كما يمكن ملاحظة منحى آخر في رواية «المقبرة»، وهو ذاك الذي يعكسه ذلك الثراء اللّغوي المتنامي والمتعاشق، عبر مختلف فصول الرواية، أين نجد الروائي يلجأ - على سبيل المثال - إلى استعمال السرد الحواري، مستخدما لغة التخاطب اليومي، ومرّات أخرى نجده يلتقط المصطلح العلمي المتناهي في الدقّة المعرفية المبتكرة، كما نجده في مرّات يعمد إلى استعمال لغة التعبير الجسدي، أين تُفصح العضلات عن تشنّجها العصبي والحركي أمام هالة من الانعتاق المفرط في التحرّر، كما لا ينسى الروائي استثمار لغة الاشهار، وما أكثرها في عالمنا المعاصر، فهي تحاصر الإنسان أينما وُجد، وحيث ما حلّ، كما تؤازر هذه الوسائط التعبيرية، لغة الإعلام والصحافة الخاطفة، كما نجد الكاتب لا ينسى الخطاب السياسي الموجّه، وظهور مثل هذا البناء المتشابك لم يأت عبثا، ولا عفو الخاطر، فالكاتب على قناعة بأنّ انتقاد المجتمع يجب أن يمرّ، قبل كلّ شيء، بانتقاد وسيلة الخطاب المتفشية بين أفراد المجتمع، وإلاّ لما تمكن من الولوج إلى تلك البالوعات أو الإحاطة بهوامش المجتمع المسحوقة. إنّ رواية المقبرة، وانطلاقا من كلّ ما سبق ذكره، تبقى رواية عصيّة على التصنيف، أو قل عنيدة الانتماء إلى جنس أدبيّ مُعيّن، أو خاضعة لبناء معماري مألوف ومحدود الملامح، لكن ما يمكن أن تُنعت به هذه الرواية، حسب رأيي، وبأبسط تحديد يمكن اعتبارها رواية «خُلاسية»، قد سبق وأن هُجّنت في مُختبر ما، لأنّ مؤلفها قد سبق وأن لفت انتباهنا في إحدى المرّات، بأنّ هذه الرّواية يمكن انتماؤها إلى ذاك النوع الذي عرف في زمن محاكم التفتيش، وأطلق علية تسمية الأدب المُدجّن (Mudejar) الذي جمع بين الثقافتين المسيحية والإسلامية، وطُعم بعناصر تنتمي لعرقيات أخرى، ومشارب أخرى، وكلّ ذلك يعود إلى ظاهرة تفشي تزاحم الأضداد في هذه الرواية، ويعتبره الكاتب كذلك، بمثابة الخطاب الذي يُلقى من أعلى منبر للحرية المطلقة، أين يجوز في مثل هذا المقام تضافر كلّ أساليب القول، وحرية الرّقص بالكلمات، وإدراك ما لا يُدرك في السرّ والعلن. شخصية العربي في رواية «المقبرة» لقد لعبت شخصية العربي El Moro في رواية المقبرة دورا بارزا، ومن المؤكد أنّ خوان غُوَيْتي صولو أراد ذلك لاعتبارات شتّى سبق وأن ذكرنا بعضها، فنلاحظ من خلال مسار الرواية كيف كان الكاتب يتعقّب هذه الشخصية، ومدى تعاطفه معها، ومدى تقديره لموروثها الثقافي والحضاري الذي يكنّ له الكاتب كبير الاحترام، لكن هذه الشخصية التاريخية نجدها اليوم توضع على الهامش، وتتحول في مسارات معركة المصالح الكبرى إلى شخصية هامشية، ومُبهمة الملامح، وكأنّ الدور الحضاري لهذه الشخصية قد تمّ الاستغناء عنه. ونظرا للتقدير الكبير الذي يكنّه الكاتب لهذه الشخصية التي باتت سلبية، نجده يصرّ على إبراز دورها الإيجابي منذ بداية الرواية، وذلك من خلال تصدير روايته بذلك المثل الشعبي الذي يؤكد على ما يمكن أن نقول عنه هو «دوام الحال من المحال»، وهو مخزون شعبي معرفي ينبجس من تجربة طويلة عركت الحياة بحلوها ومرّها، لذا لا يمكن تجاهل هذا الكائن أو الظاهرة الاجتماعية التي تتحرك في إطار زمانيّ ومكانيّ معلوم، ولا يمكن تركه على هامش الحياة. إنّ رواية «المقبرة» تعكس لنا شبح هذا العربي على