لابد لتقدير العمل الفني من معايير للقيمة، فإذا لم يكن الناقد يكتفي بوصف مشاعره فحسب، فلابد له من فحص خصائص العمل ذاته، غير أنه لا يستطيع أن يدافع عن تقديره إلا إذا استطاع أن يثبت كيف تؤدي هذه الخصائص إلى جعل العمل جيدا، وبأي الدرجات تؤدي إلى ذلك، إذن لابد أن يكون لديه معيار يعرف به الجودة الفنية ويقيمها. فعندما نسمي المسرحية تراجيديا أو كوميديا، لابد أن تتوافر فيها صفات شكلية وتعبيرية معينة، يتميز بها ذلك النوع الأدبي، وعندما يصنع نحات تمثالا لغرض اجتماعي معين، فلابد أن يكون عمله مرتبطا بالتراث الاجتماعي، وان يسهل تذوقه على كل أفراد المجتمع. ولقد اعتبرت المدرسة الكلاسيكية الجديدة في نهاية القرن الثامن عشر، أول من وضع القواعد المحددة لنقد الفن بشكل مفصل، وكان النقد الكلاسيكي الجديد متمسكا بالتقاليد والشكليات إلى حد بعيد، واتخذ من العصر اليوناني والروماني القديم أنموذجا سواء في الأدب أو الفنون البصرية علي نحو شامل؛ لأنها أعمال ترتكز علي سلطة الفيلسوف أرسطو والشاعر هوراس، وعلي هذا الأساس، لم تكن الكلاسيكية الجديدة تشجع التجديد والتجريب في الفن، حيث يستند حكم النقاد علي دراسة المنظور والنسب في الأجسام الحية وفي التكوين الكلي للعمل الفني والمحاكاة الواقعية الصادقة للتعبير عن زاوية الانفعالات التي ينظر منها الفنان إلى الوجود والحياة في الموضوعات سواء كانت ذات طابع واقعي أو رومانسي يحلق في أفاق الخيال، أو أنها ذات طبيعة رمزية تستمد عناصرها المعبرة عن الفكرة الموضوعية من تلك الدلالات التي تنطوي تحتها العوامل التي يريد الفنان أن يرمز إليها وان كانت تتخذ على الأداء أسلوبا طبيعيا وبذلك لا يستطيع الناقد وفقا لهذه الطريقة أن يطلق أحكامه على العمل الفني بلا معايير وقواعد تساعده على قياس العمل وجودته. أخذ هذا النوع أو المنهج النقدي بتصنيف الأدب والتصوير إلى أنواع، واشترط أن يكون لكل نوع قاعدة خاصة به كمعيار ثابت للحكم عليه بالجودة الفنية، ويرى أحد النقاد أن المحاكاة هي الشعر وأساس بقية الفنون أيضا، وبهذا تكون أوروبا قد شهدت نقدا تغلب عليه القاعدة، وقد استمر ذلك طويلا ولم تؤثر فيه مخالفات هنا وهناك، ولكن، خلال القرن الثامن عشر، تضافرت الجهود على إنجاح الثورة ضد هذا المنهج النقدي، فبدأت بوادر كبيرة لتقهقر هذا المنهج بشكل سريع، فلم يعد النقد تطبيقا للقواعد ولم يعد الزاما بنوع أو شرط لإتباع نموذج سابق، ويعود سبب التقهقر إلى المآخذ التي سيطرت على النقد القاعدي، ومنها أن هناك فرقا بين ما استقر لأنه صحيح، وما نعتبره صحيحا لمجرد أنه استقر . السياقي والنسقي يشمل سباق العمل الفني الظروف التي ظهر فيها العمل وتأثيراته في المجتمع، ويشمل - بوجه عام - جميع العلاقات والعلاقات المتبادلة بين العمل والأشياء الأخرى، باستثناء حياته الجمالية، فالنقد السياقي هو ذلك النوع من النقد الذي يبحث في السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للفن. هذا النوع من النقد في صوره المختلفة قديما، قدم النقد الفني ذاته، فبعض الأعمال الفنية هي نواتج اجتماعية واضحة؛ لأنها تجسد معتقدات حضارة الفنان ورموزها وتعكس سمات العنصر الذي ينتمي إليه، غير أن النقد السياقي لم يمارس أبدا بذلك النطاق الواسع والنجاح اللذين مورس بهما في