افتقد الجزائريون شخصية الحكواتي لعقود طويلة وبدا أنه هذه الشخصية الأسطورية انقرضت من حياتنا، أمام الانفجار التكنولوجي الذي فرض أنماطا جديدة للعيش والتسلية.لكن الحكواتي بدأ يتسلل من جديد إلى أرضه الأولى بعدما تاه واغترب في أوروبا، حيث وجد "الحكواتية" الجزائريون والمغاربة اهتماما كبيرا لفت انتباه القائمين على الشأن الثقافي في الجنوب.في هذا العدد يسلط "كراس الثقافة" الضوء على الحكواتي والحكاية الشعبية التي أوشكت على الاختفاء من ثقافتنا ويمنح الكلمة لحكواتية وأكاديميين، يحتفلون بعودة الحكاية ويتقاسمون الخوف عليها. أعدت الملف: مريم بحشاشي الدكتورة نادين ديكور أستاذة محاضرة بكلية الانثروبولوجيا و علم الاجتماع بجامعة ليون الفرنسية الرواة المغاربة اختاروا أوروبا لاحتراف فن الحكاية الشعبية ما رأيته اليوم في قسنطينة من اهتمام الشباب بالحكاية الشعبية و تجاوبهم الكبير مع الحكواتيين باختلاف لغتهم و لهجتهم و قصصهم أكد لي مرة أخرى بأن الحكاية ترفع الحاجز الذي يفصل الثقافة الأصلية الشفوية المجهولة و الثقافة الكتابية المكتسبة بالمدارس. فالميزة الكونية للحكاية تفتح الحوار بين باقي الثقافات بنكهة و متعة التنوع. لأننا بالبحث في التراث الشعبي الشفوي نتعمق في الأصل و العرق البشري، فالحكاية تجمع الأمم و تجعلها أمة واحدة مثلما عرّفها روجي باستيد. و حتى لا يفقد هذا الموروث المهم ثمة مساعي تستحق التشجيع في الكثير من الدول سواء على مستوى الجامعات أو النشاطات الجمعوية أو من عشاق الحكاية و سحر الكلام و في الوطن العربي تعتبر لبنان رائدة في هذا المجال، و أظن أن الدول المغاربية لا تقل أهمية من حيث ثراء الأدب الشعبي، و إن كان الحكواتيون المغاربة اختاروا أوروبا و الغرب لاحتراف فن ضارب في تاريخ دولهم الأم، فأنا من خلال تجربتي و أبحاثي حول الأدب المغاربي وقفت على عالمية هذا الموروث الشفوي، و أستشهد على سبيل المثال بقصة "بقرة ليتامى "التي كانت محور أحد أبحاثي و مؤلفاتي في بداية التسعينات التي تحكى في مختلف الدول الأوروبية. كما برز الكثير من الحكواتيين المغاربة في فرنسا و صنعوا لهم اسما بين أهم الحكواتيين المحترفين المشهورين.الحكاية الشعبية لم تندثر لكنها تنتظر من يزيح عنها الغبار و يعيدها إلى السطح مثلما يحدث مع الحكواتيين الهواة الذين كشفوا عن موهبة كبيرة في فن السرد و هو ما زاد من حماسهم و رغبتهم في احتراف هذا الفن و التعمق فيه بالبحث و جمع أكبر عدد ممكن من قصص الجدات و الأسلاف.و تجربتنا الخاصة بليون بين عامي 1992و 1993 أثمرت بتشكل مجموعة حكواتيات تم توظيف 11منهن كقاصات محترفات تسعة منهن من أصل مغاربي و هو ما أعتبره مؤشر تفاؤل لإعادة بعث الحكاية الشعبية في كل المناطق الجزائرية، مثلما يفعل الكثيرون في الغرب و الذين يحرصون على الحفاظ على تراث بلدانهم بسرد قصص حفظوها عن أسلافهم ، فهم يلبون الدعوات و يشاركون في المهرجانات و يمتعون و يستمتعون.و منذ بدأت أبحاثي انتابني شعور بأن المرور من الشفاهي إلى الكتابي يتطلب المرور بمنطقة الغموض الإبداعي لأن الأمر لا يتعلق بمجرد المرور من لفظي إلى كتابي مثلما نمر من بلد إلى آخر كما لا يتعلق بكتابة لفظة و إنما هو إبداع تحفة فنية قادرة على إثارة عبقرية الكلمة و عبقرية الكتابة. و نحن من خلال إنشائنا لموقع "الحكاية الشعبية الجماعية" نحاول جمع و مقارنة الموروث الشعبي العالمي، لكن لتجسيد ذلك لا بد من سياسة دعم و تشجيع، لأنه من دون ذلك لن تجدي المساعي الفردية نفعا. هنري تواتي مدير مركز فنون الحكاية بفرنسا الجزائر حقل خصب