ألهب موضوع الإسلام السياسي بروافده المختلفة سوق الكتب والمجلات، كما ساهم في إصدار العديد من الدراسات الجامعية والمقالات الصحفية وتنظيم الحصص التلفزيونية والإذاعية، وذلك منذ أن أمسى ظاهرة عالمية مؤثرة على الأحداث السياسية الدولية.. لقد ازداد اهتمام الغرب بظاهرة الإسلام السياسي بعد قيام الثورة الإيرانية ونجاحها في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، كما ساهم موضوع الجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفييتي في إثراء عدّة مكتبات عبر العالم بمؤلفات عالجت مواضيع متفرقة لها علاقة متباينة بظاهرة الإسلام السياسي. ووصلت ذروة الاهتمام بالظاهرة الإسلامية على العموم، والحركات السياسية الإسلامية على الخصوص، بعد أحداث سبتمبر 2001. كما زاد الاهتمام الغربي بالإسلام السياسي بعد الربيع العربي ووصول بعض الأحزاب الإسلامية في العالم العربي إلى سدّة الرئاسة والحكومة والبرلمان. اهتمام الغرب بموضوع الإسلام السياسي عرفت الساحة الفكرية الغربية على العموم والفرنسية على الخصوص، اهتماما بالغا بالحركات السياسية الإسلامية على اختلاف إيديولوجياتها، وتخصّص باحثون في الشأن الإسلامي فيها، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: - المفكر الفرنسي «برينو إيتيان» صاحب كتاب: الإسلام السياسي الراديكالي الصادر في 1987». - الباحث الفرنسي «أوليفيه روا» الذي ألّف عدّة كتب في المسألة الإسلامية نذكر أهمها: أفغانستان، الإسلام والحداثة السياسية الصادر في 1985، وفشل الإسلام السياسي الصادر في 1992، وعولمة الإسلام الصادر في 2002، وجينيالوجيا الإسلاموية الصادر في 2011، والجهاد والموت الصادر في 2016. - الباحث الفرنسي «فرانسوا بيرغا» صاحب عدّة كتب في الإسلام السياسي، منها: الإسلام السياسي في الدول المغاربية، صوت الجنوب الصادر في 1988، والإسلاموية في المواجهة الصادر في 1996، والإسلاموية في زمن القاعدة الصادر في 2005، وفهم الإسلام السياسي الصادر في 2016، وتاريخ التعبئة الإسلاموية من القرن 19 إلى القرن21 رفقة «ماتيو راي» الصادر مؤخرا في 2022. - الكاتب الفرنسي «جيل كيبل» الذي تخصّص أكثر في المسألة الإسلامية الجهادية، وألّف العديد من الكتب في الموضوع منها: النبي والفرعون: الحركات الإسلامية في مصر المعاصرة الصادر في 1985، وجهاد: انتشار وانحسار الإسلام السياسي الصادر في 2000، وكذا الفتنة: الحرب في قلب الإسلام الصادر في 2004. - الباحث الأمريكي «غراهام فوللر» صاحب كتاب: الإسلام السياسي ومستقبله الصادر في 2000. الباحث الأمريكي «بيتر موندافيل» صاحب كتاب: الإسلام والسياسة الصادر في 2020. نذكر أنّ هذا الاهتمام الغربي بظاهرة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية سواء السلفية منها أو الإخوانية أو الجهادية، ليس منبعه الجانب المعرفي والأكاديمي وفقط، وإنما كذلك له غايات سياسية وإستراتيجية نيوكولونيالية بمنهج استشراقي قصد معرفة هوية وبرامج وأهداف الحركات الإسلامية قصد تهيئة أصحاب القرار في الدول الغربية وبناء سياسة جديدة للتعامل مع الوافد الإسلامي الجديد للحكم. مقاربة