أصبحت المسائل العالميّة المُتعلقّة بالبيئة والموارد الطّبيعيّة بالغة الأهميّة، فلم يعد من المعقول أن تنعقد القمم الأمميّة، وعلى أعلى مستوى، تُناقش كبرى القضايا التّي تمسّ الأمم ومستقبلهم، دون أن يكون لمسائل البيئة مكان في الصّدارة، فأصبحت التّحديات البيئيّة من العوامل المحدّدة لكيفيّة تطوّر مختلف القضايا المحلّية والدّولية، فقد ينجم عن التّحولات الماديّة النّاشئة عن التّغيّرات في البيئة العالميّة آثار إضافيّة، تمتدّ إلى العالم الاجتماعي والاقتصادي وهذا الارتباط يلزم دول العالم، باستكمال فهمها للأمن البيئي والأمن الغذائي والتّغذوي، ويزيد رصدها، كذلك، للفقر من أجل القضاء عليه واستئصال مظاهره؛ فمن الضّروري الالتزام بالجديّة والوعي لضمان الاستدامة البيئيّة من أجل ضمان الاستدامة الاقتصادية والاجتماعيّة، وتدهور الأمن البيئي هو تدهورٌ وتهديدٌ لأمن البشريّة؛ فهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، وبالتّالي، من الحِكمة تفادي نقطة التّدهور وإفلات التّحكم بالوضع؛ أي «تفادي وتجنّب نقطة اللاّعودة». مع تزايد المشاكل البيئية، سُمح للبيئة بالظهور كمسألة إعلامية ودبلوماسية رئيسية، فدائما ما يُشاهد تصعيد كبير للمبادرات الدبلوماسية والمؤتمرات الدولية حول البيئة، بدايةً من أكبر مؤتمر بيئي دولي تمّ تنظيمه على الإطلاق، كقمة الأرض والكون في ريو دي جانيرو 1992، وما تلاها من المؤتمرات وجهود المجتمعات على المستوى الدّولي والمحلّي، وهي نتيجة حتمية؛ نظرًا للمخاطر البيئيّة الرّاهنة التي لابدّ أن تغزو عالم الدّراسات، ولا يجب أن تخلو أيّ إدارة، عموميّة كانت أم خاصّة، أو أي نافذة فكريّة، من رُكنٍ يُعنى بالمواضيع التّي تمسّ البيئة، ولابدّ على كلّ طرف الاجتهاد والمبادرة بالتصورات الجديدة والمقاربات اللاّئقة في السّياق. يُقصد ب«الأمن" الحالة التي يتمّ بها التّحكم في المخاطر والظّروف التي يُمكن أن تسبّب الأذى الجسدي أو النّفسي أو المادّي بطريقة تحافظ على صحّة ورفاهيّة الأفراد والمجتمع، وهو مورد لا غنى عنه في الحياة اليوميّة التي تُمكّن الأفراد والمجتمع من تحقيق تطلّعاتهم. والأمن البيئي هو السّلامة العامة من الأخطار البيئية التي تسببها العمليات الطبيعية أو البشرية بسبب الجهل أو الحوادث أو سوء الإدارة أو التصميم، والتي تنشأ داخل الحدود الوطنية أو خارجها، فقد كان الأمن - في تفسيره التّقليدي - مرادفًا للحالة التي يوفرّها أفراد مكلفون بضمان الحماية والأمان مثلا؛ فالمنطق يملي أن يكون سعي الدّولة إلى الأمن منطويًّا على تكديس القوّة، من أجل مقاومة أيّ هجوم أو ردع أيّ مهاجم محتمل، وعليه أصبحت من التّحديات الحالية أيضاً، ردع وحدّ أيّ تشويه وتخريب يمسّ البيئة الطّبيعيّة. ويُنظر إلى الأمن البيئي كذلك، على أنّه حالة ديناميكية بين البشرية والبيئة، والتي تشمل ترميم النواحي المتضررة من البيئة بسبب الأنشطة البشريّة، كندرة الموارد، التدهور البيئي، والتهديدات البيولوجية التي تمسّ سلامة المجتمع، ويُعرّف أيضًا على أنّه التوفر