج المترددة في صحراء حادِ العيس وصولًا إلى الشعر الحر كان الإيقاع ملكًا، وحتى في سقطات الشعر العربي. الشعر العربي الذي اختصره الكثيرون في مختارات وروائع؛ وكأن ذلك الكمّ الهائل لم يحمل سوى ندرة من الجماليات. الجماليات التي أكلتها الهجائيات والمدائح والحكمة والفخر. وفي هجرة جماعية تخلى الكثيرون عن الإيقاع لصالح قصيدة النثر أو شرع الكثيرون في الكتابة من خلال قصيدة النثر، بعيدًا عن طرح أي حلول تمنع سقوط قصيدة الإيقاع، ذلك السقوط المفضوح بعد رحيل العديد من الرواد الذين مثلوا النفس الأخير للقصيدة. فهل نحن أمام فن ينقرض أو يتداعى؟ صحيح أن المشهد الشعري -بشكل عام- سيئ للغاية، وقلة فقط هي من تفعل شعرًا. لكن، التدهور الحاد لقصيدة الإيقاع مربك بما يستدعي الانتباه. لذا؛ نحاول أن ننظر لشهادات شعراء قصيدة النثر، آراء من يقفون على الضفة الأخرى من قصيدة الإيقاع، ربما نعثر على خيط جديد من أصدقاء تجربة أخرى ينعش قصيدة التفعيلة.
الشاعر والروائي علاء خالد
المرة الأولى التي أستمع فيها لقصيدة دون أن أعرف أنها شعر؛ كانت في ذكرى أربعين عبد الناصر سنة 1970، وبصوت نزار قباني في التليفزيون المصري. بُهرت بهذا النوع من الكلام العادي الذي له هذا التأثير، وببساطة اللغة الآتية من صلب الحياة اليومية، ومن المفردات المتداولة، وبشعرية خافتة غير ملحوظة، ولكنها عميقة التأثير، ربما لأنها تسير كما يسير الكلام العادي ولكن بنظام حسي مختلف.وحول دور الإيقاع في القصيدة العربية، يكمل الشاعر والروائي (علاء خالد): بالتأكيد الإيقاع، مهما كان خفيًا، يحفظ الكلام من الاندثار والفناء. إنه عبارة عن بناء يحفظ المعنى من الزوال. ربما كان استخدامه ضيقًا عند البعض، أو شكليًا، وهو ما يعني أسبقيته على المعنى، وهذا يؤدي إلى تبعية قد تُفرِّغ الشعرَ من فاعليته كونه حدثًا لغويًا. ربما هي مفارقة لن تحل أبدًا: نضحي بالمعنى لصالح الإيقاع، أو نضحي بالإيقاع لصالح المعنى. كأن المعنى والإيقاع منفصلان ولا يشتركان، أو يتحدان، إلا في لحظة الفعل/الحدث الشعري. وجود الإيقاع حفظ الكثير من الكلام والمعاني. لولاه ربما لوجدنا صعوبة في تعقب ذاكرتنا الشعرية والإنسانية، بشكل عام، عندما كانت الثقافة مقدسة. الإيقاع مثل مناهج الفكر، لاحقة على النشاط الفكري نفسه، ثم قائدة له بعد ذلك. وحتى لا تتحول الأسبقية إلى قداسة، في ثقافة غير مقدسة، أو لها قداسة مختلفة عن القديم كثقافتنا الحالية؛ يجب أن تظل هناك حركة خلخلة مستمرة بين السابق واللاحق، وهو شيء يفترض حراكًا تاريخيًا مستمرًا، بلا انقطاعات، وهو شيء مستحيل حدوثه. هنا فقط يمكن النظر للإيقاع كونه حافظًا لنوع