الباحث الفرنسي «أوليفيه روا» في مسألة فشل الإسلام السياسي ألّف أوليفيه روا كتابا يحمل عنوان «فشل الإسلام السياسي»، وذلك في سنة 1992. أعاد طبعه في أبريل 2015، وأضاف له تذييل (postface) شرح فيه مقاربته من جديد بعد أن تعرّضت نظريته إلى نقد من قبل سياسيين وباحثين. تساءل السياسيون: «كيف تتكلّم عن فشل الإسلام السياسي في الوقت الذي يفوز فيه الإسلاميون بالانتخابات كما هو حاصل في تركيا ومصر وتونس، خاصة وأن الحركة الجهادية هي في تصاعد منذ أحداث 11 سبتمبر 2001»؟ أما الباحثون فقد تطرّقوا في نقدهم إلى مصطلح الإسلام السياسي، وتساءلوا «فيما إذا كان هذا المفهوم عبارة عن بناء اصطناعي، مصبوغ بالاستشراق وما بعد الكولونيالية الذي يقسم تعسفيا الموضوع السياسي حسب فئات العلوم السياسية الغربية (إيديولوجية، مركزية الدولة)، بينما مرجعية الإسلام في العالم الإسلامي مرتبطة جوهريا بمسألة الهوية والشرعية السياسية وخاصة حركات الاحتجاج ضد كل أشكال الامبريالية الجديدة والهيمنة الثقافية»؟ يُجيب «أوليفيه»: بأن «الكتاب لم يكن أبدا أطروحة حول الإسلام والسياسة، فهو يصف بدقة مسار الحركات الإسلامية التي لها تاريخ، ومن ثمّة فهي تندرج ضمن إطار زماني وسياق محددين، يتمثل في النصف الثاني من القرن العشرين. لم يقل الكتاب أبدا بأنّ الحركات الإسلامية لا تستطيع الوصول إلى السلطة، لقد وصلت في كل من إيرانوتركياوتونس، غير أنّ التجربة والممارسة السياسة أثبتت أن مفهوم الدولة الإسلامية يُدمر ذاتيا بمجرد وصول هذه الحركات إلى السلطة، وذلك بفعل التناقضات الداخلية للمشروع الإسلامي. فجمهورية إيران هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي استطاعت أن تصمد لحدّ الآن، لكن في المقابل أنتج «نظام الملالي» المجتمع الأكثر علمانية في الشرق الأوسط. ويستمد هذا النظام شرعيته الحقيقية من قومية عدوانية حرّضت إيران ضد الإسلاميين السنيين، وهذا ما قوّض عالمية الثورة الإسلامية. إنّ وصول كل من حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في تركيا إلى السلطة أفرغ برنامجهما الإيديولوجي لتمسي أحزابا بالتأكيد محافظة، لكنها قانونية». يواصل الباحث متسائلا عن مستقبل الدولة الإسلامية قائلا: «لا أدري ماذا يمكن أن يحدث مستقبلا؟ لكن أعرف ما لا يمكن أن يحدث وهو قيام دولة إسلامية، ولا حتى أي دولة دينية، لأنّ هناك تناقض عميق في مفهوم الدولة الدينية. «لا يقول الله أي شيء، إنه الإنسان الذي يحدّد ما يسمعه من الله» (يقصد بذلك تأويل كلام الله). فالدولة الدينية لا تطبق الدين الموجود خارج إطارها، فهي تقوم أولا بتحديد ماهية هذا الدين وصقله وفق متطلباتها. الدولة الإسلامية هي الأخرى لا تترك رجال الدين يطبقون الشريعة حتى تحدّد ماهية هذه الشريعة وإجراءات تعيين القضاة. إذن تبقى دائما تعلو على الدين، وتجعل منه إحدى أدواته لممارسة الحكم حتى ولو تدعي أنها في خدمة الدين». يواصل الباحث ويقول: «كل دولة هي علمانية بطبيعتها، وعندما تستغل الدين فهي تقوم في الحقيقة بعلمنة الدين. إن فشل الإسلام السياسي ما هو إلاّ نتيجة لاستحالة قيام دولة