الأعوام المائة الأخيرة، بل إن ظهور النقد السياقي ونموه قد يكون أبرز تطور في تاريخ النقد منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد تمكن السياقيون عن طريق استخدام مفاهيم وأساليب جديدة في التحليل، من الإتيان بقدر ضخم من المعلومات عن الفن؛ ففكرة السياق ذاتها من أقوى أفكار القرن التاسع عشر تأصلا وأعظمها تأثيرا والمقصود بها هو أن الشيء لا يمكن أن يفهم منعزلا، وإنما يفهم فقط بدراسة أسبابه ونتائجه وعلاقاته. هذه الفكرة تحفز على البحث في ميادين متعددة، وهناك سببا آخر أكثر تخصصا أدى إلى ظهور السياقية في ميدان النقد، فقد كان كثير من مفكري القرن التاسع عشر يريدون أن يجعلوا النقد علميا؛ ذلك لأنهم كانوا معجبين بدقة العلوم الطبيعية، في هذه المرحلة، بلغ النقد هدفه العلمي إذ ابتعد عن الأحكام الشخصية والتقديرات الذاتية المتباينة والمتعارضة كما كانت من قبل، وبهذا يكون النقد السياقي ملما بظروف العمل الفني إلماما كبيرا ، فهو يدرس ما يحيط به من العوامل السياقية المؤثرة عليه بقدر أو بآخر، فضلا عن شمولية الفكر الجمالي عند الناقد. ولقد تبلورت المناهج النقدية واتخذت مسارين في توجهها، بحيث قسم الدارسون النقد إلى قسمين: نقد سياقي وآخر نسقي، ويريدون بالنقد السياقي ذلك النقد الذي يسترفد نظريات المعرفة الإنسانية المحاور النصوص مستفيدا من مطارحاتها الفكرية المختلفة، ومن ثم فهو ينطلق من النص إلى خارجه، ثم يعود إليه بما استخلص من معرفة.. إنها العملية التي تعطي للسياق أولوية على النص، وتجعل هذا الأخير تابعا له، أما النقد النسقي أو النصي، فهو النشاط الذي يغلق الباب في وجه السياق، وانطلاقا من الأفكار السابقة الذكر، برزت المناهج التي تهتم بتاريخية النص واجتماعيته وواقعيته وأطلق عليها القراءات السياقية، وهناك مناهج البحث داخل النص دون سياقاته الخارجية ومن أبرزها البنيوية والتفكيكية، أن البنيوية اهتمت بالبنيات وأنساقها وفي دراستها لأشكال القصص والأساطير أيضا، فقد أرادت البنيوية في تأكيدها وتركيزها على البنية أن تحقق حلما بعيدا للنقد الأدبي القديم باكتساب الصفة العلمية الموضوعية الدقيقة التي تنقل المعرفة من الغرضي إلى السببي وإلى بنية العمل، حيث كانت أفكار الباحث اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير، المنطلق لتوجهات البنيوية، من خلال المبادئ التي أملاها على تلاميذه في الدراسات اللغوية في جنيف، فهي تمثل بداية الفكر البنيوي في اللغة . سعى البنيويون إلى تحويل البنية إلى مجرة صغيرة لا تتجاوز حدودها نفسها في حركة داخلية تحافظ عليها وتستمر في إثرها حتى لا تضطر إلى الجنوح نحو الخارج ويكمن السر باهتمام البنيويين بسلطة البنية في أن هدفها يجعل الأنموذج اللغوي أنموذجا مطلقا يتصف بالتعالي، باعتبار أن اللغة هي الأصل ويعود إليها بناء البني الفرعية، أي أن البنيوية تنطلق من المسلمة القائلة أن البنية تكتفي بذاتها، ولا يتطلب إدراكها باللجوء إلى أي عنصر من عناصرها الغريبة عنها وعن طبيعتها، ومنه، فالنص هو بنية تتكون من عناصر، وهذه العناصر تخضع لقوانين تركيبية تشد أجزاء النص الأدبي. ولقد حصر جان بياجيه خصائص البنية في ثلاثة عناصر: الشمولية: ومعناها أن البنية تتألف من عناصر داخلية متماسكة بحيث تصبح كاملة