محدد من الفكر والشعر والقداسة، لها جميعا ارتباط عضوي بالماضي، وليس بالمستقبل، وحتى لو احتوت حكمة فارقة أو مفارقة لغوية، أو بلاغة غائبة. كلها ترجيعات لصدى أنساق قديمة من البلاغة داخل زمن حديث. أما عن النماذج التي يراها متجاوزة لفخ الإيقاع: أجد نماذج مثل محمود درويش تخطت مشكلة المعنى والإيقاع. وإن ظل، درويش، يعيش داخل غنائية فلسفية وليست فقط رومانسية. ليست كل غنائية إما أن تكون محذوفة من الانهمام الفردي أو من الانشغال الجماعي، هناك غنائية تقع ما بين العقل والغريزة، هناك مكان تقاطع أجد محمود درويش يجلس فيه. التعدد يكمن عند هذا التقاطع والذي لن تسمح به التجربة للكثيرين. أيضًا، أمل دنقل وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور شغلوا جوانب متعددة من هذا اللقاء بين العقل والغريزة، بين طموح الجموع وطموح الفرد، بين ذاكرة جمعية وأخرى فردية. غاية العصر الذي نعيشه كان إنتاج التعدد، ولم يعد الشعر ملحميًا، وإنما له الصبغة أو الإطار الملحمي، وحتى لو كان المتبقي من الملحمة معركة الوجود الشخصي فقط. المهم أين تساق وتدار هذه المعركة، كي تدافع عن الوجود الشخصي كما تدافع عن الآخر. الحمل الفلسفي أنقذ الشعر ومنحه شرفًا، وأسبغ على العقل والغريزة صفة التعدد. وعن المعنى والإيقاع يختتم الشاعر والروائي (علاء خالد) شهادته: المعنى، الذي تتوجه إليه قصيدة النثر، أيضًا يحفظ القصيدة، أو بشكل آخر يسمح بتحديث أفكارها وطموحها بإدخال ملابسات حديثة لاستيعاب المستقبل. هناك شيء يتقدم للأمام داخل النثر، بعكس الإيقاع الذي يؤبن الوقوف على اللحظة ويمنحها فخامتها. المعنى هو من يرى المستقبل وليس الإيقاع. الإيقاع كالكفن، أما المعنى فهو الموت الذي لا يحتويه شيء إلا النهاية. أحمد ندا: قصيدة الإيقاع استنفدت كل شروطها
أما الشاعر (أحمد ندا) فيقول: يبدو السؤال عن القصيدة الموزونة في اللحظة الراهنة تاريخيًا، في ظل هيمنة النثر جماليًا وإبداعيًا كمًّا وكيفًا. لماذا يعتبر السؤال تاريخيًا؟ لأنها استنفدت كل شروط وجودها، أعني بالموزونة هاهنا لا البناء العروضي فحسب، لكن فضاءها الجمالي والفني. كثير ممن يصر على الكتابة التفعيلية له موقف حاد من قصيدة النثر؛ بل ويعتبرها "ليست شعرًا"، وهي الجدلية التي صار الكلام فيها نوعًا من الكوميديا السوداء، بعد كهولة النثر وبلوغها عامها الخامس والخمسين. المشهد الشعري كله مأزوم بضعف الخيال والتجارب المستنسخة بالفعل؛ لذلك فالسؤال عن نوع استهلك أغراضه الآن هو نوع من العبث. كلامي حتى الآن عن الفصحى لا العامية؛ لأن العامية الآن في أحطّ أطوارها مع تجارب تستنسخ الرواد حداد وجاهين ونجم.