ثيوقراطية. إن السياسة هي قبل كل شيء ممارسة السلطة، والسلطة تتقيد بقوانينها». مقاربة الفرنسي «جيل كيبل» في قضية فشل الإسلام السياسي ألّف جيل كيبل، كتاب: «جهاد: انتشار وسقوط الإسلام السياسي». اهتم أكثر في دراسته على تحليل الحركات «الجهادية» في العالم العربي والإسلامي وذلك على حساب الإسلام السياسي الحركي، وفسّر أسباب انحطاطها. اهتم بالظاهرة الإنقاذية الجزائرية وخصّها بفصل كامل بعنوان: «الجزائر: سنوات الجبهة الإسلامية للإنقاذ». كما ولّى اهتمامه للأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر بعد إيقاف المسار الانتخابي في دوره الثاني، وخصّها هي الأخرى، بفصل كامل. يرى جيل كيبل أن سبب فشل الحركات الإسلامية الجهادية ناتج عن تفكيك التحالف الطبقي الذي كان سائر المفعول في بداية انتشار الإسلام السياسي بين من جهة، التجار والمتعاملين الاقتصاديين، وهم في الحقيقة مجموعة البازار أو أصحاب الاقتصاد الموازي، ومن جهة أخرى الفقراء والشباب المهمش. ويعود سبب هذا التفكيك الطبقي إلى العنف ودخول هذه الحركات في مواجهات مسلحة دامية مع السلطة الحاكمة كما هو عليه الحال في الجزائر، حيث مسّ العنف كل الفئات خاصة الطبقة الوسطى من معلمين وصحفيين وفنانين والطبقة الشغيلة وكل الفئات الشعبية، وهذا ما أدّى إلى انكسار التحالفات، وأصبحت الإيديولوجية الإسلاموية غير فعّالة بسبب تذمر كل الطبقات من الخطاب الإسلاموي. يرى الباحث الفرنسي أنّ فشل الإسلاميين الجزائريين الجهاديين لم يتجسّد ميدانيا إلا في سنوات 1996-1997، وذلك بعد أن تبيّن للعيان أنّ إستراتيجية «الجهاد» فقدت السند الشعبي، وتحوّلت إلى إرهاب مُدمر ذاتيا. مستقبل الإسلام السياسي يرى الباحث الأمريكي «غراهام فوللر» أنّ مصير الإسلام السياسي مرتبط على نحو متكامل مع قضية الإصلاح على نحو أوسع، ويرى أنّ «الإسلامية» ليست هي الأداة الوحيدة للإصلاح والتغيير بأي سبيل ممكن، ولكنها ستكون الأداة المهيمنة وخصوصا في المجتمعات المغلقة. ويستشرف أنّ الإسلام السياسي في حالة عدم تبنيه الإصلاحات الهيكلية ومواجهة القوى الاجتماعية المتعدّدة التي ترى في الحركات الإسلامية خطرا على وجودها، فإنّ قوى أخرى عندئذ سوف تبرز لتتبناها، أهمها حسب زعم الباحث هي اليسارية. ومن ثمّة يرى الباحث أنّ الإسلام السياسي عليه إما تبني جداول أعمال الإصلاح الراديكالي لليسار، أو سيسلمها لليسار ويخسر البروز والأهمية. وعندما يحدث ذلك فسوف نرى على ما يتوقّع انبعاثا للصراع بين «الإسلامية» واليسار الراديكالي، وهو أمر يذكر نوعا ما بالسبعينيات من القرن الماضي عندما كانت المبادرة بيد اليسار والتيار الإسلامي في حالة ترقب. وقصد اعتدال الإسلام السياسي ونزع بعض الأوراق السياسية التي يتحجّج بها عالميا، يقترح الباحث الأمريكي حزمة من الإجراءات على رأسها تخلي الولاياتالمتحدةالأمريكية عن السياسات القاسية والاستباقية وأحادية الجانب نحو العالم الإسلامي في سياق الحرب ضد الإرهاب، وتبني تعاون أكثر تعاطفا وانغماسا مع العالم الإسلامي. كما يقترح الوصول إلى حل عادل للمشكلة الفلسطينية، ومساعدة العالم الإسلامي على الإصلاح