الحالي والمستقبلي لخدمات وسلع النظام البيئي الداعمة للحياة لاحتياجات البشريّة والعمليات الطبيعية. الأمن البيئي إذن، هو حماية البيئة الطبيعية والمصالح الحيوية للمواطنين والمجتمع والدولة من التأثيرات الداخلية والخارجية والعمليات والاتجاهات السلبية في التنمية التي تهدّد صحة البشريّة والتنوع البيولوجي والأداء المستدام للنظم الإيكولوجية وبقاء الجنس البشري. وهناك ثلاثة عناصر للأمن البيئي وهي: - الاستغلال الأمثل للموارد القابلة للتّجديد وغير المتجدّدة. - حماية عناصر الهواء والماء والتربة، مع الحدّ من تأثير التّلوث على التّجديد الطّبيعي. - كبح مخاطر النّشاط الصّناعي. أي حماية البيئة من جميع أنواع التّخريب، أو مما يُسّمى "الإرهاب البيئي"، أي الاستغلال المفرط وغير المستدام للموارد الطّبيعيّة، وكذلك الحدّ من تأثير البشريّة الدائم في بعض المناطق الحساسة بيئيًا. وتتجلى التّحديات التي يتعرّض لها الأمن البيئي في التّغيّرات العالميّة للبيئة والتي لم يسبق لها مثيل، وتتضّح في الطّابع الكوني للمشكلتين البيئيّتين اللّتين تُسبّبان الآن أكبر قدر من القلق، وهي ازدياد الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض، وهما من العمليّات الطّبيعيّة التي لا يمكن أن ينحصر تأثيرهما في منطقة جغرافيّة واحدة. وممّا يُميّز التّغيرات البيئيّة، أنّها تنبع من مؤثّر عام، وذلك أمر له عواقب لا يستهان بها عند مناقشة موضوع الأمن البيئي، ومن الملاحظ أنّ كلاًّ من جانبيّ العلاقة بين الأمن والتّغيرات البيئيّة، يتصّل بالأعداد الكثيرة من البشر؛ أي أنّ كلّ محاولة لتصحيح الوضع يتوقّف على سلوك جميع الأطراف المعنيّة. بالمقابل، يُحدّد انعدام الأمن البيئي، أنه الحالة التّي يتعرض لها الأمن البيئي للتهديد عندما يشير إلى حدوث تغيير في توريد الخدمات والسلع البيئية أو إمكانية الوصول إليها أو إدارتها، أو يُنظر إليه على أنه يتغير أو يُتوقع أن يتغير بطرق ستؤثر سلبًا على التوافر الحالي والمستقبلي للاحتياجات البشرية والعمليات الطبيعية، وعليه، يعدّ موضوع الأمن البيئي من المواضيع التي تثير قلق واهتمام كلّ البشر على سطح كوكب الأرض، مهما كانت صفتهم، ومهما كانت تخصّصاتهم، فلا وجود لحصانة فرديّة ولا إقليميّة من التحدّيات البيئيّة التي لا حدود لها، وإنّما يوجد تكاتف الجهود ومساعي كلّ الأطراف عبر العالم يدًا بيد. الفقر "تهديدٌ للأمن الاجتماعي" إنّ ظاهرة الفقر متعدّدة الأبعاد، فالمفهوم نفسه يعبّر عن وضع اقتصادي وهو الفقر المادّي، وكما يعبّر عن وضع اجتماعي وهو الاستبعاد والتّهميش، وظلّ يُشكّل مصدر تهديد خطير للأمن الاجتماعي، في المجتمعات الغنيّة والفقيرة على حدّ سواء (سكّان بدون خدمات صحيّة، سكّن بدون مياه شرب، سكّان بدون مرافق الصّرف الصّحي.. وغيره). وعليه، يمثّل الحدّ من الفقر جوهر أهداف البرامج الاقتصادية في معظم الدّول، وفي الوقت الرّاهن، تبرز الاستثمارات الصّديقة للبيئة كاستراتيجية رئيسية للتّخفيف والحدّ من الفقر، أي دمج البيئة في عملية التّنمية