بعد قيام الثّورة التّحريرية المجيدة في غُرّة نوفمبر 1954، وامتداد جذورها في مختلف أنحاء البلاد، واشتداد ضربات جيش التحرير الوطني واتّساع نطاق عملياته العسكرية، وتكبيده العدو خسَائر فادحة لم تكن في الحسبان، قام الجيش الفرنسي وفي ظرف قياسي ببناء وتشييد مئات المحتشدات والمعتقلات والثكنات، وأبراج المراقبة والحراسة ومراكز التعذيب والاستنطاق المروِّعة..كما عمد إلى إنشاء عديد المدارس العسكرية المتخصصة في فنون التعذيب والقمع..التي شهدت على وحشية الاحتلال ودموية ضباطه ورجال أمنه واستخباراته، وعكست الصورة البشعة التي يتميّزون بها. وقد أشار إلى هذه الحقيقة أحد الضباط الفرنسيين من المنصفين؛ وهو بيار اليولات،الذي أكّد أن بلاده فرنسا «قامت بتأسيس مؤسسات التعذيب أكثر من تأسيسها لمدارس التعليم ومستشفيات المرضى، إذْ يُوجد في كل ثكنة جناح خاص للتعذيب مجهّز بأحدث الوسائل». كما عبّر عن هذا الإجرام الضابط الفرنسي بوتواري في مذكراته المعنونة ب (كُنّا وحوشا تقودنا حُثَالة)، والتي تمّت مصادرتها بفرنسا سنة 1960، لتُنشر لاحقا في حلقات بيومية (العالم Le Monde). وكذا الكاتب الفرنسي الشهير جون بول سارتر الذي رفض تسلّم جائزة نوبل في الأدب سنة 1964، في كتابه (عارُنا في الجزائر)..كما اعترف المؤرخ الفرنسي بيير فيدال نوكيه بأنّ هناك «مئات الآلاف من حالات التعذيب» التي مارسها الجيش الفرنسي..وغيرهم، كاعتراف منهم بوحشية بني قومهم الفرنسيين بالجزائر. وقد انتشرت هذه المراكز كانتشار الفطر، متجاهلين حظر القانون الدولي لحقوق الإنسان ممارسة أي شكل من أشكال التعذيب والمعاملات القاسية، وكذا الاعتداء على كرامة البشر، باعتبار ذلك سلوكا منافيا لحقوق الإنسان ومُدانًا من قِبَل كل الشرائع والأعراف الدولية، كما حَظَر التعذيب ومختلف الممارسات السيئة، وتمّ تكريس هذا المنع في نص اتفاقيات جُنيف لعام 1949، التي وَقّعت عليها آنذاك مجموعة من الدول بما فيها فرنسا، مع بروتوكوليها التكميليين لعام 1977، وكذا ضِمْن اتفاقية مناهضة التعذيب والعقوبة القاسية لسنة 1984. رغم أنّ التعذيب - بصفة عامة - لم يقتصر على فترة الثورة التحريرية فحسب بل كان جزءا من النظام القائم منذ تدنيس الجيوش الفرنسية الغازية أرض الجزائر سنة 1830 إلى غاية دحرها خلال عام 1962، هذا النظام الذي أقرّ به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصفة رسمية بتاريخ 14 سبتمبر 2018 في سياق اعترافه بتعذيب المناضل من أجل القضية الجزائرية موريس أودان حتى الموت. مركز التّعذيب بالرّبّاح.. عرفت منطقة وادي سوف إبّان الثورة التحريرية إقامة مراكز للتعذيب الممنهج والمقنّن، تمثّلت أساسا في مراكز: الوادي والدبيلة وحوش البشع بالنخلة والدريميني بالمقرن والرباح والرّقيبة..والشهيرة باسم (لاَصَاصْ)، وقد شُيّدت على أكتاف السجناء المجاهدين وعموم المواطنين ودوابهم، في إطار أعمال السُّخرة المطبّقة عليهم من قِبَل الفرنسي باعتبار أن وادي سوف كانت تخضع للنظام العسكري المفروض على المناطق الصحراوية، وهذه المراكز موزّعة بشكل منظم عبر إقليم الولاية لتغطية جميع أجزائها، وكان يشرف عليها ضباط الشؤون الأهلية المتخرّجين في المدارس العسكرية الفرنسية الخاصة بالتعذيب وممارسة الجرائم الفظيعة. يؤكّد عديد المجاهدين الذين التقيناهم ببلدية الرباح، أن هذه الثكنة التي اشتهرت باسم (لاَصَاصْ) أو (ثكنة عْميش)، وضمنها ثلاث سكنات لإقامة قائد الثكنة ومساعديْه ومكتب الشؤون الأهلية والسجن العسكري ومركز التعذيب وبرج المراقبة قد شُرع في تشييدها مباشرة عقب معركة الدبيديبي، التي جرت وقائعها بتراب بلدية الرباح بتاريخ 15 جانفي 1956 بقيادة الشهيد العربي فرجاني، والصدى الواسع الذي أحدثته، وما نتج عنها من التحاق مجموعات من الشبان بصفوف الثورة؛ سواء كمجاهدين مسلحين أو مناضلين مدنيين، حينها أدرك العدو خطورة المنطقة على وجوده واستقراره، وأيقن بضرورة إقامة هذه الثكنة بلواحقها. وقد باشرت الإدارة العسكرية للعدو في عملية بنائها في أواخر سنة 1956، لتنتهي الأشغال بها سنة 1957، لتدخل حيّز الخدمة كثكنة وإدارةٍ وسجنٍ ومركزٍ للتعذيب والتنكيل والاغتصاب..