بقلم:: محمد الصادق مقراني كانت سياسة التعذيب إبان الاحتلال الفرنسي تنفذ في إطار واسع من قبل الجيش ورجال الشرطة، وفق تقنيات مدروسة ومؤسسة بغية الحصول على المعلومات وفي أسرع وقت، هذا في وقت كانت تنفي فيه فرنسا رسميا كل صلة لها بعمليات التعذيب، وهي التي كانت تتبجح بكونها حامية لحقوق الإنسان في العالم. إن أبرز مثال لسياسة الوحشية الفرنسية أثناء الثورة التحريرية المجيدة، يتمثل في سياسة التعذيب وفرق الإعدام ومراكز التعذيب والمعتقلات والمحتشدات. ومن السجون التي كانت قائمة حتى قبيل الثورة سجن "تازولت" في باتنة المعروف بالمبيز، وسجن سركاجي، ومعتقلات الضاية بوسي Bossuet سابقا، وبوخنيفيس ضواحي بلعباس، وسجن تادميت، ومعتقل الجرف الرهيب، وسجن المرسى الكبير العسكري بوهران، معتقل برج منايل، وسجن عين وسارة Paul cazelles، إضافة إلى سجن النخيل الخمس palmiers cinq Les قرب أولاد فارس منطقة الشلف. لكن ما يهمنا هي السجون والمعتقلات غير الرسمية، التي لم تكن تعمل وفق قانون تأسيسي وغير معترف به قانونا، يتمتع مسؤولوها وجلادوها بحصانة قانونية تحميهم من المتابعة والمساءلة القانونية، ويتمتعون بجميع صلاحيات التعذيب والتقتيل، والأدهى أن جميع السلطات المدنية والعسكرية كانت على علم بوجود هذه المراكز، لكنها كانت دائما تنفي وجودها، ولعل هذه المراكز كانت في الغالب أملاك خاصة غير حكومية "فيلات"، مثل فيلا سوزييني Susini Villa في العاصمة التي تحوّلت إلى مركز القيادة غير الرسمي لوحدات اللفيف الأجنبي، ومثلت أبشع مراكز التعذيب الفرنسية إبان الثورة التحريرية في الجزائر العاصمة، إضافة إلى معتقل مزرعة شوني Chaunu في البليدة، ومزرعة رو Roux في وادي تليلات، ومزرعة شار Char في بلدية زهانة، والتي كانت في الغالب عبارة عن ملكيات خاصة غير تابعة للإدارة الفرنسية صودرت أوهجرها مالكها من الكولون بعد تردي الأوضاع الأمنية إبان الحرب التحريرية، وبذلك سهل على الجيش الفرنسي الاستيلاء عليها وممارسة أبشع وسائل التعذيب بين أسوارها. مزرعة أمزيان نموذجا يرجع الفضل في الحديث عن هذه المزرعة للكاتب الفرنسي، بيار فيدال ناكي، الذي كتب مقالا في 9 ماي 1961 حول ما كان يحدث بها من تجاوزات خطيرة، وهذا بناء على تقرير أرسل له من قبل مجموعة من المجنّدين كانوا بها. الكاتب معروف بمواقفه المعادية للسياسة الاستعمارية بالجزائر، وسبق له وأن أصدر العديد من المؤلفات والمقالات، منها ما كتبه انطلاقا من إحدى شهادات صديقه روبار بونو، حول التعذيب في أفريل 1957، وكتابه حول قضية موريس أودان سنة 1957، وكتاب آخر بعنوان التعذيب في الجمهورية، صدر سنة 1962. كتاب مزرعة أمزيان لجون لوك اينودي أول من كتب كتابا عن هذه المزرعة، هو المؤرخ والكاتب الفرنسي، جون لوك اينودي، سنة 1991، وهو من قام بالإدلاء بشهادته أثناء محاكمة موريس بابون في سنة 1997، بمحكمة بوردو. نشر 12 كتابا كلها خصصت للحديث عن الثورة