الحكاية لغة: تحمل المعنى الحسّي فهي من المحاكاة كقولك حكيت فلانا وحاكيته فعلت مثل فعله، أو قلت مثل قوله سواء أو لم أجاوزه، تقول فلان يحكي الشمس حسنا ويحاكيها بمعنى: فهي محاكاة من الواقع، أو من استرجاعه رغم ابتعادها عن الصدق التاريخي، لكن الرواة يرونها والمستمعين يتقبلونها لأنها تعكس واقعا نفسيا يقتنعون به، وبوجوده ونتيجة تطوّر مفهوم الحكاية فقد تداخلت المحاكاة مع الخبر مهم والسرد والقصص، وانتقل المفهوم من مجرد الإخبار بالواقع إلى الاهتمام بحدث قديم مرت الدهور عليه، والحكاية لا تهتم بالصدق التاريخي بقدر ما تهتم بالتعبير عن آراء الشعب وآماله، وطموحاته إزاء الحوادث وهي وإن كانت بعض مواضيعها مستمدة من الواقع الاجتماعي، ومعالجته فإنها لا تبقى أسيرته. الحكاية الشعبية ينسجها الخيال الشعبي حول حدث. وأن هذه القصة يستمتع الشعب بروايتها، والاستماع إليها إلى درجة أنه يستقبلها جيلا بعد جيل عن طريق الرواية الشفوية وهي فن غايته القيم، مرتكزا على السرد المباشر، المؤدي إلى الإقناع والتأثير في نفوس السامعين يتخذ موضوعا له: الأشياء الخيالية. وقد يعني بالحقيقة التي يعدلّ فيها الراوي ويقحم فيها أمالي حياته ومحصلات مواقفه من الحياة. وعلى هذا تكون الحكاية الشعبية شكلا تعبيريا شعبيا يرويها الراوي، تدور حول حدث مهم في أغلب الأحيان، تعكس موقفا مهما في الحياة، هو موقف الجماعة المردّدة لها، أو التي سبقتها مباشرة في الوجود، وتهدف إلى تحقيق ملاءمة نفسية واجتماعية، توظف لتحقيقها شخوصا غريبة مثل إدخال عناصر، غريبة، أو إدخال عناصر غيبية تظهر وتختفي فجأة بناء على رغبة البطل أو حاجته، فإنها تقدّم تبريرات يستسيغها المستمع إذا ما اتفقت مع عناصر بيئته المختلفة وهذا من خصائص الحكاية نفسها؛ ففيها كل مقومات الأدب الشعبي من العراقة والتطوّر، بالإضافة إلى التعبير عن وجدان الجماعة، أكثر من وجدان الذات فهي عريقة وليست من ابتكار لحظة معينة، تنتقل بحرية بين الناس عن طريق الرواية الشفهية وتتسم بالمرونة. لغير المتمعن أن هذه السمات السابقة تحوي تناقضا جوهريا، فمن جهة نجد العراقة من أهم خصائصها، باعتبار أن الحكاية ليست وليدة لحظة معينة، وفي المقابل نجد خاصة المرونة التي تعني قابلية الحكاية للتغيير والتبديل عن طريق روايتها، وهو ما عبّر عنه التعريف السابق، وهذا هو الذي دفع الباحثين إلى أن يقولوا أنَّ عدد الحكايات في العالم قليلا جدا إذا ما قيس بعدد رواياتها، فقد نجد لحكاية واحدة أكثر من ثلاثة روايات أو قد يشكل الراوي من حكايتين حكاية واحدة لسبب ما. وتكون بذلك للبيئة الدور البارز من حيث أنها مجموعة من التصورات الذهنية المختلفة تطرحها مضامين الحكايات العاكسة لحالة إقرار ناتج عن اتحاد عالمي الذات والموضوع، وانعكاسهما على بعضهما في نظرة واحدة شمولية تتعلق بقضايا اجتماعية وثقافية، معتقدية لها صلة وثيقة بما تزخر به البيئة الاجتماعية كعاكس للممارسات اليومية، في ضوء مجموعة من القيم. دلالة الخيمة.. إنَّ التصورات المختلفة التي تشبّعت بها الحكاية الشعبية هي أصلا تصورات الجماعة المردّدة لها انحدرت إليها عبر حقب وترسب في أعماقها، بحيث لم يعد بإمكانها التنازل عنها أو تركها طواعية لأنها مازالت تؤدي وظائف منها تحقيق الموائمة النفسية والاجتماعية لدى تلك الجماعة في ظروف معينة بدرجات متفاوتة حسب تطوّر المجتمع، ووفق تأثره بعناصر حضارية زاخرة يمكن أن تحل محل الراوي. أما عن الخيمة في الحكاية فهي فضاء واسع وذا أبعاد كثيرة، فيا ترى ما الخيمة وما دلالاتها في الحكاية الشعبية؟ الخيمة علامة دالة على مستوى حضاري مرتبط بطبيعة الحياة في البادية عامة والصحراء خاصة، فللخيمة أهمية كبيرة في حياة البدوي الملائم لإقامته، والرفيق الأساسي لترحاله، فهي مأواه الضروري، فيها يتزوج وينام ويعيش، وينشئ أبناءه، ويستضيف ويُستضاف، كما أنها تحميه من حرارة الشمس صيفا وشدّة البرد شتاء، إضافة إلى سهولة نصبها وتفكيكها وحملها خلال التنقل وراء الماء والكلأ . لعلّ طبيعة الحياة في القبيلة العربية قد وفرت البيئة المناسبة لاجتراح ثقافة مخصوصة، فضلا عن إبداع عدد من الفنون الشعبية الجميلة، إلى جانب ما عرف عنها من أدب فصيح وخاصة الشعر، ففضلا عن كثير من أجناس الأدب الشعبي مثل الشعر والأمثال والسير والأقوال المأثورة والطرائف والنوادر، هناك متون غنية بالقصص الشعبي على وجه التخصيص. فلا شكّ أنَّ الخيمة كانت مكانا لرواية الأنواع المختلفة من الحكايات الشعبية للأطفال، إذ تضطلع الأم أو الجدة أو الأخت الكبرى أو غيرهن من القريبات، بتخفيف ثقل الأمامي وملل الليالي الطويلة بالحكايات العجيبة والغريبة المشرقة، فضلا عن السعي لنوم الأطفال بواسطة روايتها، إلى جانب حافز نقل الخبرات وتوسيع التجارب وتوريث القيم النبيلة لأجيال المستقبل، لا سيما وأن البيئة الصحراوية بما فيها من شساعة وأهوال وبطولات، في حقل خصب لتوالد الصور والكوابيس المرعبة، مما يغذي الخيال ويخصب الذاكرة، ويضاعف من حجم انتاج الحكي وتلقيه وتداوله داخل القبيلة، ما يساهم في تراكم المنجز السردي الشعبي البدوي، على أن الملاحظ كون الخيمة هي ذاتها أضحت من مفردات المتخيل الشعبي، نتيجة للبيئة الصحراوية، علما بأنها قد تحوّلت إلى فضاء لكثير من الحكايات البدوية، ويشارك الفضاء والحيّز في صناعة الحكاية الشعبية، ويترجم بما يوافق معاني الانطلاق والحرية والاتساع في البيئة الصحراوية، وليس أمثل من الخيمة التي تعد منبت الأحداث إذ تساهم في صناعة الصورة السردية من خلال شكلها ولونها. وطريقة بنائها والمكان الذي تبنى فيه وعدد أقسامها كل ذلك يعد من المكونات الأساسية للسرد في الحكاية الشعبية فهي دلالة الرخاء والنبل والكرم، كما هي دلالة عن مبادئ الأفراد والجماعات في التعامل مع الطبيعة وحالة التنقل الدائم في حياة البدو فهي الرمز والانتماء والهوية كما هي دلالة عن الحالة الاجتماعية وكذلك السياسية، وهي بناء جاد في الخطاب الحكائي في القصة الشعبية تروى بشكل أو بآخر حياة الأفراد والجماعات تشارك في الحبكة وتصنع الحدث وتساعد في بناء الصورة في المروي الشفوي لهذا النوع من الأدب والفن. يختار البدوي الخيمة لأنها تناسب حياته بكل مراحلها فيقال "البيت" و«الخَيْمَة" و«العَشَة" و«هَدْلاَسَة" وغيرها من المسميات التي توافق مشاهد الحياة والحالة الاجتماعية وبإمكان الملاحظ أن يشاهد هذه الفروقات في حيثيات السرد الحكائي في القصة الشعبية فالبيت أو الخيمة لا تليق إلا بالشيوخ والحكماء والأغنياء، مما يورث الجاه والقوة والمكانة