للحكاية و إعادة بعث مهنة الحكواتي ليست مستحيلة الحكواتي أو القاص لم يختف لأنه مغروس في كل واحد فينا، و قد بينت التظاهرات و مهرجانات الحكاية الشعبية الاهتمام الكبير الذي يوليه الأفراد لهذا النوع من التراث الشفهي و رغبتهم في احترافه. نفس الرغبة سجلناها بقسنطينة، حيث لا يكف عدد الحكواتيين الهواة عن التضاعف. كما وجدنا لدى كل شاب رصيد معتبر من الحكايات الشعبية والعالمية لكن تنقصهم الخبرة في العطاء و انعدام الظروف المشجعة على استمرار تناقل هذا التراث. و عدد الحكواتيين الهواة لا دليل على رغبة صادقة في الحفاظ على الحكاية كممارسة فنية، ثقافية و اجتماعية و طالما هناك إرادة للحفاظ على التراث فإن مهنة الحكواتي لن تختفي حتى و إن اقتصرت اليوم بالجزائر على الإطار العائلي، و تجربتنا بفرنسا نحن أيضا كانت محدودة في البداية و اليوم مهرجاننا للقصة و الحكاية الذي انطلق عام 86 من شبكة مكتبية و جمعية تربوية شعبية أصبح اليوم يعرف مشاركة أكثر من 100حكواتي، و نفس النتيجة ستتحقق بالجزائر إن وجدت جمعيات حريصة على الحفاظ على التراث الشعبي في فن الحكاية، و تجربة جمعية "كان يا مكان من شأنها إعادة بعث فن الحكاية في الساحات العامة و الفضاءات الثقافية و الترفيهية. فحقل القصة الشعبية بإفريقيا خصب و من المؤسف تركه يزول دون توثيقه و تسجيله و الاستمرار.فالحكايات الشعبية حطام أساطير و توثيقها في رأيي ليس غاية بذاتها فقد يكون متعدد الأهداف ، فهو يساهم في دراسة تاريخ الثقافة و الحياة الاجتماعية من باب ما يعرف بمنهج إعادة البناء التاريخي، كما يساهم في التغيير الثقافي و تحليل علاقات التفاعل و التأثير المتبادل بين الثقافات المختلفة. لكن الحكاية بكل بساطة تبقى مصدرا للمرح و الراحة و غرس الحكمة و حب الشعر و سحر الكلمات و الخيال في الصغار و افلات الكبار بين الفينة و الأخرى من واقعهم الصعب إلى عالم الخيال و الحب و السحر بكل معانيه الجميلة و الفاتنة.و فرنسا تعد اليوم أكثر من 2000حكواتي محترف من مختلف الجنسيات وليس بالصعب على الجزائريين تحقيق ذلك أيضا، لأنها تتوفر على المادة الخام و لابد من البحث و التسجيل و التوثيق قبل ضياع ما تبقى من تراث الأولين الزاخر. البروفيسور كمال عبدو رئيس دائرة اللغة الفرنسية بكلية الآداب جمعنا أكثر من 200 حكاية شعبية من مختلف مناطق شرق البلاد ثمة مساعي كثيرة للحفاظ على الأدب الشعبي و اهتمام متزايد من قبل الباحثين، و نحن بدائرة الفرنسية قمنا بأبحاث و دراسات ميدانية حول الأدب الشعبي و تمكنا بالتنسيق مع جمعية "كان يا مكان "التي أنا عضوا بها من جمع و تسجيل حوالي 200 حكاية بمختلف مناطق شرق الوطن. و في رأيي فإن مبادرات كالأيام الدولية للحكاية و القصة التي احتضنت فعاليتها ولاية قسنطينة منذ أيام من شأنها تشجيع الاهتمام بالأدب الشعبي و الحفاظ عليه، من خلال دعم الأبحاث و الباحثين في هذا المجال المهم الذي يغوص في أعماق التراث و يبرز إبداعات الأدب الحكائي التي تبعث مسارات روائع الحكي عبر العصور و التي تعتبر مادة خصبة للباحثين الجامعيين. فنحن تمكننا في إطار أبحاثنا ضمن مخبر "سلاد" الذي أرأسه شخصيا من جمع حوالي 200حكاية شعبية بفضل تنقلنا بين الأرياف بشرق الوطن بحثا عن القصص و الحكايات الشعبية المتوارثة هناك. أما عن إعادة بعث مهنة الحكواتي من جديد يسترزق منها محترفيها، فلا أظن الأمر صعبا أو مستحيلا و الدليل الاهتمام المتزايد للشباب بفن الرواية و السرد. الدكتور عبدالله حمادي الثقافة الشعبية بجامعاتنا لن تحظى باهتمام الباحثين طالما استمرت النظرة الدونية لها أعتقد أن واقع الأدب الشعبي في الجزائر لا يحظى بالأهمية التي تناسب قيمته كذاكرة شعبية و كثقافة جمعية يضطلع بها كل الناس و تخزن في ذاكرتهم و تنقل مشافهة عبر الأجيال.