أمّا الدافع الثاني، فيكمن في البنية الهيكلية للرواية، لأنّه قبل أن يستقرّ رأي الكاتب على تسميتها بالمقبرة، كان قد عنونها بقراءة في كتاب «الحب الجميل» (Libro del buen amor)، وهذا العنوان يعيد إلى الأذهان اسم مؤلفه المستعرب (El Mozarabe) الأرثبريست دي هيتا (El Arcepreste de Hita)؛ أو راهب هيتا، وهو كتاب فريد من نوعه، في مسار الحب الإباحي، والذي لم يُقدم أحد على تأليف ما يشبهه في كامل أوروبا العصور الوسطى، وبذلك تفرّد بهذا الإنجاز النّادر صاحب كتاب «الحب الجميل»؛ لأنّ مؤلفه كان من المستعربين النصارى الذين يعيشون في قرطبة بفضل التسامح الإسلامي الذي كان يشمل جميع ساكنة جزيرة إيبيريا آنذاك، ويكفي أنّ النقد المعاصر قد توصل لإيجاد الرابط بين هذا المنحى من الأحاسيس اللّطيفة، وبين طوق الحمامة للأندلسي ابن حزم القرطبي، من هناك تأكدت مرّة أخرى، نقطة التلاقي أو التماس، بين الحضارتين، وهو المسعى الذي دأب الكاتب خوان على إحيائه باستمرار في أعماله الإبداعية. أمّا الدافع الثالث فيكمن في مخاض النص الروائي، الذي يزخر بكلّ ما هو عربي أصيل، وقابل للتواصل والتجاور، حيث كان فيه لدور الإسقاطات التّاريخية معناها العميق والدّلالي، مثل ظاهرة الهجرة، أو النزوح نحو الشمال، وكذلك ظاهرة الانسلاخ والتفريط في الجوهر، فمثل هذه الدوافع هي التي جشمتني المخاطرة بقراءة هذه الرواية التي تعود بتوهجها إلى زمن التعايش الذي عرفته أندلس الأعماق، فهذه الرواية، لولا كتابتها باللغة الإسبانية ما كان في وِسع القارئ لها من التأكد من كونها قد كتبت من طرف كاتب إسباني، وذلك لغرابة الموضوع المطروح، وغرابة أسلوبها وبنيتها الهيكلية. لقد سلك الروائي في كتابة روايته مسلكا يعود إلى العصور الغابرة، بعيدا كلّ البعد عن المتعارف عليه في بنية الرواية المعاصرة، ونقول رواية من قبيل التجاوز فحسب، بحيث يمكن للدارس أن يدرجها ضمن المرويات الشفوية العتيقة، التي يضطلع بها عامّة النّاس في مُسامراتهم أو حكاياتهم أو حين تدفعهم الرّغبة إلى تسجيل مآثرهم، لأنّ رواية المقبرة غلب على أسلوبها السردي روح القصّ أو الحكي الشفوي والشاعري، وهي سمة من سمات العصور الوسطى أين تتجلى في روايات ذاك الزمن البعيد. إنّ ما يلفت الأنظار الأكثر في رواية المقبرة، هو وهج السرد المحكي، الذي عادة ما تضطلع به المؤلفات العربية ذات النكهة التاريخية أو الرحلية حيث تتداخل في حيّز فضاءاتها الأحداث والشخوص، وتنفتح في جوهرها الروافد ويصبح لدور الرّاوي أو القاص ما يشبه دور المحقق في مرسم القضاء وذلك لمحاكمة الواقع، حيث لا بدّ أن تعتمد في إدانتها للواقع على عناصر طريفة وموغلة في رصد التفاصيل، لذا نجد الروائي خوان غُوَيْتي صولو يلجأ إلى تطعيم أسلوبه بما يعيد إلى اذهاننا ما كان يدور في عصر التعايش الذي عرفته أرض الأندلس الإسلامية، تعايش خلّدته طائفة المُستعربين من النصارى والمولدين من المسلمين. إنّ رواية المقبرة جاءت بمثابة نصّ مُجزّأ، حيث هناك رواية، أو ما يمكن اعتباره بطلا توكل إليه مهمة الحكي القصصي للأحداث، لكنّه ليس بمثابة الراوية الذي نعرفه في الأعمال الروائية، حيث يساهم هذا الأخير في بناء الهيكل المعماري للرواية المعاصرة، بل هو بمثابة « القوّال « أو «الحاكي» أو «الجوقلار» (Juglar)، أو الرواية الذي يأتي في الدرجة الثانية بعد