لا بدّ من السّعي إلى مخرج سياسي للأزمة والتسويق الجيد للقضية الفلسطينية يرى البروفيسور العربي بلعزوز، من جامعة الشلف، أن الاستراتيجية الغربية حققت غاياتها في تحقيق الأمن للكيان الصهيوني عبر مجموعة من اتفاقيات السلام، ولم يتبق أمامها سوى الجبهة الداخلية التي تعمل على احتوائها، وتصفية كل ما يمكن أن يمثل خطرا على أمن الصهاينة، ويقول البروفيسور بلعزوز إن الراهن يقتضي التعامل مع الوقائع بعقلانية، والسعي إلى تحقيق حلّ سياسي للأزمة من خلال التسويق الجيد للقضية الفلسطينية.. البروفيسور بلعزوز لديه أعمال أكاديمية عديدة، وشرّفنا بقبول الإجابة على أسئلتنا بخصوص الراهن.. فكان هذا الحوار. -«الشعب": بروفيسور العربي بن عزوز.. نبدأ من الواقع المعيش.. شعبنا الفلسطيني يقاسي ويلات حرب ظالمة على جبهتين، الأولى بالنيران الصهيونية، والثانية من خلال التجييش الغربي والحملات الإعلامية المكثفة التي تبرر للصهاينة ما يقدمون عليه.. كيف ترى الوضع حاليا؟! -- البروفيسور العربي بلعزوز: في البداية يجب أن نفهم ونعي جيّدا بأنّ نظرة الصهاينة وكل المناصرين لهم منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم إلى فلسطين وإلى الشعب الفلسطيني تختلف اختلافا جذريا وجوهريا عن نظرة الفلسطينيين والعرب والعالم الإسلامي للقضية الفلسطينية. وأقصد بذلك، بأنّ زعماء الصهاينة الأوائل وفي مقدمتهم هرتزل تيودور استغلوا ثغرات تاريخية (نهاية القرن 19 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945) مستغلين في ذلك غياب القوى العربية لأسباب مختلفة (الاستعمار والخضوع للحماية في الغالب) وتوفرهم على مقدّرات مادية وبشرية هائلة، حيث قاموا بزرع وجهة نظرهم وسط الدول والشعوب ذات الوزن الدولي الكبير، إلى أن باتت إلى اليوم تؤمن إيمانا راسخا بذلك الطرح أو الرؤية، وبطبيعة الحال تحمي هذا التوجّه مؤسسات اقتصادية وإعلامية، وبالتالي أحزاب سياسية كذلك. بينما الموقف العربي الذي يقضي أو يقول بأن فلسطين عربية، لا يؤمن به أحد في تلك المجتمعات السالفة الذكر؛ لأن الصهاينة أكسبوا لأنفسهم نفوذا ولموقفهم مصداقية وبشتى الوسائل. وللإجابة على سؤالكم؛ وانطلاقا ممّا سبق فإنّ الحرب الظالمة بالمنظور العربي هي مشروعة، بل لا بد منها عند الطرف الآخر. كما أن تبرير الاعلام الغربي لما يقوم به الصهاينة، أو إخفاء ذلك على الرأي العام هو رسالة نبيلة بل مقدّسة بالنسبة لهم. - من العجائب أن مجلس الأمن تلقى مشروع قرار روسي بتوقيف إطلاق النار، بالنظر إلى الأوضاع اللاانسانية التي يعيشها الفلسطينيون، غير أن القرار أسقط ب«الفيتو" الأمريكي.. كيف يمكن للهيئة التي يفترض فيها أنها أعلى شعار للإنسانية، أن ترفض القيم العليا التي تتأسس عليها، وتفسح المجال لمواصلة جريمة الإبادة التي يقدم عليها الصهاينة بدم بارد؟! ^^ كان لروسيا، وللاتحاد السوفياتي قبلها، مواقف مشرفة لنصرة بعض القضايا العادلة في مناطق شتى من العالم، وأنّ روسيا حاليا، بعد تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على علاقاتها بالمجتمع الغربي، الداعم للصهاينة في الغالب، تثابر على ذات