أو في أحيان قليلة تليق بالأفراد الذين تحولت حالتهم من سوء المعيشة إلى الرخاء والغنى ليظهر مشهد الظلم أو المكر أو السيطرة، كما تنسب "العشة" و«الهدلامة " للفقراء والخدم والعبيد أو للأرامل والأيتام أو للرعاة حسب حالتهم الاجتماعية التي تعكسها الخيمة أو حتى الأثاث المنزلي، أو تضرب لمن خالف الطاعة أو خرج عن الولاء من أبناء الأعيان والأغنياء لتأديهم، كمل كان يفعل تماما بالصعاليك في الجاهلية. مكونات الخيمة والخيمة أو البيت هي أكبر المساكن تتكون من ثلاثة أقسام مهمة، يرجع كبرها حسب الغنى والمركز، فالوسط أوسع الأقسام وأوفرها أثاثا وأرحبُها للضيوف، تصنع "الطريقَة الوسطى مزخرفة لتحمل المعاني والرموز القومية وحتى الدينية، بل تتجدّد في كل عام لتظهر مكانة صاحبها، ويعد الوسط أوفر الأقسام حظا في الوصف والرمز أيضا في القصة الشعبية، كما يعد المكان الموضوعي للأحداث الرئيسية المتعلقة بالكرم والضيافة وأصول القوم وعاداتهم وغير ذلك، ما يعكس البعد الثقافي والسياسي (الْعَرَش) أو القوم أو حتى الأفراد. أما جانبي الخيمة فيسمى الأوّل "الملَكْمَة" وهي للجهة أو الناحية، أي "لكمة" أي الجنب وعادة هي للنساء والجلوس والنوم، أما الجهة الأخرى فهي "الخَالْفَة" لإعداد الطعام ونشوء الأسرة، وكل هذه الأقسام لها دور أساسي في الحكاية مثل: "الرجل موجود في الخَالْفَة ميّت ينم أنَّ الحدث تطور والسّرد تقدم نحو أحداث غير عادية، لأنَّ الرجل ليس مكانه "الخَالَفَة"، ولكن ليستفز القارئ ويتساءل ما الذي أتى به إلى "الخالفة" وهي مكان للنساء؟، وهو رجل غريب. كما تتبع وصف الخداع الغيلة السّر الخيَّانة وغيرها من هذه المعاني ترتبط بهذين القسمين، بينما الوسط في الخيمة أكثر وضوحا للأحداث وحتى الحوار، أما ما يسمى "بالعَشَّة" فهي خيمة أقل قيمة من البيت، صاحبها إما فقير معدم أو خادم، أو ليس من القوم حتى تظهر من خيمته هذه القيمة الاجتماعية أو حتى تعكس محطة من محطات السّرد مثل "أحمد" الرغدة الذي كان فقيرا لا قيمة له بين قومه له "عشة" لا تقيه الحرُّ ولا البرد، وهي تدل على معاني السُّخرية والتقليل من شأن الشخصية، مثل الأرملة واليتامى وغيرهما. وهذا الشكل يشارك بصورة فاعلة في موضوع الحكاية الشعبية، إذ في الغالب تذكر بهذه المعاني ولكنها سرعان ما تنقلب بيتا وخيمة لها قيمة فاعلة في تطور أحداث القصة أو تحوّل إلى مكان مفعم بالحركة بعد أن كانت هامشية ففي تناسب مع قصة: حَبْ حَبْ رُمَّانَه بعد أن مرضت الفتاة ويئس أهلها من شفائها تركوها في خادمتها إلى أن طغى عليها التراب وطما عليها الغبار حتى لا تكاد تُرى، وكلُّ "عشة" مع ذلك ليلائم السرد ومشهد المرض والمعاناة الطويلة وتردي الحالة والفقر والضعف. مثلما تشارك في الحدث هذه الخيمة الصغيرة "هَدْلاَسَة"، وهي أكثر تعاسة من نظيرتها وأكثر شؤما وارتباطا بالذُّل وخيبة الأمل، لا تصلح للسكن وإنما صاحبها معدم لا يكاد يملك شيئا غير هذه القطعة التي يمكن أن تكون قد أخيطت من قطع تسمى قرارة" وهي كيس من أردأ النسيج وأخشنه وأكثره شَعْرًا لا شيئ من الصوف فيه. تشارك أيضا في الأحداث الثانوية خاصة، حيث ترتبط بالوصف النفسي الدرامي أكثر من الخيمة، لأنّها تحمل معاني البؤس من جهة ومن جهة أخرى تفتح أ يسمح بتبني