التحريرية، ويطلق عليه بمؤرخ الثورة الجزائرية، ومن أهم كتبه قضية فرند ايفطون 1986 ومعركة باريس 1991، وكتابه الذي سلط الضوء على أهم مركز للتعذيب بقسنطينة، والمعروف بمزرعة امزيان، والذي صدر سنة1991. هذه المزرعة التي تقع في الضواحي القريبة من مدينة قسنطينة، تتكون من بعض الهكتارات الفلاحية تتوسطها فيلا بطابق واحد، وحولها إسطبلات، وعلى يمين الباب مباشرة مكان مخصص لربط كلاب الحراسة. تمت عملية مصادرتها من طرف الكتيبة 27 للمشاة، وذلك في شهر أفريل 1958 والتي أنشأت بها مراكز للمعلومات والعمليات "CRA Centre de Renseignement et d'Action′′، وتمت عملية تكييفها حسب متطلبات إيواء الجنود بعدما اتخذ المسؤول النقيب روديي Rodier Capitaine من الطابق الأول من الفيلا مسكنا ومقرا له، كما تحول الطابق الأسفل إلى مركز لاستنطاق، وتحولت الإسطبلات إلى سجون، كما تم تخصيص مكان للترفيه عن الجلادين يحتوي على حانة وقاعة سينما. كانت ملكية المزرعة تابعة لعائلة أمزيان، اسمها الحقيقي بن حمادي، ترجع أصولها إلى منطقة القبائل، ويقال إن أصولها تنحدر مباشرة من عائلة المقراني، وكان الباشاغا أمزيان، صاحب المزرعة، من أعيان وأثرياء مدينة قسنطينة، ويحظى بصدقات مميزة مع شخصيات السياسية والمدنية الفرنسية، تحصل على وسام الشرف، كما كان معروف بأعماله الخيرية، وقد كان متزوجا بامرأتين، الأولى جزائرية أنجبت له مولود، وأخرى فرنسية أنجبت له مونيك. واستطاع الباشاغا امزيان، أن يحول مزرعته إلى مزرعة نموذجية، وبعد اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، اضطر الباشاغا أمزيان إلى الاستقرار في فرنسا، وترك إدارة أعماله في الجزائر إلى ابنه مولود، الذي سوف يساهم بدعمه للثورة الجزائرية ماديا، هذا الأخير الذي ترك شؤون إدارة المزرعة لشخص يدعى مالك ماز، الذي بدوره ساهم في دعم الثورة عبر نقل المعلومات والرسائل إلى جيش التحرير، كما كان أحيانا يأوي المجاهدين، ولهذا السبب سوف تقوم فرنسا بمصادرة المزرعة، واعتقال مالكها مولود أمزيان، والمسير مالك ماز. وبعد التأكد من تورط مولود أمزيان في أعمال دعم ومساندة الثورة، اقتحمت القوات الفرنسية المزرعة، وذلك في شهر ماي 195، وقامت بتعذيب مولود امزيان الذي سجن بها. وفي تلك الفترة شهدت ثورتنا المظفرة انتصارات كبيرة ومتعددة على كافة الجبهات وكسبت امتدادا شعبيا كبيرا، الشيء الذي دفع بجاك سوستال، دعوة نساء الجزائر نزع خمارهن والتجرد من ثقافتهن الإسلامية، وهذا ما طُلب من مونيك أخت مولود، بأن تقوم بنزع خمارها أمام الملأ في التجمع الذي أشرف عليه سوستال بمسرح قسنطينة في 26 ماي 1958 مقابل إطلاق سراح أخيه المولود. مونيك لم ترتد الخمار طوال حياتها، تفاجأت حينما عرض عليها هذا الطلب من طرف عميل وحركي كان هو من حفزها لذلك، وعلم فيما بعد أن الثورة قامت بتصفيته جزاء عمله المخزي مع مونيك، فلم تجد وسيلة أخرى إلا نزع خمارها لتحرير مولود