هل يمكننا القول إن نص الحمار الذهبي من خلال النِّسبة التي عَلقها به المترجم أبو العيد دودو "أول رواية في تاريخ الإنسانية"، أن نعتبره نصا جزائريا من جهة "النِّسبة" أم أنه ينفتح على فضاء أكبر من الدلالة الجغرافية الراهنة إلى الكونية، هاهنا سنُحدِّدُ المنطوق من موسوم الأدب الوطني الذي لم يستقر إلا بعد مرحلة التحرير الجغرافي، أي هل يمكننا اعتبار نص الحمار الذهبي نَصًّا جزائريا؟ لا يمكن أن ننطلق في تحرير هذه التصفية خارج تجفيف منابع الاستعمار ذاته، الذي يتكوّن في أشكال مختلفة، وهذا يتطلب من فعل الكتابة أن يصبح فعلا ذاتيا، ملكا خاصا بنا لنتحرّر من إعادة إنتاج الماضي / الحدث الكولونيالي إلى إنتاج الرَّاهن من خلال تجفيف إشكالياته التي تمتد فينا. بناء متخيل جديد يغرق في مشاكلنا الهووية المعاصرة ولعلّ هذه القراءة تعتمد بداية تحرير النصوص الخاصة بنا من تاريخايتها الخاصة، لنجعلها تغرق في شكل ما في بناء حدث خاص هنا بمعنى أن يتم تحويل في العلاقة المرجعية: مستعمر انديجان أنديجان انديجان بمعنى أن نتحرّر من خطاب العبودية بلغة نيتشة، ونؤسس لنوع من كتابة الاقتدار لتاريخنا الأدبي، الذي يتنازل عن كل المُصوِّغات التي جعلتنا شكلا واحدا في التاريخ بإعادة قراءة أشكالنا الصامتة التي لم تتكلم بعد، أي أن نتحرّر من العقد التي تمنعنا من كتابة تاريخنا الوطني بحجة تنطلق من توجّه أحادي لمفهوم الثقافة الوطنية. أي نتخلص من فعل كوننا طبقة ثانية في تاريخ غيرنا، صفة الأهالي أو الأنديجان إلى كوننا طبقة في تاريخنا، لأن التاريخ الأدبي الذي نطمح إلى إعادة كتابته، هو؛ تاريخا "نحن" إنه حيازة خاصة بنا، نستطيع أن نضعه مع غيره من التاريخيات، لكن أن يكون هو منطلق الكتابة؛ يكون هو المتن ولا يكون هامشا أو ذيلا أو حاشية من الكتابة التاريخية. يعني أن نتحدث عن فعل الملكية المطلقة للكتابة أن نتحرّر من الأصوات المختلفة التي تُملي علينا تاريخا مؤسساتيا تحت الطلب تاريخا مُعلَّبًا إما في صيغة المرتبة التوحيدية أو في صيغة اليسارية أو في صيغة الليبرالية أن نمارس لعبا رومنسيا في بناء متخيل أصيل يرتبط بالأرض والثقافة؟ وفعل الملكية يُحرِّكُ فينا تجميع الوثائق الكافية التي تُؤصِّل الملكية التاريخية معنى ذلك أن مرجعية النصوص هي التي يمكنها إضفاء تلك الشرعية على التاريخ، حيث النص كمادة معطاة ومصونة للجغرافيا والثقافة بعيدا عن اللسان أو الآلة. فالعمل هنا يبحث في تجميع عناصر الملكية أو الحيازة التاريخية لشرعية الأدب على الإقليم، فما نملكه الآن هو الاقليم/الجغرافيا، ونملك الأسس كذلك؛ هذه النصوص الشفوية والمكتوبة بأكثر من لسان والنص في أكثر معانيه يحمل دلالتين: الإخفاء أو الإضمار وهو ما نسميه روح النص /النص في حالة المصدر - البروز والظهور: النص كمادة أو هيولة معناه أن نبحث في التجانس بين الوحي التاريخي ومادة الوحي. الأول نص ثابت والثاني متحرك على أكثر من لسان، بطبيعة ما تعاقب على هذه الجغرافيا من نصية، وهنا نكون بلغة إدوارد سعيد قد انتقلنا من النص إلى النصية، أي انتقلنا من الملية (لماذا) إلى الشرعية (من) وهذا ما يجعلنا نقف على أرض مفعمة بالتأصيل الجذري الذي تتصالح على جدالته كل النصوص الذي نسميها جزائرية إلحاقا ونسبة وفعلا: - نص الإلحاق: هو ما كان