فما زال المهتمون بالثقافة الشعبية بالجزائر يخلطون فيها بين الثقافة الشعبية كموروث ثقافي له مقوماته و بين الثقافة الفلكلورية التي لا تعبّر بالضرورة عن ذلك الرصيد الذي تختزله الثقافة الشعبية في مفهومها الاجتماعي و الأنثروبولوجي. و الثقافة الشعبية بالجامعات عندنا على سبيل المثال لا تحظى باهتمام الباحثين ولا بتوجيه الباحثين إلى ميدان الثقافة الشعبية و أكبر دليل على ذلك أن النظام الجديد المستحدث في الجامعات و المعروف باسم نظام ال"أل أم دي" لم يول المشرفون عليه أي اهتمام بهذا الحقل ، و لعل السبب في ذلك يرجع في رأيي كون أن هذا النظام في الجامعات لم يساهم في إثرائه، ووضع محاوره الأساسية من طرف الأساتذة الأكفاء، ذوي الخبرة ،بل تكفلت الإدارة بوضع برامجه و هو ما جعل هذه البرامج تعكس النظرة القاصرة التي لم تول عناية بالكثير من الروافد الثقافية الاجتماعية كظاهرة الأدب الشعبي، و بكلية الآداب و اللغات بجامعة قسنطينة لا وجود لهذا التخصص و من هنا نستطيع أن نقول بأن الثقافة الشعبية بالجزائر بصفة عامة لا تحظى بالرعاية و لا الدراية من لدن المؤسسات المؤهلة لذلك.و لا نستطيع أن نقول بأن الثقافة الشعبية اندثرت لأنها إفراز جماهيري مستمر و عطاء شعبي لا ينضب، و لكن الاهتمام العلمي بهذا الرصيد الثقافي لا يجد العناية و لا المتخصصين الذين يطلعون بالكشف عن جمالياته و فك رموزه. و رسم أبعاده و تحديد مدلولاته. و المقصود من كلامي السابق هو ضرورة الإسراع بخلق شعب تتكفل بالعناية بهذا الموروث الشعبي و تكوين المتخصصين المسلحين بالإمكانيات و الإجراءات العلمية التي تكشف عن مسارات هذا النوع من الثقافة. و قد سبق لدائرة اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة قسنطينة تنظيم ملتقى حول الحكاية الشعبية، غير أن هذه المبادرة تبقى متواضعة و غير مؤهلة إلى حد الآن لتلبية حاجيات هذا الزخم الكبير من الثقافة الشعبية. و قد حضرت على سبيل المثال عام 2008ملتقى دولي حمل عنوان "الحب في الحكاية الشعبية المتوسطية" من تنظيم وحدة بحث بالجامعة التونسية و رأيت مدى الاهتمام التي توليه الجامعة لمثل هذا النوع من الثقافة بحيث رصدت له إمكانات ضخمة ، و كان حضورا متوسطيا واسعا كشف من خلاله المشاركون على نقاط الالتقاء و الاختلاف في الحكاية الشعبية المتوسطية و على وجه الخصوص حكاية الحب. في حين ما زال التخصص في الحكاية الشعبية ببلادنا ينظر إليه نظرة دونية من لدن السلطة الإدارية في الجامعات التي لم تعمل على تكوين متخصصين في هذا المجال الذي يحتاج إلى مسح ميداني و مناهج حداثية لديها القدرة على استنطاق النصوص و فك الرموز و هو ما يدخل في حقل الأنثروبولوجيا بامتياز، و مثل هذه الوسائل تكاد تكون نادرة في جامعاتنا التي لم تنظم طيلة سنوات ملتقيات حول الثقافة الشعبية.و بخصوص محاولة إعادة بعث مهنة "الحاكي" أو ما يعرف عندنا بالمدّاح أو القوال فأنا لا أراها مستحيلة، لكن يجب النظر إلى عوامل أخرى طرأت على المجتمعات فساهمت إلى حد كبير في تقليص دور الكائن الذي كان يطرب في الساحات العامة، فوسائل الإعلام الحديثة و في مقدمتها التلفزيون و الانترنت و حتى السينما كانت حائلا دون بعث دور الحاكي أو القاص أو المداّح، لأن هذه الوسائل السمعية البصرية التي اخترقت كل الحواجز بات الصمود أمامها يبدو مستحيلا على نمط من الثقافة تعتمد المشافهة و