الوطنيّة والقطاعيّة، خاصّةً مع زيادة المشاكل البيئيّة وما تفرزه من آثار على الأفراد والمجتمعات. وبما أنّ الفقراء يميلون إلى الاعتماد بشكل أكبر على السّلع والخدمات التي توفرّها البيئة الطّبيعيّة، فهم أقلّ قدرة على مقاومة آثار تدهور البيئة وفقدانها، ومنه الحفاظ على وضع بيئي جيّد ضرورة لتلبية احتياجاتهم الأساسيّة والتّخفيف من حدّة الفقر، والملاحظ أنّ الاستغلال المفرط للموارد الطبيعيّة، يستفيد منه بشكل عام المجموعة الأكثر ثراءً، إذ تنطوي على تكاليف يصعب على الفقراء تحمّلها (على سبيل المثال، تهميشهم وإقصاء الأرض والموارد الإنتاجيّة، وانخفاض إمدادات المياه وتآكل التّربة). ويُعتبر الفقر من نتائج التّلوث، وكذلك هو سبب للتّلوث؛ ذلك لأنّه من الثّابت أنّ هناك علاقة ترابط قويّة بين الفقر وتدهور البيئة، واستنزاف الموارد الطبيعية، في جميع البلدان النّامية حتّى إنه ليطلق عليها مسمّى: "متلازمة الفقر والبيئة". فالفقر هو نتيجة تدنّي الدّخل الوطني في الدّول الفقيرة، يؤدّي إلى عدم قدرة المواطنين على استيفاء احتياجاتهم المعيشيّة كما، يؤدي إلى قصور هذه الدول عن الإيفاء بالاحتياجات العامّة لمواطنيها، من تعليم ورعاية صحيّة وإسكان وتوفير مياه الشرب النّقية، ووسائل الصّرف الصّحي العامّة والمرافق بشكل عام، ومن هنا يلجأ السّكان إلى استنزاف مواردهم الطّبيعية لتوفير دخل إضافي يساعدهم على استيفاء احتياجاتهم المعيشيّة. وقد تلجأ الحكومات إلى تنفيذ مشاريع اقتصادية تُدرّ دخلاً يرفع من مستوى الدّخل الوطني، غير آخذة بالاعتبارات البيئيّة في حسبانها عند تنفيذ هذه الأنشطة التنمويّة، فتتدهور البيئة تدهوراً سريعاً، وهو الأمر الذي يؤدّي إلى زيادة الإضرار بالصّحة العامّة، ويقلّل من إنتاجيّة العمل، وبالتّالي يخفض بدرجة أكبر من مستوى الدّخل الوطني، فيزداد ارتفاع معدّل الفقر، ويزداد الضّغط على البيئة ومواردها، ويزداد ارتفاع التّدهور، وهكذا يسير الفقر مع تلوّث البيئة في حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها، وتزداد الأمور سوءاً بعد سوء. وعمد المجتمع الدّولي إلى إشراك البيئة في عمليّة القضاء على الفقر، وعلى سيبل المثال: مبادرة الفقر والبيئة (P.E.I) لبرنامج الأممالمتحدة للتّنمية (P.N.U.D)؛ وبرنامج الأممالمتحدة للبيئة (P.N.U.E)، وينظر إلى هذه المبادرة على أنها برنامج عالمي يدعم الجهود الدّوليّة لتعميم أهداف الفقر والبيئة، في تخطيط البرامج التنمويّة الوطنيّة والدّولية. ومن خلال الدّعم المالي والتّقني، تساعد مبادرة الفقر والبيئة صنّاع السّياسة الحكوميّة، ومجموعة كبيرة من أصحاب المصلحة الآخرين على إدارة البيئة لتحسين سبل العيش، والحدّ من الفقر وعدم المساواة وتعزيز النّمو، والعمل مع الشّركاء الحكومييّن الرّئيسيين لزيادة الوعي، والتأثير على تطوير السيّاسات وتعزيز تكامل الفقر والبيئة، في عمليّات الميزانيّة والبرامج القطاعيّة والتّخطيط، والهدف الرّئيسي هو تحفيز الجهات الفاعلة الرّئيسية لزيادة الاستثمار في إدارة الموارد الطّبيعية