من أيادي المجرمين الفرنسيين، وعلم فيما بعد أن الباشاغا امزيان لم يكون راض بعمل ابنته، حيث أرسل خطابا لوالدتها يحذرها من مغبة هذا الفعل، وما قد يترتب عنه من آثار وخيمة. بهذه الطريقة أطلق سراح مولود امزيان وعادت المزرعة للكتيبة 27 للمشاة، لتصبح مركزا للتعذيب والتنكيل غير المصرح به. هذا المعتقل لا يخضع لأي قانون أو شريعة. صودرت المزرعة بغير وجه حق من مواطن جزائري، وحولت لمركز تعذيب واستنطاق، في وقت كانت قيادات سياسية وعسكرية فرنسية تجهل أو تتجاهل ما يحدث في هذا المعتقل، وقد قامت السلطات العسكرية الفرنسية باعتقال العديد من الجزائريين العزل واستنطاقهم في هذا المكان لمدة في غالب الأحيان لا تطول، يحولون بعدها لسجون رسمية قانونية، أو يتم تصفيتهم جسديا في المنطقة الغابية المحاذية للمزرعة، التي كانت تسمى الشطابا، وغالبا ما كان الضحايا يستشهدون أثناء الاستنطاق بعدما يقاومون ببسالة جميع أنواع التعذيب، يتم كحل أخير تخويفهم بعبارة تكلم وإلى أخذناك إلى الشطابا، ويتم إطلاق صراحهم بعد التأكد الجلي من براءتهم، ولا يكون ذلك إلا بعد إمضاء على وثيقة تأكد عدم تعرضهم للتعذيب. لقد تفنن القائمون على هذا المركز الجهنمي في ابتداع أساليب تعذيب متوحشة تعكس النفسية السادية لهؤلاء الجلادين، كجرائم الاغتصاب الجماعي مرات في حق نساء وفتيات صغريات السن لم يبلغن بعد، مثل الطفلة بوشتات التي أحلقت بعمها في المعتقل، وتم تعذيبها واغتصابها، وهي مل تتجاوز الثالثة عشر ربيعا. الكتاب الثاني، هجيرة مزرعة امزيان وما وراء، للكاتبة الفرنسية كلير موس كوبو، هو آخر كتاب أصدرته الكاتبة الفرنسية كلير موس كوبو، في جانفي 2017، يتطرق إلى ظروف اعتقال وتعذيب فتاة جزائرية مناضلة، اسمها هجيرة بمزرعة امزيان بقسنطينة بعنوان: هجيرة ما وراء مزرعة أمزيان Hadjira. La ferme Ameziane et au-delà ، كما توجد عدة كتب لها ومن أهمها: المجندون بالجزائر الكلمة المصادرة، صدر في سنة 1999 Confisquée Appelés en Algérie. La parole، وآخر بعنوان الجزائر، 20 أوت1955، انتفاضة، قمع، مجازر، صدر في 2013. Algérie, 20 août 1955. Insurrection, répression, massacres، حيث اعتمدت كلير، في كتاباتها على السرد الشفهي للأحداث من طرف المشاركين أوضحايا القمع والتعذيب. وتعتبر كلير الكاتبة الفرنسية الأولى التي دونت وسجلت هذه الأحداث والوقائع من أفوه المساجين. هذا الأسلوب في العمل اعتمدته الكاتبة لإصدار كتابها الأخير.. هجيرة مزرعة امزيان ما وراء، حيث سردت الكاتبة حكاية شابة مناضلة منحدرة من أسرة ميسورة الحال قُبض عليها واقتيدت إلى هذه المزرعة، فتعرضت إلى شتى أنواع التعذيب والتنكيل. هذا الكتاب يمكن أن يصنف -كما قال الكاتب الفرنسي جيلبار مونيه – ضمن تاريخ الأسماء الكثيرة التي تعرضت للتعذيب والتنكيل والاغتصاب، والتي لازالت الكثير منها لم تتحدث بعد عن ما عانتها، وما تعرضت له أثناء مكوثها بهذه المزرعة، والتي تختفي فيها الإنسانية كلها كما قال. من هي بطلة كتاب: هجيرة مزرعة امزيان وما وراء …؟ هي مناضلة جزائرية، تسمى هجيرة من مواليد 1937، سجنت وعمرها 21 سنة، تنحدر من عائلة ميسورة الحال، والدها كان مترجم قضائي اشتغل في البداية بمحكمة قالمة، ثم انتقل إلى قسنطينة عام 1942، وجدها هو الآخر كان قاضيا معروفا بالمنطقة. درست بالمدرسة الفرنسية، وشاركت في إضراب 19 ماي 1956 وهي طالبة بالقسم النهائي، توقفت عن الدراسة والتحقت كعاملة ببريد قسنطينة، وانخرطت في العمل الثوري والنضالي رفقة الأختين الشهيدتين مريم وفضيلة سعدان، وأقنعت والدتها لفتح بيتها لاستقبال وإيواء الثوار. في ربيع سنة 1959 يُكتشف أمر نشاطها الثوري فتعتقل وتساق رفقة مريم سعدان إلى مزرعة امزيان، وهناك تستشهد الشهيدة مريم سعدان، وكان عمرها آنذاك 26 سنة تحت التعذيب، أما هجيرة فبقيت هناك يمارس عليها شتى أنواع التعذيب والتنكيل، وقدمت لها عدة إغراءات من أجل تقديم معلومات عن نظام الثورة، وعرضت عليها منحة دراسية بمدينة نانت الفرنسية لإكمال دراستها الثانوية غير أنها رفضت ذلك. في مزرعة امزيان تختفي مظاهر البشرية وتنعدم الآدمية بها تحدثت المؤرخة كلير في كتابها قائلة: عند وصول المواطنيين إلى المزرعة يتم فصلهم إلى مجموعتين، فمنهم من تتم عملية استجوابهم على الفور، ومنهم من ينتظر ليزج بهم داخل إسطبلات، لا يقدم لهم الطعام لمدة يومين إلى ثمانية أيام وأحيانا أكثر. التعذيب كان يمارس -تضيف كلير- وفقا لدليل كتبته أجهزة الاستخبارات، حيث تجرى الاستجوابات وفق النحو التالي: يسأل السجين في البداية، ثم تأتي مرحلة التعذيب الفعلية في حالة رفض المستجوب الإدلاء بمعلومات تفيد المحققين، لتواصل حديثها قائلة "إنه كثيرا ما يتكرر الاستجواب والتعذيب لعدة أيام متتالية، وفي الوقت نفسه يتم سجن المشتبه بهم من دون طعام في زنزانات لا يسمح لبعضها بالاستلقاء". و عن حديثها عن معاناة هجيرة، تقول كلير: "عرفت أثناء مكوثها بهذه المزرعة الجوع والقذارة والشتائم والصفعات والركلات والعقوبات والتعذيب بالكهرباء والعجلة. كان أغلب المعذبين لا ينجون ولا يخرجون سالمين من هذه المزرعة التي تنعدم بها الآدمية وتختفي معاني البشرية بها. وضعت في غرفة كبيرة كانت تحيط بها جميع أدوات التعذيب، تعرضتفي العديد من المرات إلى تعذيبها في حوض للاستحمام مليء بالماء والبراز. إن التعذيب الذي كان يمارس بالمزرعة، تضيف كلير "لم يكن وليد انحرافات شخصية لبعض الضباط الساديين، بل هو وليد مؤسسة تعمل تحت سيطرة التسلسل الهرمي العسكري، مضيفة أن عمليات الاستجواب تجرى من قبل ضباط وصف ضباط ومن هؤلاء النقيب رودي، وماسان، وبوش ميلر، والمفتش بارجيه، الذين تفننوا في تعذيب الجزائريين دون رحمة لا رادع. وبعد مكوثها 4 شهور بمزرعة امزيان، تُحول هجيرة إلى منطقة الحامة، أين بقيت هناك لمدة 8 شهور أخرى ليطلق سراحها، وتلتحق بعائلتها في أواخر صيف 1960.