تعتبر مدرسة فرانکفورت Frankfurt School من أهم المدارس التي عمدت إلى تطوير الماركسية Marxism في القرن العشرين وانتسب إليها مفكرون وعلماء اجتماع لهم وزنهم في الفكر الفلسفي النقدي المعاصر، وإليهم يعود الفضل في تشييد صرح معهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت في نهايات عشرينيات القرن العشرين ومن أبرز ممثلي هذه المدرسة ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وهربرت مارکوزه، الذين يمثلون الرعيل الأول لهذه المدرسة). وتحت طائلة التغيرات الجذرية التي مسّت البنائية الجديدة في القرن العشرين عمد فلاسفة النظرية النقدية للمدرسة إلى إعادة قراءة النقد الماركسي للرأسمالية، وذلك بغية مجابهة الظروف المحيطة بالمناحي الاجتماعية والسياسية الجديدة، التي تغيرت بعد وفاة کارل هاينريش ماركس، وهكذا، تجلت النظرية النقدية لتنظر في مناحي الواقع السوسيولوجي التي أهملها ماركس ومن سار على نهجه من الماركسيين الكلاسيكيين. ومع ذلك، فقد نظر مفكرو مدرسة فرانكفورت إلى حاجتهم الملحة إلى الماركسية ولكن بنمطية جديدة تتواءم والتطور الزمني الذي عايشوه في تلك الفترة، بحيث عمل فلاسفتها في أجواء مضطربة نوعا ما، ولا سيما أنهم ذوو اتجاهات يسارية. وذلك مع بروز قوة أدولف هتلر Adolf Hitler (1945-1889) وحزبه بداية الثلاثينيات، وتأثيره الواضح في العقلية الأوروبية، وبصفة خاصة في مع العلم أنه لم يتنبه إلى كون الماركسية لم تتنبأ بتلك التطورات الحاصلة لهذا أضحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى بعث ماركسية جديدة، تعمد إلى كشف العلل التي أدت إلى مثل هذه الكارثة السوسيولوجية والسياسية. فقد كانت الضروب الرسمية للماركسية التي سعت لطرحها الأحزاب الشيوعية في أوروبا آنذاك، مجرد تصورات فرضها مفكرون بيروقراطيون في الاتحاد السوفياتي الذي كان يخضع في تلك الحقبة لحكم الدكتاتور جوزيف ستالين. يتناول كتاب مدرسة فرانکفورت تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية، تاريخ مدرسة فرانكفورت، والأماكن التي عاصرت هذا التاريخ الطويل كأوفنباخ أم ماين، وجنيف ونيويورك ولوس أنجلس، مع المجال المعاصر لهذا التاريخ الذي تجلت فيه جمهورية فايمار بطابعها الذي يغلب عليه التوجس والريبة، وانتهائها بالنازية وفترة الحرب، وعصر كارثي في الولاياتالمتحدة الأميركية، إضافة إلى الانقلاب الرجعي على خلفية مجابهة الفكر الشيوعي، ثم المرحلة التي تلتها بين الاحتجاج والإصلاح في جمهورية ألمانيا الاتحادية. أما الحديث عن ضروب هذا التمأسس المتباين في إطار هذا التاريخ فتجلت في معهد مستقل، مثل لبنة أساسية للبحث في الملمح السوسيولوجي، المثقل بالروح النقدية الماركسية. وما بقي من المعهد التزم بما يجسده من وجود جماعي، عمد إلى توفير حماية ذات خصوصية لعلماء معينين، واستفاد من أموال الدولة التي خصصت مبالغ مالية للدراسات والأبحاث، وتحملت تكاليفها الباهظة؛ وذلك لكونه معهدًا له خلفية اجتماعية ونقدية (ص 21). أولا: تخطي أزمة الماركسية ألقى هوركهايمر المدير الجديد" الذي تبوأ منزلة الإشراف على معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت، باللائمة على المفكرين وبت ذلك في شكل حكم في كتابه الفجر والانحدار، معتبرا أنهم ذهلوا عن آلام الناس، ولم يرعوها حق رعايتها. وقد كان خطابه حول هذا الأمر