أصعدة مختلفة، فمرّة كإنسان، ومرّة كظاهرة اجتماعية، ومرّة كانعكاس لبيئة جغرافية معيّنة؛ فالعربي كإنسان في رأي الكاتب، لا يمكن تجاهل دوره، وزيادة على ذلك، فإنّ حضور هذا الكائن يشكل مغزى متفرّدا، من خلال مقومات شخصيته ابتداء من المظهر الخارجي كسحنة الوجه، التي كثيرا ما يركز الكاتب على إبراز ملامحها، كلون البشرة السمراء، والتركيز الخاص على الشاربين؛ إنّه تركيز يتكرر باستمرار، في رسم شخصية العربي، وذلك بشكل ملفت للانتباه، ولعلّه يريد من وراء ذلك التلميح للمفهوم الحضاري لمدلول الشاربين رمز الرجولة والأنفة. ويبدو أنّ الكاتب كأنّي به يقول، إنّ رجولة العربي وقدرته على الإنجاب، والحفاظ على النّوع، يعودان إلى سرّ تلك الرجولة الكامنة في ما يرمز إليه الشاربان، كما نجد حضور اللّحية التي يذهب بها الكاتب بعيدا، للتوغل بها في الحس الأسطوري، أمّا الظاهرة الأخرى فإنّها متجدّدة الحضور في صفات هذا العربي المهمش، إنّه بتعبير الروائي صاحب أنفة، وجذّاب وأسمر ويمتاز بالرجولة، ومع ذلك فهو دمث الأخلاق؛ إنّها العبارات المتكرّرة في أرجاء الأعمال الأدبية لخوان غُوَيْتي صولو. إنّ الرّوائي خوان يصرّ على إبراز النقيض المتداول بين الغربيين، وخاصة في رسمهم لشخصية العربي، كمحتال وأفّاك، لكن في رواية المقبرة تسود فيها القتامة بحيث تشكل بامتياز جو المقبرة الأساسي، إنّه شعور بعيد النظر، يسعى الكاتب إلى بلورته، كي يمحوَ من ذاكرة الانسان الغربي، الذي أعمى التعصب، والصراع الحضاري الطويل، بصيرته حتّى جعله يقرن السمرة في واقعه المعيش بالخطيئة، أو بكلّ ما هو سيء وقبيح.. الرّوائي الإسباني خوان غُوَيْتي صولو وإشكالية التّقاطع الحضاري قليلة هي لحظات الوعي، والوعي الأسمى، الذي يستيقظ على حين غفلة، من التيّار التاريخي الجارف، في اتّجاهات مصبّات ممنهجة ومدروسة، لكن مثل هذه القلّة قد تحدث، ومن هناك يحصل الارتجاج، ويُلتمس التقاطع، وقد يؤدّي إلى انكسار عكسي، يقتلع كيانه من التجديف الضدّي المُغاير، إنّها حالات يعيشها مبدعون قلائل، قُدّر لهم المسار التّاريخي أن يكونوا شهود عيان على تناسخ أرواحهم، أو شهود حضور على امتلاك لحظة الوعي الهاربة، والتي تتّسم بالتقاطع الحضاري المفجّر للطاقات الإبداعية الخلاّقة. ومن هؤلاء المبدعين الذين لامستهم عناية التقاطع الحضاري، أو قَذف بهم الحظ ليضطلعوا بمثل هذا الحضور الكوني، كاتبنا الشّهير خوان غُوَيْتي صولو، الروائي المعاصر، الذي أبى إلاّ أن يكون أحد الشّهود على لحظة ميلاد الوعي الروحي، في بقعة أقلّ ما يقال عنها أنّها تجمع بين عالم الحقيقة والأسطورة، وهذه البقعة المُلهمة هي ببساطة ساحة «جامع الفناء» بمراكش الحمراء. إنّها البقعة الذّاكرة، التي يتمّ على بساطها الأسطوري صهر الماضي بالحاضر، وانبعاث الرغبة في الشعور بالتجاوز، يقول خوان غُوَيْتي صولو: «...