والظروف المُناصرة للفقراء. وعلى هذا الأساس، يجب ضمان أمن بيئي ونموّ اقتصادي لتحسين أوضاع الفقراء، وأن تشارك هذه الفئة الفقيرة في عمليّة النّمو وفي الفوائد التي يحقّقها، كما يلي: - من الضّروري أن يشمل النّمو الفقراء وأن يصل إليهم. - من الضّروري أن يستخدم الفقراء الدّخل الإضافي من أجل تحسين نظامهم الغذائي كمًّا وكيفًا، كما ينبغي استخدامه من أجل تحسين الخدمات الصّحية وخدمات الصّرف الصّحي. - من الضّروري أن تستخدم الحكومات الموارد العامّة الإضافيّة، من أجل توفير المنافع والخدمات للفقراء. - تحسين الوعي الاستهلاكي لدى الفقراء بشأن التّغذية السّليمة، حيث تشكّل التّغذية السّليمة أمرًا أساسيًّا للنموّ الاقتصادي المستدام. ومنه الحفاظ على البيئة يعني كذلك الحفاظ على التّربة الزّراعيّة التي هي جزءٌ منها، والتي بدورها تضمن الغذاء للبشر والكائنات الحيّة الأخرى، فضرورة تأمين الغذاء السّليم من الرّهانات الاقتصاديّة والبيئيّة الحالية، كما سيتمّ التّطرق له في الفقرة المُوالية. الأمن الغذائي والتّغذوي.. وضعٌ كافٍ وآمن ومُغذٍ.. يُعتبر الأمن الغذائي بما هو مسؤوليّة مشتركة بين البيئة والاقتصاد، وبما هو في اهتمامات جميع الجهات الفاعلة، ومن زاوية أخرى وجب اعتبار الأمن الغذائي وحماية البيئة من الأهداف الأساسيّة لجميع القطاعات الاقتصاديّة، من أجل مستقبل اقتصادي يضمن ثقة مستمرّة مع المستهلك. حسب منظّمة الأمم المتّحدة للغذاء والزّراعة(F.A.O) ، تُعرّف الأمن الغذائي أنّها الحالة التي تتوفّر لدى جميع النّاس في جميع الأوقات، وسائل مادّية واجتماعيّة واقتصاديّة للحصول على غذاء كاف وآمن ومُغذٍ، يفي باحتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائيّة التي توفّر لهم الحياة الصّحيّة المفعمة بالحياة. وترتبط عدّة مفاهيم بالغذاء، من باب توفّره كالتّعريف السّابق، من باب مكوّناته، من باب سلامته، أو حتّى من باب عدم توفّره كالآتي: - سوء التّغذية: وهي حالة فسيولوجيّة غير عادية تنجم عن نقص أو الزّيادة أو الاختلال، في الطّاقة الغذائيّة أو البروتين أو المغذّيات الأخرى؛ - الأمن التّغذوي: وهي الحالة التي تنشأ عندما تكون إمكانيّة الحصول الأكيد على غذاء مغذّ على نحو ملائم، موجودة بالاقتران مع بيئة تتسّم بالنّظافة الصّحية وخدمات ورعاية صحيّة وافية، من أجل ضمان أن يعيش جميع الأفراد حياة نظيفة وصحيّة، ويختلف الأمن الغذائي عن التّغذوي من حيث أنّه يضمّ الجوانب المتعلّقة بممارسات الرّعاية الملائمة والنّظافة الصّحية، بالإضافة إلى كفاية التّغذية؛ - انعدام الأمن الغذائي: وهو وضع ينشأ عندما يفتقر النّاس إلى فرص الحصول المضمون، على كمّيات كافية من الأغذية السّليمة والمغذّية اللّازمة للنّمو العادي وممارسة حياة نشيطة وصحيّة، وينشأ عن عدم توافر الأغذية؛ أو عدم كفاية القوّة الشّرائيّة؛ أو عدم توزيع غير متناسب؛ أو عدم كفاية استخدام الأغذية على مستوى الأسرة، وقد يكون انعدام الأمن الغذائي مزمنًا أو موسميًّا أو عابرًا. يتبع للمقال مراجع الحلقة الأولى