والتغيير السياسي. يثمّن الباحث العمل الإسلامي ويقول إن الإسلاميين شرعوا في ملحمة باهرة وهي الجهد المبذول لجعل حضارتهم الماضية، المستندة إلى إطار الثقافة الإسلامية ذات صلة بصفتها عنصر تطوّر مستقبلي. ويرى أنّ العديد من القوى المختلفة حاولت أن تركب عربة الإسلام السياسي، وبعضها أدّت إلى نتائج مضرة وشريرة، وأخرى أدّت إلى أفكار بناءة منتجة ومجددة من أجل إقامة الجسر بين الماضي الإسلامي وبين الحاضر الإسلامي. ولكن الضغوط المشتركة من القوى المحلية والدولية والمواجهات سوف تعيق أكثر الأشكال إبداعا من الليبرالية الإسلامية عن الظهور والهيمنة لبعض الوقت. ويمتلك الإسلام السياسي حسب الباحث في داخله الإمكان ليلعب دورا إيجابيا أو دورا سلبيا قاسيا في التطوّر المستقبلي للعالم الإسلامي. ويأمل الباحث أن الإسلاميين الليبراليين سوف يواظبون على العمل نحو فهم متجدّد للإسلام في العصر الحديث ونحو شكل عام للقيم الإسلامية، وسوف يجدون حلفاء في العملية. وإذا لم يستطع الإسلاميون أن يرتفعوا لمواجهة هذا التحدي، فسوف تحل محلهم قريبا قوى سياسية أخرى يكون لديها فعلا شيء ما لتقدمه. من جهة أخرى، يرى الباحث الفرنسي «فرانسوا بيرغا» أن الحركات الإسلامية ستبقى تحافظ على شكلها التقليدي وخطاباتها السياسية لأنها جاءت كرد فعل للهيمنة الاستعمارية الجديدة قصد الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية ضد العولمة. وقد اعتبر الكثير من الباحثين الحركات الإسلامية إحدى أشكال ما يسمى بالعولمة البديلة (Altermondialiste). عكس ذلك، ذهب مواطنه أ»وليفيه روا» الذي أبدع مصطلح «ما بعد الإسلام السياسي» (post-islamisme)، إذ يرى أن المرجعية الدينية تمسي لا تعبر عن مطالب هوياتية جماعية، وإنما عن السعي الفردي للخلاص، والذي يمكن أن يترجم نحو الأحسن (إسلام أكثر روحانية) أو نحو الأسوأ (الجهادية). ويصف الباحث مرحلة ما بعد الإسلام السياسي بالأصولية الجديدة (néo-fondamentalisme). أما «جيل كيبل» فقد استشرف بتغيير الخطاب السياسي للحركات الإسلامية قصد التوليف مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يعتبره بعض الباحثين والسياسيين تحولا على طريقة الأحزاب الديمقراطية المسيحية. وقد ذهب إلى ذلك الباحث الأمريكي ذو الأصول الإيرانية آصف بيات في كتابيه: «إنشاء الديمقراطية الإسلامية: الحركات الاجتماعية وما بعد الإسلاموية». و»ما بعد الإسلام السياسي: الجوانب المتغيرة في الإسلام السياسي»، آخذا بعين الاعتبار تجربة الرئيس الإيراني محمد خاتمي الإصلاحية. على نفس المنوال، ذهب الباحث الأمريكي «نثان براون» صاحب كتاب «المشاركة لا المغالبة»، وهي ترجمة للنسخة الإنكليزية (when victory is not an option) ، إذ يرى إمكانية تطوّر الأحزاب الإسلامية واقترابها من نموذج الأحزاب المسيحية الديمقراطية. ملاحظة: للمقال عدة مراجع، أهمها: - كتابي المعنون: «احتواء الإسلام السياسي من قبل السلطة: التجربة الجزائرية». - «فشل الإسلام السياسي» لأولفيه روا. - «جهاد: انتشار وسقوط الإسلام السياسي». لجيل كيبل. - «الإسلام السياسي ومستقبله» لغراهام فوللر.