التوجّه الإنساني والعادل، لكن القوى الداعمة للكيان الصهيوني وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت في كل مرّة تعارض كل القرارات والتوصيات التي تصبّ في مصلحة فلسطين والشعب الفلسطيني (أكثر من 100 قرار حسب المتابعين). وفي ظل تعنّت الغرب وتصلّب موقفه، قد تحنّ روسيا إلى الماضي وقد ينتهي الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) إلى تهديد الكيان الصهيوني عسكريا كما حدث ذلك سنة 1956، حينما تعرّضت مصر إلى العدوان الثلاثي (الفرنسي، البريطاني الصهيوني)، إذا استمرّت الاعتداءات وتوسّع نطاقها وتضاعفت آثارها البشرية بالخصوص. كما أن رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ الرئيس (وودرو ولسن) الذي أبدى دعمه وموافقته لوعد بلفور المشؤوم شهر أوت 1918، ومنذ ذلك التاريخ والرؤساء الأمريكيون يعملون على تجسيد فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وهم مستمرون بعد 1948 في تأييد ونصرة ومساعدة الكيان الصهيوني بكل الوسائل، ومستعدّون إلى أكثر من ذلك. -- ما الذي يجعل دولة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية تناصر الكيان الصهيوني بكلّ هذا العبث؟! هل هناك مسوّغات تاريخية تفسر السلوك الأمريكي المنكر للحق الفلسطيني؟! --- ما يهم الصهاينة اليوم هو تأمين دولتهم من أي خطر ممكن، وكما يعلم الجميع فإنّ الاستراتيجيات الغربية تمكّنت من تحقيق نجاحات في هذا المجال في سوريا والعراق بالخصوص، وكذا عبر توقيع اتفاقيات سلام مع جمهورية مصر العربية والمملكة الهاشمية قبل ذلك. ما بقي لهم هو تصفية الجبهة الداخلية من كل ما من شأنه أن يهدّد أمن دولتهم مستقبلا؛ وكانت منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة من التاريخ هي ذلك العدو إلى غاية فترة بداية الثمانينات. أما خلال السنوات الماضية إلى غاية اليوم فالعدو الذي يجب اجتثاثه، مهما كلّف الأمر، هو حركة حماس وفصائلها المسلّحة خاصة بعد عملية طوفان الأقصى الجريئة، والتي أثبتت بالنسبة للصهاينة وحلفائهم بأن الضربات التي وجهت إليها سابقا وخاصة سنة 2014 لم تكن كافية، وعليه فإن العملية التي نحن بصددها لا حدود لها من حيث القوّة والزمن، يحدوهم في ذلك أمل تحقيق الانتصار النهائي على المقاومة الفلسطينية عسكريا أو عبر طردها إلى خارج فلسطين مع المدنيين إلى سيناء المصرية. هذه هي الرؤية التي أراها اليوم، والقراءة التي يمكن اعتمادها بالتصوّر الصهيوني - الأمريكي - البريطاني، وما الأرمادة البحرية التي هي في طريقها إلى المنطقة ما هي إلا جزء من هذا السيناريو، عبر تكثيف الطلعات الجوية بشكل لا يطاق لإضعاف المقاومة قدر الإمكان قبل الهجوم البري المرتقب. - المعروف تاريخيا أن اليهود كانوا منبوذين في العالم الغربي، وصورة اليهودي "شايلوك" التي صاغها شكسبير في "تاجر البندقية"، بقيت وحدها مهيمنة على المخيال الأوروبي، حتى إن اليهود لم يجدوا من يرحمهم في العالم سوى المسلمين.. كيف انقلبت الصورة كي يصبح المسلمون والعرب وحدهم الأعداء؟! -- بالفعل كان اليهود إلى غاية نهاية القرن 19 منبوذون في مناطق شتى من العالم