شخصية الشاعر التروبادور في الآداب الأوروبية. إنّه أكثر شعبية من الشاعر، أو قل هو بمنزلة «الزجّال» في تراثنا العربي، والأندلسي على وجه الخصوص، لأنّ هذا البطل، إن جاز لنا نعته بالبطل في رواية المقبرة، نجد الكاتب قد أوكل له مهمة التحدّث باسم الطبقات المسحوقة، الطبقات الأكثر التصاقا بالأرض، لأنّنا نجد هذا البطل يعيش أحداث القصّة ومتقمّصا لروح شخوصها، ويساهم كمرافق أو دليل ليأخذ بيد السامع أو القارئ إلى جوّ تفاعل الأحداث، وهنا تكمن إحدى المفارقات الجوهرية بين أسلوب الرواية المعاصرة، وأسلوب رواية خوان غُوَيْتي صولو الذي نجده يسعى للتعبير بالتراث، أو بما كان سببا مباشرا في إلهام الذين أبدعوا مثل هذا التراكم التاريخي، لأنّه كما ذكر خوان في إهدائه، قد لا يسعف الحظ أولئك من الاطلاع على سجلّ من أفعالهم عبر توارد الأحداث وتداخلها. وممّا يلاحظ كذلك، أنّ رواية المقبرة تسير في خطين متوازيين، ويتولى دور البطولة في كلّ مسار منهما ممثل، وإن صحّ التعبير، مرافق يتولى الأخذ بيدنا ليوقفنا على مبعث الحدث أو جوهر المفارقة؛ فالبطلان «آنخل» و»مورو» هما شخصان يعانيان من شذوذ جنسي مقيت، لكن الملفت للانتباه أنّه من الممكن أن لا نعثر على هذين البطلين في مسار أحداث الرواية المتداخلة البناء، وذلك نظرا لتداخل الأدوار إلى درجة التناسخ الكلّي، أو التماثل أو الاضمحلال المفرط، وإن شئت التلاشي أو التفسخ في أعراض شخصيات أخرى ممقوتة وغير متوقعة، وهو الأمر الذي يمكن أن نردّه إلى إرادة الكاتب. فالرواية تتمحور في خمسة عشر فصلا، متسامقة من حيث الحجم والبوْح، أمّا عناوين الفصول فهي تثير الدهشة والريبة، فهي لم يكتف فيه الروائي باستعراض العديد من اللغات، كالإنجليزية والفرنسية، واللاّتينية والعربية، كما هو في دور الدبّاغ مثلا وجامع الفناء، بل نجده يعمد إلى ما هو أبعد من هذا كله، وذلك كإقدامه المقصود على تحوير بعض عناوين الكتب المعروفة والمشهورة... إنّها مقبرة بالمعنى المجازي للكلمة،، وإن شئت بالمعنى الحقيقي، لأنّها لم تكتف بما سجّلته للأموات، بل ضمت في أرجائها طائفة من الأحياء، يجمعون بين طرفي عالمين. إنّ رواية المقبرة، من خلال هذا الاستفتاء الأولي، نجدها تتجلّى كقصّة حب، وفي الوقت ذاته إدانة له، بل تعريض فاضح به، ونقد جارح للمجتمع الغربي المقبل حسب رأي الكاتب على الإفلاس من حيث الجانب الانساني؛ ففي الفصل الأول المعنون باسم البطل «آنخل» مثلا، نكتشف أنّ أحد الأبطال غير سويّ، فيشدّنا للوهلة الأولى ببصمة القصّ، ليسرد علينا حكايته الغريبة؛ فيبدأ بكيفية الرّغبة التي دفعت به إلى محاولة التفسُّخ رغبة منه للولوج إلى دائرة مُغايرة؛ فيعمد إلى تناول الحبوب، لكنّه في آخر الانتظار لا يحصل على تحقيق هاجسه، وهو ما يدفع به إلى ركوب الهجرة بحثا عن المزيد من الكشوفات والاختراعات، وأخيرا يستقر به المطاف في مدينة نيويوركالأمريكية. لكنّ هذه المدينة الصاخبة بكلّ ما تزخر به من رُكام حضاري وتكنلوجي، نجدها لا تسعفه على حلّ مشكلته، وتعجز هي الأخرى على تحقيق أبسط رغبات هذا المُغامر الذي هو البحث عن التفسخ، لكنّه في النهاية يلجأ، تحت إصرار رغبته الجامحة، إلى إخضاع جسده إلى عملية جراحية حتّى يحقق رغبته، لكن هذه المرّة يجد نفسه في إحدى مستشفيات شمال إفريقيا، والأقرب إلى الصواب في المغرب الأقصى