حوار " مونولوج" ذاتي يزيد من عمق المشكلة أو العقدة عموما، كما تشارك بفضائها حياة الشخصيات في تطورها الدرامي، حيث تمثل مرحلة من مراحل حياة الفرد داخل النسيج الحِكَائي والسردي، فالأعزب الفقير مثلا الذي تخلى عن حياة الأسرة لابد أن تبدأ حياته بهذه الخيمة أو "الهدلاسَة " لكي تظهر المعاناة في اطارها الزماني، والذي يستبشر به في الحكاية الشعبية، لأنَّ صاحبها ستتغير حاله إلى الأحسن. كما لعبت دورا مهما في حكايات الغول والسُّعَالَى، لأنها غير آمنة ومفتوحة من كل جهة وبالية، ما يجعل دخول الغول ومداهمته للخيمة سهلة ممكنة ويجعل ساكنها أكثر رعبا لأنَّه لا يستطيع حماية نفسه داخلها، ولا أن يراقب جهاتها المهلهلة والبالية وهي بهذا الوصف أكثر رعبا وأقل أمنا من الخيمة الكبيرة، كما أنَّ مكانها القاصي وبعدها عن التجمعات والقبيلة يجعل منها مكانا أكثر إبرازا لمظاهر الخوف ومشاهد الفزع. وقد ينعكس هذا الفضاء على أصحابه وساكنيه فالمرأة فيها تشقى في ترقيعها وخياطة جوانها المتهرأة باستمرار، وكأنه عمل إضافي يزيد من شقاء المرأة بالإضافة إلى أعمالها الأخرى المضنية كما تعكس صورة المرأة وبشاعة لونها ومنظرها الذي يصور المعاناة حقا، أما الرجل لا يكاد يفارق الحطب والرعي ولا يعود إلا ليلا ليجد التعاسة مجسدة أمامه في أثاثه البالي ومكانه الخالي من الدفء والطمأنينة. الحكاية.. تعد الحكاية الشعبية أولى النماذج السردية في الخطاب الشعبي المحلّي بعد الحكمة والمثل ولأنها طويلة زمنيا وتحتاج إلى عرض درامي ونسج سردي ونمط حكائي يتوقف بالدرجة الأولى على الراوي ثمّ على المتلقي، وعلى لغة السّرد والحكاية، فالراوي يتحكم في بنى السرد والشخصيات لكنه لا يحوّل المركز ولا يغير المحتوى القصصي، وكذلك المتلقي يخلق عوالم درامية إضافية لاستيعاب المغزى ويجدد لغته القصصية في كل مرة لكي ينقل الخطاب مرة أخرى لسامع ومتلقي، آخر كما تختلف لغة الحكاية الشعبية وتخضع لابستيمولوجيا عامة تتعدى الشخص الواحد لتشمل مناطق جغرافية أوسع نطاقا وعيّنات اجتماعية مختلفة. وهذا ربما السبب الوحيد الذي جعل الحكاية تبقى وتستمر مع استمرار الإنسان لأنها لو كتبت لماتت في إطارها اللغوي المكتوب، ولكنّها باقية شفوية تناضل البقاء وتواجه التحولات الدلالية للثقافة عموما. ولذلك ورغم الصعوبات التي تواجه نقل هذه النصوص من واقعها إلى واقع أكثر أكاديمية وأكثر ضيقا من المستويات المعروفة للحكاية الشعبية أردنا كتابة بعض الحكايات التي رأينا غزارتها المعرفية المتراكمة عبر أجيال تصوّر الوعي المعرفي الذي وصل إليه الإنسان في هذه المنطقة بالذات ومدى مشاركة هذه النصوص في إرساء هذه المعرفة وهذه الثقافة. من بين النصوص التي حاولنا كتابتها "حَبْ حَبْ رُمَّانَه" الذي يحتوي على جميع مستويات الحكاية من الإطار المعرفي البيئة التاريخ الإنسان، الحيوان..)، إلى الإطار السردي ومستوياته المختلفة (الوصف والحوار) إلى الأشكال الدرامية التي تصور الموضوع (العجائب، الخرافة، الأسطورة..)، وربما كانت هذه الحكاية على غرار ما وجدنا من حكايات أخرى متشابهة تحتاج إلى تسجيل صوتي ممن يتمتع بقوة الذاكرة وخصب المخيلة وسلامة اللغة الحكائية. وحسن الأداء السّردي للشخصيات وغيره، لذلك عمدنا إلى تسجيلها.