خاصة في أوروبا، لكن العقل اليهودي والفكر الصهيوني تمكنا من تغيير ذلك الموقف وتلك النظرة الدونية إلى نظرة عطف ورفق، ثم إلى نظرة نصرة وتأييد من خلال انتهاز كل الأزمات التي تعرّض لها اليهود في العالم كأفراد أو كجماعات في أوروبا: كاتهام اليهود بقتل القيصر (الكسندر الثاني) في روسيا سنة 1881، وقضية الضابط الفرنسي من أصول يهودية (دروفيس) سنة 1894، وطرد 12000 يهودي من فلسطين سنتي 1914-1915 من قبل الدولة العثمانية، ولعلّ آخرها موقف النازية من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. يجب أن نعلم بالموازاة مع هذا بأن الجاليات اليهودية في أوروبا والولاياتالمتحدة بالخصوص يملكون كفاءات عالية وإمكانيات مادية وبشرية معتبرة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. - كانت مدينة غزةالفلسطينية على مدار تاريخ المؤامرة الصهيونية موقعا لمعارك ضارية، وتمّ استهدافها مرات عديدة.. هل هناك في التاريخ ما يشرح التكالب الصهيوني على هذه المدينة بالذات، ويجعلها هدفا استراتيجيا لتوطيد احتلاله لفلسطين؟! -- ليست غزّة هي المستهدفة بالذات دون غيرها، وإنّما المستهدف هو المقاومة أينما كانت وحيثما وجدت، وليس لهذا أيّة علاقة بشواهد تاريخية أو غيرها. لكن ما يخشى منه هو استعمال الحرب الدائرة اليوم، وما قد يسفر عنه الهجوم البرّي المرتقب من تهجير قسري لسكان غزّة إلى صحراء سيناء المصرية، إن قبلت مصر بذلك بإغراءات أو بضغوطات، وأنا أشك في ذلك من قبل القيادة المصرية.
- أحدثت مجزرة مستشفى المعمداني بمدينة غزّة، صدمة عالمية، حتى أن بعض حلفاء الكيان الصهيوني، اضطروا تحت غطاء الإنسانية إلى التعبير باستحياء عن ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، غير أنهم في الغالب يحملون المسؤولية للفلسطينيين بأساليب فجّة للغاية.. كيف اكتسب الصهاينة هذا المستوى من الوحشية؟! -- يبدو أن الصهاينة يتعاملون مع المقاومة بمبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة"، فالإنسان الفلسطيني لا يساوي الصهيوني في القيمة، ولا أدلّ على ذلك من أن الكيان الصهيوني في هجومه على غزّة سنة 2014 قتل من الفلسطينيين 27 فردا عن كل يهودي، وهو أمر مهول. هذا يدفعنا إلى التخوّف من أن الفاتورة البشرية من المدنيين ستكون كبيرة خاصة وأن عدد القتلى الصهاينة فاق 1000 شخص بكثير. ما يمكن أن نشير إليه في الأخير هو وجوب السّعي لإيجاد مخرج سياسي للأزمة عبر استغلالها استغلالا عقلانيا وناجعا من أجل التسويق لعدالة القضية الفلسطينية وذلك في الدول الغربية بالخصوص للتأثير على الرأي العام بها، تماما كما استغل اليهود مآسيهم في فترة ما لتغيير موقف الشعوب والساسة الغربيين من قضيتهم. وأقول هذا في ظل تعذّر الحل العسكري، رغم تحمّس الشعوب العربية لذلك، لأن ذلك سيؤدي إلى كارثة غير مسبوقة، بل قد يتسبب في حرب عالمية أخرى؛ أي أن التعاطي مع القضية الفلسطينية ليس كالتعامل مع الحرب الأوكرانية الروسية، رغم أن الحل ربّما يكمن لدى هذه الأخيرة، إذا غاب العقل والتعقّل والعقلانية لدى الغرب الداعم للصهاينة، واستمروا في همجيتهم وبربريتهم وظلمهم.