بالتحديد. أمّا البطل الثاني مُورو، الذي يشكل الثنائي النقيض مع آنخل، فقد عانى من طفولة تعيسة، وجاء إلى الحياة في أبشع صورة، وفوق هذا بلا أُذُن، ويعاني من العقم الجنسي الذي يحرمه من الذرية، ويحترف الجندية فيما يُعرف باللّفيف الأجنبي، بإحدى الثكنات المعزولة في عمق الصحراء، والمحرومة من بريق الحياة، يعاني هذا البشع من الحكم عليه بالأشغال الشاقة في إحدى الزنزانات، وذلك كعقاب دائم له نتيجة مواقفه المُريبة من المجتمع والسياسة. بعد هذا المشهد تتوطد بين البطلين علاقة عنيفة بواسطة إحدى وكالات الزواج، وتتمّ بينهما العديد من اللّقاءات، أوّلها تجري أطواره في إحدى المعسكرات لحامية للجيش المغربي، أمّا اللّقاءات الأخرى فكان أغلبها يتمّ في مقبرة بسيدي بلعباس بأرض الجزائر، واللقاءات الأخرى نجد مُجرياتها إمّا بالسينما أو بمدينة وجدة بالمغرب أو بوهران بالجزائر... إنّه البحث المستمرّ عن اللّقاء المستحيل بين الشرق والغرب في أتعس تجلياته، لأنّ البطل آنخل لا ينفك يُديم البحث عن المغربي التعيس، والمعروف باسم «مورو»، هذه الكنية التي تلاحق العربي المهزوم منذ الزمن الأندلسي إلى يومنا هذا، فآنْخل يظل باحثا في قاعات السينما وفي الإعلانات المعلقة، وتارة يدفعه الفضول، وبريق الأمل، فيندفع في قاعات حفلات الزفاف، لكنّه في الأخير يقرّر الذهاب لزيارة الجندي «عزيزي محمد» في معسكر للجيش بمنطقة التوارق، وهناك يصادف امرأة تعرف مورو... وبما أنّ الرواية لا تلتزم بأيّ خط نمطي لعالم السرد، فإنّنا نعثر على مورو يعيش في إحدى البالوعات القذرة رفقة الجرذان، وهو يتمتّع بلذّة العيش، ومن ذاك المنبر يعمد الروائي إلى تقديمه في استجواب صحفي، مع أحد المراسلين، فيهمُّ بابتلاع المكرو، وبعدها يقرّر آنخل، كآخر اختيار له، العيش رفقة صديقه في البالوعة، وعلى إثر خروج آنخل من البالوعة يشعر بأنّه قد اعتلى إلى العالم الآخر، ويفاجأ بالرفض والطرد نتيجة تصرفاته الدنوية الدنيئة، وبهذه النهاية المأساوية يتمّ رفضه من الأرض والسماء، فيعقد ندوة صحفية يحاول من خلالها شرح وضع الكائن البشري علميا وكيف تتمّ مجريات حياته داخل البالوعات القذرة. عمق الرؤية في رواية المقبرة: إنّ رواية المقبرة تحاول أن تعمّق الرؤية تجاه موضوعين أساسيين، ظلّ الروائي خوان مسكونا بهما، منذ بديات محاولاته القصصية، وأولى هذه الانشغالات هي رؤيته المتميّزة للحب، كظاهرة وممارسة، وكذلك رؤيته إلى أتون الحضارة الغربية، بكلّ تناقضاتها، وإرهاصاتها ومكاسبها، فمثل هذه الثنائية الجدلية، نجد التعبير عن أبعادها مُجسّدا في تلك العلاقة التي أجهد البطل آنخل نفسه كي يكسب رهانها، ويربط بين طرفي معادلتهما الصعبة، إن لم نقل المستحيلة، كلّ ذلك من أجل أن ينعم هو ومورو، البطل النقيض بفرضية السعادة المتبادلة التكافؤ. إنّهما شخصيتان على درجة عالية من إدراك للواقع، لذا فهما يتمتعان بكامل قواهما العقلية والحسية، إلاّ أنّهما يسعيان حثيثا لتجاوز حدود المكان والزمان. أما ثاني اهتمامات الروائي خوان في روايته المقبرة، فهو ما يسمى بلغة العصر المتطور، بظاهرة النمو الاقتصادي، والذي ما هو إلاّ محاولة مغرضة لإحلال التفسّخ للمشاعر الانسانية محلّ الرّغبة في التعايش المتبادل؛ إنّه إدانة من قبل الكاتب لكلّ معطيات أو فرضيات أو قيم، بين قوسين، لكلّ ما يسمّى اليوم بالعالم