تابعا للامبراطورية. - نص النسبة: هو ما يجعلنا نتحرك داخل امبراطوريتنا. - نص الفعل: هو ما أمكننا به أن نبني مجازا فعلا امبراطوريا من خلال الكتابة. وهي أشكال نصية نتجت فيما بعد خيوط الأدب الجزائري، هذا النوع من إعادة التأريخ يتجاوز النسق الخطي للتاريخي. وهذا لا يعني الاستعانة بالنسق الخطي، وإنما الاعتبار الأول لفهم الظاهرة النصية في التاريخ وايجاد وضعا تأويليا خاصا لهذا الأمر، معنى أن نُفرِّق الواقع في النصوص التي كتبت على أرضها لإيجاد مصوغ أمثل لرؤية أكثر شمولية لما نسميه "أدبا جزائريا"، هذا الفهم التأويلي للتاريخ يجعلنا نطرح إشكالية تحقيب الأدب الجزائري انطلاقا من نصية الإخفاء التي أبانت على نفسها أنها تتساوق مع طموحات الساكنة الأهالي، أو تُعبِّر عن طموح الأهالي في الخروج من نسق التبعية بمعنى أن نسق التحقيب بقدر ما يهدف إلى تشييد المسألة النصية بإعادة إلحاق كل النصوص المغيبة، أو المخفية، أو المنسية، ووضعها على خط التاريخ. ما يعني ترميم الواجهة الثقافية للتاريخ النصي الذي نسميه (الرواية الجزائرية) الذي لا يمكن فهمه إلا في إطار هذه النصوص. هذا الهَمُّ يجعلنا نتجاوز التأريخ السلطوي، أو المؤسسي لينبني عن تأريخ ثقافي. هذا التاريخ يتحدّد وفق جملة من الأنساق الكلية والجزئية، والتي نظرت لها جملة من النظريات المهمة. ولقد اضطرتنا المساءلة الجذرية للرواية الجزائرية، وإعادة تمثلها إلى النظر في جملة من المفاهيم التي قال عنها كليمان موازان أنها مفاهيم إشكالية من جملتها: "التحقيب والتقطيع الزمني والمنتخبات والتطوّر الأدبي.. ألخ، مما دفع ايفا كوشنير الباحثة المتخصّصة في نقل التاريخ الادبي إلى القول إن حقل الدراسات الأدبية يمر برمته عبر سؤال التاريخ الأدبي". هذا النوع من الكتابة سيجعلنا نتجاوز فخاخ الحماسة في البحث عن النُّصوص لنقع في تبعية عميقة، أي أنه في عملنا أو بحثنا عن النَّصية نقع في التبعية لغيرنا مع أننا نبقى نعيش مضمون الاخفاء في نصية غيرنا، مثلا في بحثنا عن مرجعية نص "الحمار الذهبي"، وهو حق نص ثقافي وجغرافي، نكون قد وقعنا في إثبات النِّسبة إلى الجزائر، أي أننا وقعنا في" رومنة الأدب الجزائري"، وهذا وقوع في شبح التبعية كذلك، وهذا أمر مخيف أو مريب ومربك للهوية الوطنية، لذلك علينا أن نحذّر من دعوى التعصب لنسق التحقيب بالمفهوم الجغرافي /الإقليمي فقد يحمل داخله تَغوُّلاً رهيبا لشكل ما من أشكال رومنة الأدب الجزائري، لذلك علينا أن نبحث في عمق هذا النسق التاريخي عندما تفجر الرومنة لصالح المقاومة الداخلية. ولعلّ النقاش الذي يفتحه نص "الحمار الذهبي" سوف يجعلنا نؤول النص مع ما يتناسب والمآل الثقافي للجزأرة التي ترتسم داخل النص، الجزأرة باعتبارها فعلا محليا يحيل إلى السكان الأصليين أو الاهالي. وبالتالي في مقابل سردية الرومنة التي تبناها القديس أوغسطين نجد نسقا مغايرا لها ضمن ايديولوجيا التحرير التي تتبناها الأب"دوناتوس" مع أن نص "الحمار الذهبي" سابق على الحركة الدوناتية، ولكن هذه الأخيرة هي نتاج صراع طويل ضد الاحتلال الروماني أي أن التراكم العميق لمحاربة الرومنة في شمال افريقيا هو الذي جعل كرة الثلج تتضخم لدرجة أن تجسّدت في حركة الدوناتية التي كان لها مبدؤها الشهير "إفريقيا للإفريقيين"، بمعنى أن