في ذاتها وليست تشكيلا لعناصر متفرقة التحويلات، ومعناها أن البنية ليست ساكنة مطلقا، وإنما هي خاضعة للتحولات الداخلية، فالمجاميع الكلية تنطوي على ديناميكية ذاتية. التنظيم الداخلي: ويعني أن البنية قادرة على تنظيم نفسها مما يحفظ لها وحدتها ويضمن لها البقاء، والبنية بهذا التصور لا تحتاج إلى سلطان خارجي لتحريكها، والجملة لا تحتاج إلى مقارنتها مع أي وجود عيني خارج عنها لكي يقرر مصداقيتها، وإنما تعتمد على أنظمتها اللغوية الخاصة بسياقها اللغوي. ومن أبرز رواد البنيوية نجد فرديناند دي سوسير ورومان ياكبسون، وكلود ليفي ستراوس الذي استفاد من أفكار دي سوسير في اللغة، وطبق المنهج البنيوي في دراسة الأسطورة، حيث قام بتقطيعها إلى جمل قصيرة، وكتابة كل جملة على بطاقة فهرسة، ثم تصنيفها وفقا لعلاقتها بوظيفة من الوظائف المستندة إلى شخص من الأشخاص. التفكيكية نشأت هذه النظرية على أنقاض البنيوية، وازدهرت في السبعينيات من القرن الماضي وارتبطت التفكيكية أو التقويض باسم الكاتب الفرنسي جاك دريدا في كتب أصدرها عام 1967، وأهم هذه الكتب، كتاب في علم الكتابة De la grammatologie والذي يعد لسان التفكيك. وتنصب الدراسة التفكيكية على النصوص الأدبية محللة إياها وكاشفة عن معانيها ومواطن القلق بها، وسلبياتها، ويتطلب هذا قراءة النص قراءة مزدوجة، فهو من ناحية يكشف ويعري المقولة العقلانية التي يرتكز عليها النص، ويلفت النظر إلى لغة النص وإلى مكوناتها البلاغية ومحسناتها البديعية ويشير إلى وجود النص في شبكة من العلاقات النصائية والدوال. قام دريدا بوضع مصطلحات اشتقها من دراسته التفكيكية، وهذه المصطلحات من شأنها تنظيم خطى التفكيكية كمنهج نقدي، ومن هذه المصطلحات الأثر والاختلاف والانتشار والتمركز، وتحيل هذه العناصر مجتمعة إلى نتيجة مفادها أن كل شيء مؤقت في المشروع التفكيكي، لأن جميع التراكيب والبنى هي حالة مستمرة لا نهائية. لقد عاملت التفكيكية النص كبنية آثار، وفقا لآلية عمل سعت إلى تحقيقها من خلال تطبيق أطروحاتها على النصوص، وتتلخص هذه الآلية في التموضع داخل النص ونسقه من خلال كشف أفكاره المتضاربة والمتناقضة وتوجيه ضربات لها مما يؤدي إلى تفكيك بنيته الكلية، علما أن هذه الآلية في العمل تبدأ من داخل النص إلى خارجه. نظرية التلقي: ظهرت نظرية التأثير والتقبل في ألمانيا في أواسط الستينيات (1966م) في إطار مدرسة كونستانس وبرلين الشرقية قبل ظهور التفكيكية ومدارس مابعد الحداثة على يدي كل من فولفغانغ ايزر Wolfgang Iser وهانز روبرت ياوس Hans Robert Jauss، ومنظور هذه النظرية أنها تثور على المناهج الخارجية التي ركزت كثيرا على المرجع الواقعي كالنظرية الماركسية أو الواقعية الجدلية أو المناهج البيوغرافية التي اهتمت كثيرا بالمبدع وحياته وظروفه التاريخية والمناهج النقدية التقليدية التي كان ينصب اهتمامها على المعنى وتصيده من النص باعتباره جزءا من المعرفة والحقيقة المطلقة، والمناهج البنيوية التي انطوت على النص المغلق وأهملت عنصرا فعالا في عملية التواصل الأدبي ألا وهو القارئ الذي ستهتم به نظرية التلقي والتقبل الألمانية كثيرا. ترى نظرية التلقي أن أهم شيء في عملية الأدب هي تلك المشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي، أي أن الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موقعة القارئ في مكانه الحقيقي، وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه، وهو كذلك القارئ الحقيقي له، تلذذا ونقدا وتفاعلا وحوارا، ويعني هذا أن العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج من جديد، لأن المؤلف ما هو إلا قارئ للأعمال السابقة. ويرى أيزر أن العمل الأدبي له قطبان، قطب فني وقطب جمالي، فالقطب الفني يكمن في النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي وتسييجه بالدلالات قصد تبليغ القارئ بحمولات النص المعرفية والإيديولوجية، أي أن القطب الفني يحمل معنى ودلالة وبناء شكليا، أما القطب الجمالي فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة، أي يتحقق بصريا وذهنيا عبر استيعاب النص وفهمه وتأويله، ويقوم التأويل بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيل عبر سبر أغوار النص واستكناه دلالاته والبحث عن المعاني الخفية والواضحة عبر ملء البياضات والفراغات للحصول على مقصود النص وتأويله انطلاقا من تجربة القارئ الخيالية والواقعية، ويجعل التأويل من القراءة فعلا حديثا نسبيا لا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة أو الوحيدة المتعالية عن الزمان والمكان، لأن القراءة تختلف في الزمان والمكان حسب طبيعة القراء وتوعيتهم. لذلك يرى أمبرتو إيكو أن هناك أنماطا من القراءة والقراء في دراساته عن النص المفتوح والنص الغائب: نص مفتوح وقراءة مفتوحة، نص مفتوح وقراءة مغلقة، نص مغلق وقراءة مغلقة، نص مغلق وقراءة مفتوحة. تحاول هذه النظرية أن تعيد قراءة الموروث الأدبي والإبداعي من خلال التركيز على ردود القراء وتأويلاتهم للنصوص وانفعالاتهم وكيفية تعاملهم معها أثناء التقبل وطبيعة التأثير التي تتركها نفسيا وجماليا لدى القراء عبر اختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية وهكذا يدعو كل من ايزر وياوس إلى إعادة كتابة تاريخ الأدب الغربي على ضوء جمالية القراءة لمعرفة الذوق السائد، وطبيعة التفكير والتفاعل بين الذوات والنصوص الإبداعية والمقاييس الجمالية. يستخدم أصحاب نظرية التلقي مصطلح "أفق التوقع"، ويعنون به استحالة فصل النص الذي نقرأه عن تاريخ تلقيه والأفق الأدبي الذي ظهر فيه وانتمى إليه أول الأمر، فالنص وسيط بين أفقنا والأفق الذي مثله أو يمثله عن طريق التداخل بين هذين الأفقين تنمو لدى المستقل القدرة على تنوع بعض الدلالات والمعاني. وانطلاقا من التأسيس النظري للنقد الأدبي أو الفني على حد سواء، نلاحظ أنه مر بمراحل متسلسلة وجوهرية وتطور مع الزمن من نقد كلاسيكي أو قاعدي كما يحلو للبعض أن يسميه، والذي يتأسس على قواعد ومعايير هي التي تعتبر الحجر الأساس في الحكم على جودة العمل، واستمر هذا النوع فترة زمنية معتبرة حتى انتفض رواد الأدب من المآخذ التي لاحقت المناهج القاعدية والتي تحكم على العمل لمجرد توفره على معايير استقر الحكم بها على جودة العمل لفترة طويلة. وظهرت نتيجة للثورة على المناهج القاعدية المناهج السياقية في النقد والتي تهتم بالجوانب الخارجية للنص، أي أنها تلمس حقيقته من خارجه، وتعده انعكاسا للمحيط الذي نشأ فيه، من خلال الربط بالبعد الاجتماعي والتاريخي والنفسي للنص ولقد ظهرت بالموازاة .