وكانت تابعة لجهة الواحات الشرقية التي كان مركزها بتقرت بقيادة النقيب طوماس Capitaine thomas. أما تسييرها مع جميع ملحقاتها، فكان من قِبَل السفاح النقيب جون بيار كُورْنُوبْوَا Capitaine jean pierrecornebois،الذي عُرف بإجرامه وحقده الدفين وبغضه الشديد للجزائريين، لذلك عَرف هذا المركز في عهده الإجرامي عمليات إعدام واسعة، وأساليب تعذيب رهيبة، وممارسات وحشية..وقد استمرت هذه الثكنة ومركزها للتعذيب في الخدمة إلى غاية وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962. من أساليب ووسائل التّعذيب على غرار كل مراكز التعذيب والاستنطاق التي أقامها الجيش الاستعماري خلال الثورة التحريرية عبر الوطن، فقد تفنّن ضباطه وعساكره في تنويع أشكال التعذيب الوحشي في حق نُزَلاء هذا المركز، سواء كانوا من بلدة الرباح والبلدات القريبة منها، أو من مختلف أنحاء منطقة وادي سوف..أساليبٌ ونماذج من الاستنطاق والتنكيل والتعذيب التي لا يمكن حصرها، وهذا قبل عمليات القتل والإعدام؛ ومن ذلك الضرب المبرّح والتعذيب المتواصل الذي كان يُسلّط على المعتقلين، واستخدام الماء، حيث يعمد الجلاّدون الذين تخرّجوا من أعتى الكليات والمدارس الحربية الفرنسية، وتدرّبوا على يد أمهر أساتذة التعذيب في العالم، إلى ربط الضّحيّة سواء كان مجاهدا أو مدنيا بكيفيات ووضعيات مختلفة، ثم يُمدّ أنبوب من الحنفية نحو فمه حتى يمتلئ جوفه! كما يُشدّ وثاقه ويُلقى بِهِ في حوض مملوء بالماء والصابون، ويقوم الجلاّد بغطس رأسه ووضعه داخل هذا الماء، ثم يتم رفعه ويُرغم على شربه..وتستمر العملية حتى يُصاب المعتقل بالإغماء والاختناق بالماء بسبب امتلاء جوفه، مع الضرب العنيف والتنكيل المصحوب بالشتائم وكل أنواع الإذلال والإهانة..وغالبا ما استشهد عديد المعذّبين جرّاء هذا الأسلوب الوحشي النازي الفرنسي. كما نال آخرون التعذيب بالكهرباء في المناطق الحساسة من أجسامهم، حيث تُنزع جميع ثياب المعتقل ويوضع على طاولة حديدية وهو مكتوف الأيدي والأرجل، ويتم رَشّه بالماء أثناء استخدام الكهرباء، حتى يكون مفعول التيار أكثر إِيلاَمًا وفعالية وسادية، ويوضع السلك الكهربائي على أذنيه كمرحلة أولى، ثم يمرّر على بقية أعضاء جسمه، لاسيما الحسّاسة منها. وينتج عن هذا التيار ارتجاج في المخ، ممّا يتولّد عنه في أحايين كثيرة الانهيار العصبي والجنون وفقدان الذاكرة للمعذّبين. والشواهد على ذلك كثيرة، إلى جانب الجلد والكي بالنار حتى الموت، فلا تسمع إلا الصراخ والتأوهّات والآلام..حتى يتحول جسد السجين إلى مُلْك للجلاد الإرهابي يتصرف فيه كيفما يشاء، دون إغفال التعذيب النفسي من خلال حرمان المعتقلين من النوم والراحة، في ظل رداءة الطعام المقدّم والنقص المتعمّد في مياه الشرب الذي يُحرمون منه في أحايين أخرى، في إطار الحرب النفسية على الشعب الجزائري لإحباط معنوياته واستعداداته، في محاولة يائسة لانتزاع اعترافات وإرهاب المواطنين وتخويفهم من آلة القمع الفرنسية، وقصْد الحصول على معلومات للتصدي للعمليات الفدائية وضبط حركة المجاهدين والمناضلين. وما يتميز به مركز التعذيب بالرباح وجود زنزانات وغرف صغيرة الحجم جدا، ومظلمة وضيّقة لا تتعدى مساحتها 10م2 (وقَفْنا على وضعيتها في زياراتنا لها أثناء مراحل إعادة الترميم وتشييد المتحف التاريخي)، ويوضع فيها معتقلون كُثُر في حالة اكتظاظ خانقة..