الارتجالية و الذاكرة المستوعبة. الدكتور عبد القادر نطور أستاذ الأدب الشعبي بجامعة منتوري شخصية الحكواتي ستبقى في الوجدان الشعبي كانت الحكاية الشعبية بمختلف أنواعها تشكل المادة الأساسية للمقرئين والمنشدين المحترفين الذين كانوا يتلونها على مسامع الناس في الأسواق والمقاهي الشعبية والساحات العمومية وفي المنازل . وكان الحكواتي يحظى بأهمية خاصة من قبل الجميع، لأن الناس سابقا كان لهم الوقت الكافي للالتقاء والاستماع والاستمتاع بحكاياته التي تعبر عن المشاعر الصادقة والعميقة والتي يصف فيها المعارك التي نشبت بين العرب وغيرهم وبين قبيلة وأخرى وصفا ضافيا وكان بمثابة الحريص على قيم الماضي المثلى وكانت حياة الناس بسيطة نقية خالية من الحسد والكبرياء والتصنع والتكلف والاستهانة والاستعلاء . ولكن واقع الحكواتي في زمننا الحاضر، بعد تداعي المسافات بين ثقافات العالم ووحدته من حيث تشابك المعلومات بفضل الأقمار العلمية والتجسسية والصواريخ عابرة العقول الإنسانية المتمثلة في الأغاني والملابس العصرية والأجهزة الرقمية. و رغم كل ذلك لازالت هذه الشخصية و ستبقى في الوجدان الشعبي لما سجلته من أحداث ووقائع عرفتها الشعوب عبر الأجيال المتلاحقة في حين تجاهلها المؤرخون الذين أرخوا للحكام والسلاطين فقط و لم يعيروا أي اهتمام للشعوب. الحكواتي الهاوي لا يزال موجودا بكثرة في ربوع الوطن ولكن الحكواتي المحترف قل وجوده لأسباب مادية ومعنوية تتصدر قائمة هذه الأسباب، انعدام التشجيع من طرف كل الجهات الرسمية والشعبية إلا أن الأمل معقود على المثقفين الحقيقيين الذين يعرفون ويدركون أهمية الحكواتي في الحفاظ على المأثورات الشعبية وعلى جزء كبير من تاريخنا وبالتالي على هويتنا. رئيس جمعية "كان يا مكان" الدكتور فيصل أحمد رايس " كان يا مكان " محطة للقاء و البحث و التوثيق واقع الحكاية الشعبية و الخوف عليها من الاندثار حفزنا على تأسيس جمعية "كان يا مكان" التي رأت النور عام 2007 في إطار برنامج التوأمة بين بلدتي قسنطينة و غرونوبل الفرنسية، و أعادت الأمل للكثير من الراغبين في اقتحام هذا المجال الساحر في خوض التجربة في شكل منظم، و قد تزايد عدد المنخرطين بالجمعية من سنة إلى أخرى، حيث وقفنا من خلال تجربتنا البسيطة على مدى اهتمام و رغبة الكثيرين في الحفاظ على الأدب الشعبي و حمايته من الزوال و ذلك بمختلف الأوساط و الفئات. جمعيتنا تلقى الاهتمام من المثقفين و الجامعيين و الباحثين و الأطفال و الشباب. و قد تمكنا من جمع و تدوين الكثير من الحكايات الشعبية بفضل مساهمات المنخرطين الذين اختار بعضهم احتراف مهنة الحكواتي نساء و رجال أظهروا حماسا كبيرا خلال الحصص التكوينية المبرمجة في إطار برنامج جمعيتنا التي تنظم سنويا أياما دولية للحكاية و القصة من باب تبادل الخبرات و إمتاع الجمهور المتعطش لمثل هذه التظاهرات، و كذا لإبراز حكواتيين جدد من مجموعتنا الهاوية والاهم جمع و توثيق الحكايات الشعبية .و نحن نطمح اليوم لإعادة بعث فن الرواية و إعادة مكانة الراوي في مجتمعنا الذي فقد الكثير من العادات الجميلة و المميّزة و على رأسها الحكايات الشعبية.و نطمح إلى تنظيم مهرجانات دولية و جلسات للحكاية للكبار و الصغار في مختلف الفضاءات. و بهذه الطريقة لن تندثر الحكاية و لا الراوي الذي سيستعيد مكانته و تعود الحكاية إلى سابق عهدها مصدر عيش للكثيرين، خاصة بعدما طرأ من تغييرات على مهنة الحكواتي الذي أصبح أقرب إلى فنان مسرحي يلقي حكاياته بأسلوب مشوق على طريقة الوان مان شو، بعيدا عن الصورة التقليدية للراوي بالساحات العامة.