في عمله الفذ الأخير الذي مهَّدَ لانتحاره ربما، يقول فالتر بن جامل: «المؤرخ الذي سيملك موهبة إذكاء جدوى الأمل في الماضي، هو فقط ذلك الذي يكون راسخ القناعة، بأنه حتى الموتى لم يكونوا بمأمن من العدو إذا انتصر». فهل انتصر عدونا؟ هل انتصر لدرجة عدم اكتفائه باحتجازه لحياتنا، فتطاول بانتصاره محتجزًا موتًا عريضًا؟! لم يحرز الآخر الصهيوني نصره المؤزر علينا بعد، غير أنه انتصر بكل ما أوتي من عنجهية وإقصاء على ذات الضحية اليهودية في داخلها، نصرًا أخمد جذوته الأخلاقية، بعتي أثاره الفاشية المخيف المعين من كافة الآفات ونزعات الشر الحديث التي تلبسته، وألقت به في محارق وأفران أوروبا النازية؛ ليهب علينا على حين غرةٍ مدججًا بقوميةٍ فتاكة، لا تحتمل سواه، ومزودًا بفقه إقصاء للحقيقة الصهيونية المطعمة بتعاليم توراتية خالصة، لا هدف لها سوى الخلاص من الخطيئة الفلسطينية، إذ أن مملكة الخلاص لم تتجلَ إلا من خلال احتجاز موت الفلسطيني وإشباعه قتلًا وصلبًا. هذا ما يتعرض له الفلسطيني كأسير، يتعرض في كل لحظة من لحظات الصهيونية الحديدية لأقسى أشكال وصور التنكيل والإقصاء والإلغاء والتصنيف، ومحو الملامح والأسماء؛ ليغدوا الأسير في هذه الحالة، الخطيئة الآدمية التي يسعى الآخر الصهيوني الخامي والعصابي للتخلص والخلاص منها، عبر الاشتباك اليومي مع كافة تفاصيلها. وبدوره لا يمتلك الأسير -الخطيئة- فرص الاختبار، إذ يخوض في حيزه الاعتقالي الحديدي حربًا شاملة مع آخره الصهيوني، حرب التفاصيل الصغيرة المتمثلة بالاحتكار وبالأمل تارةٍ، وبالصمود تارةٍ أخرى، إلى أن يكتشف حياته ليست هي المستهدفة فقط، فهو وبعد احتجازه ومصادرة حريته تمت عملية تفكيك إنسانيته بنجاح، فصار يعيش في البرزخ أو بالأحرى صار الحي الميت الزومبي، إلى أن يكتشف موته المعلق هذا سيقتل بعد قليل، وسيحتجز هو أيضًا في ثلاجة الموتى من منطلق الإمعان في كي الوعي الفلسطيني بجحيم الانتصار الصهيوني، فهذا ما حدث مع أخينا الشهيد ناصر أبو حميد، الذي مات منذ اعتقاله قبل عشرين عامًا، ومن ثم جرى قتله بعد موته، فهذا ما سيحدث لنا أيضًا نحن الموتى الأسرى المؤبدات، الذي لم نعد نترقب الحرية السامية. هل أصبحنا نتدرب على تحمل صقيع ثلاجة الموتى، من خلال ترديد الهاجس المتشائم التالي متى سيأتي دوري؟ متى سيقتلون موتي؟لا بل إننا نتسائل أيضًا عن حجم وقيمة الاكتفاء والرضى المنعكسين على نجاح المنظومة الصهيونية الفاشية باحتجاز جثمان الأسير بعد موته في ثلاجة الموتى، إذ هل سينام آخرنا الصهيوني قرير العين الآن بعد أن تحقق له الخلاص من الخطيئة الفلسطينية، وتجميدها في ثلاجة ضمير المدعى؟ هل انتصر حقًا؟