أحمد الحلو: قصيدة التفعيلة عجزت من بعد النكسة
الشاعر أحمد الحلو يرى أنه لم تكن صدفة أن يصدر أول ديوان لكل من تياري الشعر التفعيلة والنثر في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين وبشكل متقارب زمنيًا، فلم يكن التوق إلى التغيير والتجديد في جسد وروح الشعر العربي التقليدي كافيًا بشعراء النصف الأول من ذاك القرن لأن يخرجوا به من مأزقه الجمالي في التعبير عن روح جديدة تتشكل على خلفية خطاب التحرر والاستقلال. وحين أصدر صلاح عبد الصبور ديوانه ( الناس في بلادى) 1957، وبعده بثلاث سنوات أصدر أنسي الحاج ديوانه (لن)، ارتسمت ملامح الحساسية الجمالية الجديدة في الشعر بشكل صريح ومتباين في نوعيين لكتابة القصيدة، هذه الحساسية والذائقة التي وجدت نفسها أكثر في جماليات قصيدة التفعيلة، التي حافظت على موسيقى الشعر واستطاعت أن تستلهم تراث عمود الشعر الجمالي وتطوره بما يعبر عن طموح شعوب تتوق للحرية وتحلم بحياة تسترد فيها وعيها من جديد، وحتى بعد أن استفاق الوعي الجماعي على أحلامه الضائعة، استطاعت قصيدة التفعيلة أن تفي بالشرط الجمالي للمرحلة من مطلع الستينيات إلى النكسة. لكن، انكسار الروح بعد تلك الهزيمة أخرج الجمالية الكسيرة المتمردة لقصيدة النثر، وعجزت قصيدة التفعيلة عن أن تكون صوت المرحلة، عدا أصوات عبقرية طورت تجربتها بفرادية مذهلة لكنها انتهت بموت كل منهم كعفيفي مطر، درويش، وأمل دنقل. هرمس: أرى في بعض من أكلوا البحور استسهالًا وحيادًا
أما الشاعر (هرمس) فيقول: الكلام الموزون أحبه في شعر قيس، وامرئ القيس، أو حتى في أبي الحسن الشستري، والشعر الملحون المغاربي، وشعر الصوفية الكبار مثل الحلاج والسهروردي وابن عربي، وعروة بن الورد، وحاتم وبشار والصعاليك الكبار. وفي الشعر الحديث أحب حتمية عبد الصبور، وبكاءات دنقل، وتكوين عفيفي مطر، ورنين الفضة في قصائد درويش، وطيور مظفّر النواب، وخليج السياب، ونار البيّاتي. هذا التطيّر الخطير، أعني الكلام الموقّع الموزون، القادم مباشرةً من الشياطين، تخيّل معي كم قدَرًا ينفضُّ وينهدم وينقضّ ويرتسم كلما تلامس سبب ووتد، أو افترق حرفٌ وعدد، "هذا الزّورُ الطارقُ الذي ومض، كأنه بارق"، كما يقول شيخ المعرة. الكتابةُ هناك في الدهاليز، عند مفاصل الجمال، وهوسٌ هو الشعر كله، والموزون منه أشدّ هوسًا، ولكي تنفذ الصبا من بين التفاعيل، ولكي تقرع السيوف. صكوكٌ قديمة وحُلَل. من منا لم يحلم بهذا التطير، ولم يتطير بهذا الحلم، أنا بدأتُ الكتابة هكذا، بين عمْلات الجنّ، وهناك في تلك الأقباء التي على النبيذ، نسجتُ تعاويذي أيضًا. لا أعرفُ رأسًا ولا قدمًا للخلاف، وهذا العراك. وحتى القول إنه مستورد من الخارج جانب الصواب، هناك يكتب الناس السوناتا إلى الآن، والإيامبيّ، والهيكسا والبنتا، لا يحتوي الإنجليزي على السكون والحراك، وهذا الفرق الكبير، جعل التخلص من النبر سهلًا. القصيدة الإنجليزية تطوّرت ببطء عبر قرون، لكن القصيدة العربية كانت ترتطم في كل حقبة بمدارس "إحيائها" و"صحواتها" وهذا الأمر عادي، وهذا العود النتشويّ أحمد، ودروب الكلام متاحةٌ للجميع وليسلك كل مهووس سلك هوسه الخاص، الفروق لدينا بين الكلام الموزون والكلام المنثور كبيرة، أنا أتكلم هنا عن التقنية، تستطيع أن تحول أي كلام لكلام موزون في الإنجليزية ببعض تعديلات بسيطة على النبر وبعض المحو. أما نحنُ فلنا شباكنا المعتّقة، وكلامنا القديم المعرّق، والقوافي فيافٍ، والعودة من هذا الخوض ليست سهلة. لكنّما أرى في بعض من أكلوا البحور استسهالًا وحيادًا عن هذا التعويذ.