المتحضّر، وبكلّ ما يزخر به من استهلاك، وبدائل في عُرف النموّ تحلّ محلّ مشاعر الانسان الخيّرة. تعرض رواية المقبرة أمامنا شريط آمال رجل القرن العشرين، وقد كيّفته وسائل الحضارة المادية، ليجسد نفوذ معطيات النفوذ الاقتصادي الذي يفرض على البشرية صيغا جديدة، حتّى يكون في انسجام مع الاختيارات الجديدة، التي أساسها المصلحة الفردية، ولا غير، أو بتعبير آخر، محاولة إقرار التوازن بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي. لأنّ المجتمع الاستهلاكي المتحضر، يتطلب وجود الانسان الديناميكي، أو حتّى الآلي، الذي يُنتج، ثمّ يستهلك، ثمّ يستثمر، وأخيرا يهيمن ويتحكم، وما دام يعمل في هذا المسار فإنّه يبرّر وجوده، أمّا إذا تظاهر بالعجز فإنّ الكاتب يُسارع إلى تصوير الكيفية للتخلّص منه، بأيّة وسيلة كانت، وإذا صادف وأن حاول هذا الفرد مقاومة الإبادة والإلغاء، فإنّ الكاتب يستعرض أمامه آلة جهنمية مُدمّرة تلقنه طواعية وغصبا كيفية الخلاص من ذاتيته، كالاغتيال الانتحاري، أو التخدير أو بشتى الوسائل المُيسّرة للانتقال الفوري إلى العالم الآخر، عالم التلاشي والهباء. ونجد كذلك في ثنايا رواية المقبرة، التفاتة حادّة من طرف الكاتب إلى مشكلة الدّين، وإن كانت غالبا ما تأتي ملفوفة بمجاز الابهام، حيث يشير إلى أولئك الذين يعِدون النّاس بعالم سماوي طوبوي ينتظرهم، فشأنهم في هذا المنحى شأن أولئك الذين يبشرون فقراء العالم برفاهية الفراديس الدنيوية، والتي تقول بثبوت صحتها كلّ الزعامات اليسارية، كما لا ينسى الكاتب في روايته المثقفين، وكيف لا وهو واحد منهم؟ فنجده يصرّح في وجه أولئك الذين يستعرضون عضلاتهم الفكرية في أوقات الدّعة والرخاء، لكنهم يخفونها في أوان الشدّة، كما نجده لا يكتم مقته لمساجلاتهم الجوفاء والعقيمة من أجل أتفه المواقف والموضوعات. أمّا في مقابل كلّ ما تمّ عرضه، فإنّنا ندرك من ضمن زخم هذه الافرازات، التي يتقيّاها العالم المتحضر، نجد عالم المحسوبية، كما نجد هناك تحركا واضحا وصريحا، يمكن أن يغطي ثلاثة محاور، متباينة ومتكاملة: - المحور الأول: يمثله هروب الكاتب من العالم الغربي المتحضر، ويؤدي به هذا الرفض للبحث عن عالم طوبويّ، تجسّد في حياة البداوة والسذاجة، والذي تتحرك فيه الأشياء ضمن منظور كونيّ، لا يخضع لأيّ سيطرة، ولا يأبه بالحدود ولا القيود. - والمحور الثاني: تجسده مشاهد البالوعات للصرف الصحي، رمز العفونة والنجاسة، وهي تمثل الوجه السلبي للمدينة المتحضرة؛ فالإنسان الذي يدرك عن وعي وضعه الهامشي، في مثل هذا الوسط، نجده يفضّل العزلة، والحياة البعيدة عن الأضواء، ويذهب به المدى إلى حدّ التفكير في نسخ خيوط لسعادة وهمية حتّى ولو كانت وسط البالوعات والأقذار؛ إنّه الوجه القاتم للمدن التي لا ترحم، والتي تصرّ على الزحف والتهام الجميع من دون أيّ شفقة تُذكر. لكن المحور الثالث نجده يأتي كمُحصّلة لمقدّمتين كان إفرازهما التهليل لحلول بدائل مرغوبة مثل الحرية السياسية والاجتماعية والتي نجدها لدى الكاتب مُبطنة بحسّ مُرهف، بل قل بحس صوفيّ ناتج عن تعلّق مُبهر بحياة البداوة، والتي هي ليست البدائية، إنّها البداوة التي لا يزال ينعم بها بعض الأعراب والقبائل المتوحشة، الذين ينامون ويستيقظون على نبضات الكون الصافية، والمأهولة بالمحبّة والجمال، والعدالة والتراحم. الحلقة الثالثة