إنّ معرفتي بالثقافة العربية، هي بطبيعة الحال أقلّ بكثير من معرفة كلّ من الأستاذين القديرين المستشرق الكبير إيميليو غارسيا غومس، والمستشرق بيدرو مارتينيث مونتابيث، وعدم قدرتي على قراءة نصّ أدبي عربيّ فصيح، يجعلني غير قادر على إنجاز عمل يضاهي الأعمال التي قدّموها، لكن، وبفضل احتكاكي المباشر بكلّ ما هو إسلامي، بواسطة المُعايشة اليومية، فقد توفر لديّ إمكانية إبداع نسق من الكتابة يقترب إلى حدّ ما، مع ما كان سائدا ومتداولا في أرض قشتالة منذ سبعة قرون خلت، ولا أعتقد أنّ المؤلف المجهول لملحمة السِّيد (Poema del Mio Cid)، أو راهب هيتا خوان رُويث كانا يجيدان العربية كالمستعْربيْن السالفي الذكر، بل كانا مجرّد شعراء جوّالين أو زجّالين، من سواد العامّة من المستعربين (Los Mozarabes) في الأندلس، عايشا تلك القيم التي كانت سائدة في ذلك المجتمع الأندلسي الإسلامي، فانصهرت أعمالهما في رحاب السوق والشارع، أي في خضمّ أحشاء الحياة المفعمة بالحركة والنّبض الخلاّق. إنّ الرّوائي الإسباني خوان غُوَيْتي صولو ما يفتأ يجازف في خضم مجاهل التّاريخ بحثا عن الغريب، وتلبية لحاجة في النفس، صنعتها الأيام، أو بحثا عن تلك الأشياء المهمّشة في إحدى الزوايا المظلمة، وقد تجلّى مثل هذا البحث منذ روايته «علامات هُوية»، مرورا برواية «مطالب الكوند دون يوليا»، والذي يمثّل أحد الشّخصيات التّاريخية البارزة، والمعاصرة لأبرز حقبة من محطات التقاطع الحضاري، والتي هي حقبة الفتح الإسلامي لشبه جزيرة إيبيريا. إنّ مثل هذه العودة من طرف الكاتب، للنبش في التّاريخ الماضي لإسبانيا، هو الذي رسم للكاتب هاجس البحث عن المجهول، أو المسكون عنه، كما يمثل الرغبة من قبل الكاتب في البحث عن التحوّل، والتّمادي في الكشف عن عوالم أكثر تعقيدا، ستعرف فيما بعد في كلّ أعماله كشوفات أكثر تعقيدا، وأكثر صعوبة أمام متتبعي انشغالاته الإبداعية والفكرية، الأمر الذي سيدفع بالعديد من النقّاد إلى المُراهنة على نفاد طاقاته المستوحاة من مثل هذه المجاهل التّاريخية، المهمشة في زواياه المظلمة. إلاّ أنّ الكاتب ما يفتأ يخلف لنفسه، ولغيره المفاجأة، وذلك بمباغتة الجميع مثلا، وهو يطوي آخر صفحات عمله الروائي، «خوان بلا أرض»، بظاهرة لسانية غريبة، بحيث نجده يُقدمُ على تسجيله بالحرف العربي، لمجموعة من المعارف، حتّى ترك المتأمّل يعتقد أنّ مثل هذه المغامرة الجديدة، هي بمثابة علامة من علامات التحوّل، والتي قد تؤدّي بالكاتب إلى العزوف عن مخاطبة قرّائه، باللّغة التي ألفوها، وقد يستبدلها باللغة العربية، حيث بدأت تسجّل حضورا مُلفتا في أعماله الروائية والفكرية، لكن كلّ هذا التكهّن سيبقى من الاحتمالات الممكن حدوثها إلى أن يثبت العكس. والمتأمّل في هذا السّرد القصصي والرّوائي الجديد في مسار خوان الإبداعي، مثل طريقته في التعبير عن هموم العصر، لا نجد فيه ما يوحي بالغرابة أو الجِدّة، بل ما هنالك هو حركية تشبه الإلحاح على استرجاع مخزون الذاكرة المقصية، ومحاولة خلق ما يشبه الحوار بين ما هو كائن، وما يمكن أن يكون، وظهر كلّ ذلك في سياق تاريخي معبّر عن تلك الإفرازات الملفوفة بالغموض، أو هي بمثابة المحطات المهجورة، والمُمْعنة في الغموض والغرائبية. ومن هناك ازداد إلحاح خوان على تجشم الصعاب، من خلال إعادة قراءة، وإعادة صياغة مثل هذه الأصول الغابرة. لذا تجده، وأنت تتابع خيط رحلته الإبداعية، كمن يخترق عوالم المجهول، فيصبح القارئ مُلزما بتوخي الحيطة والحذر، حتّى لا يقع في مطباته الحلزونية، ويتجلّى ذلك على وجه الخصوص، في مجموعته الثانية من حيث الأهمية، كرواية «مشاهد ما بعد