إعادة تأمل نص "الحمار الذهبي "مع كل ما يحمله من علامات مقاومة ضد الرومنة التي أصبحت مفهوما امبروطوريا جمع إليه السياسة والدين، أي أن الحضور الروماني في شمال افريقيا لم يكن استعمار بسيطا، وإنما قام بتصدير جميع تمثيلاته الثقافية والدينية، الرومنة والمسيحية حتى أصبحت الكثلثة سمة غالبة على الرومنة، وهذا ما يسمي عرف على ذلك الوقت الكنيسة الجامعة، هذه النظرة اللاهوتية هي التي بنت الرؤية الامبراطورية. أو لنقل العكس، طموح الامبراطور في توحيد العالم المسيحي، وجعل جميع من في الامبراطورية يؤمنون بإله واحد تحت لواء الكاثوليكية التي تعني "جامعة أي كونية". وهنا يحلل "ايف برولي" معنى الكاثوليكية الذي يرى أنها تشير" أولا، إلى محتوى العقيدة التي تعلمنا ما نطلق عليه بشكل شائع اسم الكنيسة الكاثوليكية. ثانيا، لأنها تعرف نفسها بأنها الاستمرارية الصحيحة الحقة لتراث الرسول الذي تضمنته كنيسة روما، ورئيسها البابا. انطلاقا من هذا المنطق فإن كلمتي "كاثوليكي" و«روما" لا يمكن الفصل بينهما، ولا يعود من الممكن فهم الكثلثة من دون وحدة ايمان تحفظها مؤسسة مركزية في ظل سيادة الامبراطورية الرومانية بقناعتها اللاهوتية وفي حكم "الامبراطور ادريان" تمّت ولادة الأديب البلاغي والمحامي الشهير أبوليوس حوالي 125م وفيها نشأ وتربي وقام برحلات شهيرة أثرت تجربته الأدبية والفلسفية في ظل هذه السيادة المسيحية والسياسة كتب أبوليوس نصه "الحمار الذهبي" الذي يعني أشد الاهتمام بالسحر ومظاهر الوثنية. السؤال الذي ينبغي طرحه: ما هي دوافع كتابة هذا النص؟ كيف تلقى المجتمع في تلك القوة هذا النص في سيادة التعاليم المسحية التي ترفض السحر وألاعيبه؟ يطرح هذا النص كثيرا من الأسئلة التي تحتاج إلى تحليل ونقاش عميق، هذا النص الإشكالي يشتغل بشكل قوي ضد جميع أشكال الرومنة، إنه افريقي بامتياز، ولعلّ هذا ما جعل أبو العيد دودو يقول عنه: "ومن ثم اعتبر أبوليوس بحق ممثل اللاتينية الافريقية ووصف بأمير خطباء افريقيا وأكثرهم نفوذا وشهرة في عصره" وهو ما جعل حفناوي بعلي يقول عنه في كتابه طبقات الأدب النوميدي الافريقي: "والأدب الافريقي اللاتيني يبدأ مع عصر السلام الروماني فمع القرن الأول ظهر بإفريقيا الأدب اللاتيني الافريقي، وأخذ ينمو ويمتد ويسمو بفضل أعلام رفعوا هامته من أمثال أبوليوس المادوري، "أي أن الأديب أبوليوس كتب نصه وهو مشبع بالروح الاقليمية أو بالروح الإفريقية التي تختلف بشكل عميق عن الأصول الرومانية لذلك اختار بذكاء شديد أن يكتب هذا النص "الحمار الذهبي" في شكل مرافعة على أساليب الأفارقة في الحياة، هؤلاء الأفارقة الذين تم مسخهم وغزوهم وطمسهم من طرف الرومان. وبالتالي هناك وعي عميق من طرف الأديب المادوري الافريقي بقضايا الاحتلال في عدد من القضايا سنحاول تعميق البحث فيها لا من جهة أبوليوس الذي كان يرى في مداوروش مدينة الروح، وإنما المسائل التي عالجها أبوليوس على مستوى نصه "الحمار الذهبي " هذا النص المصدر الذي يحتوي على مجموعة من القضايا والمسائل التي يدافع فيها عن خصوصيته الأدبية والإفريقية، هذا النص الذي ينتمى بشكل ما إلى أدب المرافعات Apologie كما ذكر أبو العيد دودو، ولقد كتبها الأديب عن نفسه بعض التهم الذي لحقت به. وهي تهم رومانية في الأساس. الحلقة الثانية