وهذا تعذيبٌ من نوع آخر. وبالرغم من هذه الأساليب الوحشية التي مُورست في حق شعبنا داخل هذه المراكز الرهيبة، إلا أنها لم تَزِدْه إلا صلابة وقوّة وإيمانا بعدالة قضيته، والتفافه حول قيادة ثورته وممثليها الشرعيين ومساندتهم المطلقة، كما زادت في رَبَاطَة جَأْشِه وصموده الأسطوري في وجه آلة الاستنطاق الفرنسية، وأساليب التعذيب الوحشية اللاإنسانية التي كانت تُمَارس في حقه. مركز الرّبّاح..من فضاء للتّعذيب إلى متحف تاريخي للإشارة، فإنّ هذا المركز بعد الاستقلال، وتحديدا عام 1963 حُوِّل إلى مقر لحزب جبهة التحرير الوطني إلى غاية سنة 1979، ومنذ عام 1980 أضحى مقرا للتعاونية الفلاحية للخدمات والتموين إلى غاية 1985، وخلال عام 1987 شهد عملية ترميم وتجديد واسعتين ليتمّ تحويله إلى مقر لدائرة الرباح التي تضم بلديات: النخلة، العقلة والرباح. وخلال هذا العام 2023، وبمبادرة من والي ولاية الوادي، السيد السعيد أخروف، تمّ تحويل مركز التعذيب وأطلال سجن ثكنة الرباح إلى متحف تاريخي؛ كشاهد على حقبة مظلمة من حقب توحّش الاحتلال الفرنسي وجرائم الحرب التي ارتكبها في حق شعبنا، وهذا بعد أن كان آيِلاً للسقوط ومُعَرَّضا للتلاشي، بعد انهيار عدد من جدرانه وأعمدته وأسقفه، وبالتالي كنا سنفقد جزءا من تاريخنا وذاكرتنا الوطنية. وقد خصّصت الولاية لهذا الغرض غلافا ماليا لإعادة الاعتبار له وترميم بناياته، ممثلة في مجموعة الزنزانات الفردية والجماعية والبئر التي كان يُرمَى داخلها المجاهدون والمناضلون بعد إعدامهم، وتُعرفُ محليا باسم (المقصلة)، إلى جانب مكاتب الإدارة العسكرية لهذه الثكنة. وقد أصرّ السيد والي الولاية أن تضمّ هذه الزنزانات والغُرف لوحات ومجسّمات وأشياء متحفية تعود إلى مراحل تاريخ الجزائر المعاصر، ليتم توزيعها عبر زنزاناته كالتالي: (مجموعة 22 وبدايات الثورة على المستوى الوطني، الأعمال الثورية للولاية السادسة التاريخية وقادتها، وادي سوف ونشاطها الثوري، تاريخ دائرة الرباح)، ولهذا الغرض، تم عرض مجموعة من اللوحات لقادة الثورة ورموزها وشهدائها وأبرز معاركها، مع مجموعة من الكتب والمطبوعات والوثائق والصور التي تكفّلت بها مديرية المجاهدين وذوي الحقوق والمتحف الولائي للمجاهد بوغزالة حمد الهادي لولاية الوادي وبلدية الربّاح. وخلال الاحتفال بذكرى ثورة غرّة نوفمبر 1954 هذا العام 2023، وبعد انتهاء الأشغال، تم الوقوف الميداني على هذا المشروع التاريخي الضخم، ومعاينة جميع أجنحته وغرفه وزنزاناته ومكاتبه من قبل السيد والي الولاية والسيد حسني عز الدين رئيس المجلس الشعبي الولائي والسلطات المحلية المدنية والعسكرية، والسادة أمناء منظمات الأسرة الثورية ونخبة من المجاهدين وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين وأفواج الكشافة الإسلامية، وجمْع من المواطنين والتلاميذ الذين استحسنوا جميعهم هذا المشروع التاريخي الضخم، والأول من نوعه بالمنطقة صيانةً لتاريخنا ولذاكرتنا الوطنية بوجداننا الجمعي. لوحة فنيّة توثّق لمراحل المقاومة والنّضال الوطني وتمّ بالمناسبة إنجاز جدارية فنية ضخمة وسط هذا المَعْلم التاريخي، أبدعتها ريشة الفنان بوترعة أحمد الذي وثّق من خلالها لمراحل النضال الجزائري ضد الغزاة الفرنسيين، بدءا بمرحلة المقاومات الشعبية المسلحة التي استمرت لمدة قاربت 100 عام، مرورا بنشاط الحركة الوطنية وروافدها المتعددة ومشاربها المختلفة؛ من أحزاب سياسية وجمعيات ونوادٍ ثقافية وصحافة وكشافة إسلامية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وانتهاءً بملحمة نوفمبر 1954 الخالدة التي غيّرت مجرى التاريخ الوطني.