بالذات مغرقًا بالمفاهيم الراديكالية التي تعبر عن موقفه من بعض الفلاسفة البرجوازيين الذين كان ينظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار انطلق هوركهايمر في هذه المرحلة من قناعة ذاتية، حاله في ذلك حال زملائه في المعهد ذوي النزوع الثوري، ساعيًا في الآن عينه إلى إيصال هذه الصورة، على الرغم من المجازفات الكبيرة التي كانت تتربص به آنذاك، وكان هذا الأمر في وقت صرّح فيه غرونبرغ وفايل بكل شجاعة عن المسلك الماركسي المحض لمعهد العلوم الاجتماعية، ولعلّ الثقة الكبيرة التي حصلها هوركهايمر كانت بإيعاز من غرونبرغ. وبالنسبة إلى تطور النظرية الماركسية، انبجس وضع مهم مفاده أن هوركهايمر حاول أن يتخطى أزمة الماركسية، وذلك عن طريق جعلها تتعالق مع التقدم الحديث في مجال العلم البرجوازي تحديدا، والفكر الفلسفي عموما، في وقت رفض فيه ماكس فيبر Max Weber (1864 1920)، ومارتن هيدغر أي تنظير فلسفي حول معنى الكون المعطى سلفًا. نجد هوركهايمر يربط بين إنقاذ جورج لوكاش وكارل کورش للعناصر الفلسفية في الماركسية، وإدراج ماکس شيلر، للعلم التجريبي في الفلسفة (ص 66). وعلى الرغم من التغييرات الكبيرة الحاصلة في المدرسة، فإنها لم تُجسد أي قطيعة مع المنجز الخاص بغرونبرغ، ولا حتى من زملائه الذين حملوا لواءه وساروا على نهجه فقد استمر هوركهايمر في العمل البحثي في شتى مناحي الاقتصاد النظري وتاريخ الحركة العمالية، كما أن دورية الدراسات الاجتماعية التي أنشئت في عام 1932، عوضًا عن أرشيف تاريخ الاشتراكية والحركة العمالية المؤسس من لدن غرونبرغ أثبتت من ناحية النشر وشكل الإصدارات المنحى الاستمراري لهذا الفكر، وفتحت المجال لقسم الدراسات المعمّقة والنقد المنهجي، متجاوزة المجال المحصور الذي كان يبحث فيه غرونبرغ لكن مع تحول نقطة الارتكاز، عمل المعهد وركز أكثر على نظرية المجتمع، وليس تاريخ المجتمع فحسب، كما تحوّلت موضوعات البحث إلى مناحي تداخل الاختصاصات، ولم يمارس العمل الجماعي إلا بصورة هامشية. فكان لا بد من أن يظهر العمل لأولئك الذين لم يساهموا في إنجازه، وذلك في مجال رحب (ص 67). إن الإضافة التي جاء بها هوركهايمر، بعد أن خلف غرونبرغ في منصبه الجديد، لم تتطلب منه كثير عناء، بل انصب عمله أكثر على تحوير المخطط الموضوع من طرف غرونبرغ، لجعله يتواءم والنظرية الاجتماعية العابرة للتخصصات العلمية وتنظيمها أكثر، بحكم أن الوضع الفلسفي والتاريخي الذي انصبت فيه الجهود السابقة عنه، والتي تركزت على إنتاج نظرية مجتمعية، يتسم بالتمايز الذي ستتمخض عنه تبعات كبيرة تماسف بين البحث الإمبريقي والتفكير الفلسفي الرصين. كما أن الرؤية الهوركهايمرية التي واصل من خلالها فلسفته، تدين بصورة أو بأخرى للماركسية، من حيث المبادئ التي قامت عليها، وأيضا من حيث روح المنهج عدم التقيّد بشكلها الحرفي ومقولاتها الكلاسيكية التي صبّت جام غضبها على الرأسمالية، بوصفها لكنه سعى إلى نمط اقتصادي يعتمد البنية الفوقية والأيديولوجية بشتى ضروبها، لأن الماركسية تأسست على نقد العلاقات المغتربة، التي تجعل الإنسان مغتربا في مجتمع صناعي قائم على الشمولية والتقنية. ولا بد من التنبيه هاهنا إلى أن المنبع الأساسي للمسلك النقدي للمدرسة، لم يكن هو النظرية الماركسية في منحاها العام، بقدر ما كان الأمر متعلقا بأحوال معينة وحسب، إضافة إلى تأثرهم