الحرب» المنشورة عام 1982، مع مجلّدين من نوع السيرة الذاتية، وهما: Coto vidado و «في ممالك الطوائف». إنّ رواية «مشاهد ما بعد الحرب» تعتبر بمثابة «الكتاب المدينة»، أو «المدينة الكتاب»، أو «المدينة النص» أو العكس، وهو نوع من الكتابة التي تفتقد نوعيتها، وفي ذات الوقت تفتقد لظاهرة «المدينية»، من مثل نيويورك، ولندن وباريس، وهي الظواهر التي يعتبرها الكاتب، من أهم سمات المدن المتحضرة، لكنّ مدينة «مراكش» تختزن سمات يندر العثور عليها اليوم، لذا كان الإقبال على قراءة مثل هذا الكتاب في باريس جاء فاترا، ولم تعجب الفرنسيين تلك المشاهد التي أعجبت في المقابل الجاليات الأجنبية. أمّا فيما يتعلّق بمضمون المجلّدين المخصّصين من طرف الروائي، لترجمة أحواله الذاتية والإبداعية، فإنّه يعتبرها بمثابة «الخانة»، التي توجّب عليه فتح قوسين في حياته الفنية، من أجل تداركها، وكان من الضروري أنْ يفتحهما للكشف عن سجلّ حياته، وللتحدث بصوت واضح وهادئ، عن الدوافع والأسباب التي جعلت منه كاتبا له عالمه الخاص، كما حتمت عليه أن يجيب عن ذاك السؤال الحرج، المتعلق بالاستفسار عن السرّ من وراء الجدوى من الكتابة؟ ولماذا؟... ثمّ كيف تتمّ عنده عملية استجماع قواه الشعورية والتعبيرية لمواجهة فعل الكتابة؟ وكيف يتمّ معالجة الموضوعات المختارة؟ وكذلك إلى مدى يتواصل الشحن الإبداعي المتنامي في لحظة الخلق؟ وبعد إجابته على كافة هذه الأسئلة بإسهاب كعادته، يقرُّ الكاتب بأنّ الأمر بات عنده يتعلّق بنوع من التأليف الجديد للتّاريخ، وأنّ السير الذاتية المُستحضرة ليس بالضرورة أن تراعي الزمن الخطي الكرونولوجي، لأنّ تداخل أشكال المحطات والتقاطعات، هو إحدى هذه العلامات لاستحضار الوقت الضائع. كما يعترف بأنّ هذا النوع من الكتابة، هو فريد من نوعه في الأدب الإسباني، حيث لم يؤلف مثله، وإن كان قد عرف في الآداب الأوروبية الأخرى، منذ قرابة قرن ونصف من الزمن، ثمّ يؤكد الكاتب قائلا: لو كان مثل هذه النوع موجودا في الأدب الإسباني لَمَا أقدمتُ على تكراره، لأنّه ببساطة يمقت الاجترار. ففي رواية «مملكة الطوائف»، نجده وكأنّي به، ينتهي من حيث تبدأ رحلة جديدة، ستعرف تطلعات مغايرة، في تضاريس روايته المُوالية «مطالب الدوند دون يوليان»، لذا كانت الصفحات الأخيرة من رواية «ممالك الطوائف»، بمثابة المُنبّه، أو المؤشر، الذي يُبشّر بميلاد مرحلة جديدة في مسار مغامرته الإبداعية؛ لأنّ الرواية على حدّ تقويم مؤلفها، تحتوي على بداية لِمَا سيعرفه المسار الأنضج والأشمل، الذي ستعرفه مغامرته الخلاّقة الجديدة، والتي ستكون كاستجابة مُلحّة لدواعي أواخر القرن العشرين. إنّها الموضوعات التي ستغطيها أعماله الرواية الموالية، التي تمثلها روايات «كمطالب الكونت دون يوليان»، ورواية «خوان بلا أرض»، ورواية «المقبرة»، ورواية «مشاهد ما بعد الحرب»، وأخيرا روايته الحديثة «فضائل الطّائر المتوحّد» (Las virtudes del pàjaro solitario). إنّها التّطلّعات، والفضاءات الأخيرة التي تشكّلها نقاط التقاطع الحضاري، الكبرى والحاسمة، والتي تمثّلها الحضارة الأوروبية والحضارة العربية الإسلامية، وخاصة بالرصيد الهائل لهذه الأخيرة، والذي يمثله الأندلس بزخمه الجمالي والمعرفي. الحلقة الرابعة