مروة أبو ضيف: المحك في قصيدة الإيقاع هو الخروج من فخ الإيقاع للإيقاع
الشاعرة مروة أبو ضيف ترى أن شعر الإيقاع شهد تطورًا كبيرًا على مر الزمن وعلى يد شعراء مختلفين. والفيصل في أي قصيدة هو مضمون القصيدة واختلاف الصور واللغة المستخدمة وليس للإيقاع. هناك العديد من القصائد التي يملؤها الإيقاع لكنها خالية من المضمون أو التجديد وأحيانًا المعنى. لا تستهويني قصيدة الإيقاع، أفضّل قصيدة النثر حيث يستخدم الشاعر خياله وشاعريته وموهبته في صنع قصيدة مبهرة بعيدًا عن إيقاع يسرق أذن القارئ على حساب مضمون القصيدة. أظن أن الشعر الغربي سبق الشعر العربي كثيرًا في الاهتمام بمضمون القصيدة أكثر من وزنها وإيقاعها. وتجد القصائد الواقعية وقصائد الرعب والكثير من الصور الصادمة والمختلفة في القصيدة عوضًا عن الاهتمام بالإيقاع، وقصيدة الإيقاع تحتاج الخروج من فخ الإيقاع للإيقاع؛ بمعنى أن تكون القصيدة بمضمونها وصورها وخيالها هي الهم الرئيس للشاعر، والإيقاع يأتي بالأخير أيضًا.
محمد أبو زيد: أرفض مقولة أن عصر قصيدة التفعيلة انتهى
فيما يسرد الشاعر محمد أبو زيد تجربته: مَرَرْتُ، مثل عدد كبير من شعراء قصيدة النثر، بالقصيدة العمودية، ثم قصيدة التفعيلة، وصولًا إلى قصيدة النثر بشكلها الحالي، التي لا أعتقد أنها الشكل النهائي للقصيدة أيضًا، وإنما ستخضع مثلما خضعت الأشكال التي سبقتها للتطوير والتجديد، ولم يكن انتقالي -وغيري- إلى قصيدة النثر إلا لأننا شعرنا أنها ستقدم شيئًا جديدًا، وهو ما حدث مع الهجرة الجماعية إلى قصيدة التفعيلة من القصيدة العمودية منتصف القرن الماضي، والشعور بأن الشكل القديم والتقليدي لم يعد يضيف جديدًا. أرفض مقولة أن عصر قصيدة التفعيلة انتهى، وإنما أعتقد أن القصيدة تواجه منعطفًا هامًا في تاريخها، ومشاكل لطالما وجهتها إلى الشكل الشعري السابق عليها، ومشكلة قصيدة التفعيلة هي مشكلة شعرائها، الذين أغرقوا في الشكل، ولم يفكروا في تطويره موازاة لتطوير المضمون الذي يحتاج إلى نظرة أخرى إليه. الفرق بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة أكبر بكثير من مجرد "حذف الوزن"، كما أن الفرق بين قصيدة التفعيلة والعمودية أكبر من مجرد التمرد على القافية. ربما على قصيدة التفعيلة هنا أن تستعيد روحها التي بدأت بها، روح التمرد والخروج عن المألوف، وعدم السقوط في شرك التكرار، والإغراق في القصيدة الواحدة، وربما كانت هذه مشكلة بعض شعراء النثر الذين انتقلوا من قصيدة التفعيلة إليها، وكتبوها بنفس طريقة كتابتهم السابقة. لا أقول هنا إن نوعًا شعريًا أفضل من الآخر، ولا أن طريقة كتابة خير من الأخرى، فكل شاعر يختار الطريقة التي يجد أنها مناسبة للتعبير عنه؛ لذا فعلى كل شاعر الانتصار لقصيدته ولنوع كتابته بتقديم أفضل ما فيها، بتفجيرها من الداخل، وإعادة بنائها من جديد. لن ينتهي نوع شعري، لكن عليه حتى يستمر، وحتى يصبح قابلًا للحياة أن يطوّر من نفسه ومن أدواته ومن تعاطيه مع التغيرات الحداثية من حوله. لا يمكن لأحد أن ينكر أن قصيدة التفعيلة قدمت الكثير، وبالنسبة لي أحب الكثيرين، مثل محمود درويش، ومحمد سليمان، ومحمد عفيفي مطر، ومحمد محمد الشهاوي. بين ست شهادات، لشعراء قصيدة النثر، تنقلنا. يؤمن بعضهم بانتهاء زمن الإيقاع، بينما يرى آخرون أن أسبقية المحتوى هي الحل للخروج من فخ الإيقاع. شهادات لسكان ضفة أخرى، لكن خروج القصيدة من أزمتها تحتاج للرؤية والفعل من سكان ضفة الإيقاع.