العميق بتجربة كارل ماركس الشاب الذي عرفوه من خلال مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية عام في باريس، مدركين بعدها أن الرأسمالية كانت كارثة تتربص بالإنسان، وأن نقدهم لها، يجب ألا يكون مرهونا بالإصلاح الاقتصادي والسياسي فحسب، بل يتطلّب الأمر ثورة شاملة عليها، وعلى كل شيء يمثلها، سواء عقلانيتها أو ادعاؤها التنويري. وليس ببعيد عن التوجه الفلسفي لهوركهايمر، زميله ثيودور آدورنو الذي كانت طفولته محمية بصورة كبيرة، وتربى على مسلك فني خالص تشبع فيه بالتربية الموسيقية، كما حصل إلماما واسعا بفلسفة التاريخ وأفكار عصره (ص 102). وأيضا هربرت ماركوزه الذي تشبع بفلسفة جورج لوكاش ومارتن هيدغر، وفلسفة الجمال الهيغلية، وكان لهؤلاء الفلاسفة تأثير واضح فيه باعتبارهم فلاسفة اغتراب وتشيؤ، كما كان لهم صيت ذائع في عشرينيات القرن العشرين (ص (142) يوافق أدورنو وماركوزه هوركهايمر في التوجه الفلسفي العام الذي سلكته المدرسة النقدية، إلا أن اهتمامها كان فنيًا جماليًا بصورة خاصة، ومتعالقا في الآن عينه برؤيتهم الإجمالية، ونقدهم الراديكالي للواقع السياسي والاجتماعي القائم آنذاك، وعلى وهاد العقلانية التي استعانت بآليات جديدة للتحكم الأداتي التي جعلت من الإنسان مجرد آلة محروما من حريته، وتمنحه في المقابل حرية زائفة، تتوارى خلفها ضروب القمع والسيطرة وإغراقه في الاستهلاك، ليصبح بعدها مجرد شيء من الأشياء، كما أن القمع الذي تعرّض له الإنسان لم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ أشكالا جديدة لم تعرف الإنسانية لها مثيلاً من قبل، بحيث مسّت هذه السيطرة جوانبه السيكولوجية والعقلية والجسمية والاجتماعية وجعلته يتكيف مع الحياة الجديدة، وهذا ما دفع بأدورنو وماركوزه إلى القول بالبعد الجمالي وسيلة للتحرير والانعتاق من أغلال التشيؤ، وخلاصا من العقلانية الأداتية التي أحكمت قبضتها وسيطرت على الإنسان، فالجمالية هي البعد الأوحد الذي سينقذ الإنسان وينقله إلى وضعه الإنساني الأصلاني الجديد، بحيث يصبح والجمال قوة احتجاج ثورية، ونقدا جذريًا للواقع القائم. وتكون الجمالية على إثر ذلك تمثيلاً واضحا للوظيفة النقدية الأساسية لما هو قائم داخل المؤسسات السياسية التي تكرس الهيمنة، فتمارس تلك الوظيفة عملية النقد والاحتجاج وترسم صورة الإنسان الحر. غير أن هذا الأمر لا ينطبق على الجمالية الماركسية الأرثوذكسية التي دافعت عن الواقعية الاشتراكية، وجعلت من العمل الفني الأصيل عملا نابعا من الطبقة الكادحة، فمن التزامات الفنان الأساسية أن يعمد إلى التعبير من خلال أعماله الفنية والجمالية عن مصالح هذه الطبقة وحاجاتها. وبعد أن أحكمت النازية سيطرتها على ألمانيا، مع صعود الفوهرر إلى الحكم سنة 1933، لاذ هوركهايمر وزملاؤه بالفرار من ألمانيا إلى سويسرا وفرنسا وبريطانيا وبعدها إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، وقد حذر هوركهايمر وزوجته بعد أن احتل رجال الأمن النازيون بيته وبيت بولوك، وحولوهما إلى مكان حراسة مشدّدة فاضطر هوركهايمر إلى المبيت في فندق قريب من بيتهما السابق، وكان حينها يسافر بين الفينة والأخرى إلى منزله في مدينة جنيف، كما غير في طبيعة ما كان يلقيه من محاضرات في الجامعة، بحيث انحصرت في الحديث عن مداخل في الفلسفة، ومفهوم الحرية، وتراجع عن الكثير مما كتبه في مؤلفه الفجر. وفي 13 مارس فتشت الشرطة معهد العلوم الاجتماعية وأغلقته، ووضعته تحت تصرف الطلبة النازيين (ص 187-188). حينها شرع هوركهايمر وزملاؤه في تأسيس فروع أخرى للمعهد في باريس ولندن، ومن بعد ذلك في جامعة كولومبيا، إلا أن الوضع السياسي المضطرب الذي شهدته الولاياتالمتحدة الأميركية آنذاك، جعلهم ينأون بأنفسهم عن استعمال المفاهيم الراديكالية، ويرجع سبب ذلك إلى فقدانهم الأمان والثقة في الطبقة الكادحة في أوروبا والولاياتالمتحدة وبجهدهم تطورت النظرية النقدية لتصبح أكثر انفتاحًا على فلسفة التاريخ والمجتمع مثلما كان الأمر في عصر الأنوار الأوروبية. في تلك الحقبة بالذات عمد الرواد الأولون إلى تقديم أهم أعمالهم وعلى رأسها: السلطة والعائلة، وكسوف العقل، وفي عام 1950، ولما سقطت النازية وأفل نجمها، عاد هوركهايمر وبعض زملائه من أجل إتمام العمل الذي خاضوا غماره من قبل، لتنطلق بعد عودتهم مرحلة جديدة، أو بالأحرى رعيل جديد للمدرسة، من أبرز ممثليه يورغن هابرماس. وتبقى الشخصية المثيرة للجدل من الرعيل الأول للمدرسة متجسدة في شخص فلتر بنيامين الذي شكل حالة استثنائية، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقته مع أدورنو وهوركهايمر، فقد كتب أدورنو قائلا: "إنني أعتبر بنيامين واحدا من أهم القوى التي لدينا، بعد التجارب المحبطة جدا التي عرفناها من جراء محاولتنا أن نكسب قوى جديدة، وواحدا من القلة منهم، ففي حال أحسنًا استخدامه، نتوقع منه الكثير. وأعتبر لهذا أن ذلك مسوغ جدا في إطار المصلحة الموضوعية، عندما يعبر عن ذلك أيضا بوضوح في موقفنا العام" (ص 237). كان بنيامين يميل إلى النقد الأدبي أكثر، وقد انضم إلى معهد العلوم الاجتماعية عام 1935، حينما كان يترأسه هوركهايمر، وقد مات منتحرا عام 1940 بعد أن عجز عن عبور الحدود الفرنسية الألمانية، حيث كان يسعى للحاق بزملائه الفارين من النازية إلى أميركا. وتمكن هذا الفيلسوف من تقديم الكثير من الأعمال الجمالية والأدبية، من أهمها: مفهوم النقد الجمالي في الرومانسية في الألمانية (1920)، وأصول دراما الباروك الألمانية (1925)، والطريق ذو الاتجاه الواحد (1927)، وغيرها من الأعمال. ثانيا: نزاع الوضعية يعد يورغن هابرماس من أهم ممثلي الرعيل الثاني، فقد اتخذ مسلكا نقديًا مغايرا لزملائه في مدرسة فرانكفورت، فمثل معرجا جديدا في توجه المدرسة، على الرغم من أنه شارك أعضاء المدرسة في نقدهم العقل الأداتي ، وكان في وسعه كذلك أن ينهج مسلكهم في الجدل السلبي الذي اتخذه أدورنو فلسفة له، لكنه لم يجد فيه سببًا معينا على تشييد نظرية نقدية متناسقة من الناحية المنهجية، على الرغم من أن الفرصة لإحقاق هذا الأمر كانت ملائمة عندما بحث هوركهايمر وماركوزه، أوائل الثلاثينيات، في الإرهاصات الأولى للفلسفة البرجوازية العقلانية)، ووجدا فيها إمكانات ،عقلانية، كان من الممكن دعمها على يد الطبقة الكادحة. وسرعان ما حوّر هابرماس طريقته في التعامل مع النظرية النقدية التي وضع معالمها الرعيل الأول، وتجلى ذلك في المرحلة الثانية من تطوره الفلسفي، وعمد إلى التصدي لما اعتبر أنه نقطة الضعف المركزية في بنية النظرية والقصور الذي جابهها، معتبرا إياها مفتقرة للأسس المعيارية التي يقتضيها النقد، ومقتصرة على نقد العقل الأداتي من دون أن تتجاوزه إلى نظرية نسقية. يتبع الحلقة الأولى