طريق الباذان سالك، طريق عيون الحرامية مغلق، نشرة إخبارية يومية في وسائل الإعلام الفلسطينية، تتجدّد كلّ ساعة حول أوضاع الطرق في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وبدأت هذه النشرة منذ الحرب الدموية على قطاع غزّة في 7 أكتوبر عام 2023 والتي رافقتها حرب أخرى وهجمة شرسة على الضفة الغربيةوالقدس، وذلك بعزل المدن والقرى والتجمّعات السكانية عن بعضها البعض، وفرض عقاب جماعي شامل على الشعب الفلسطيني، من خلال الاعتداءات والتفتيشات والمضايقات وحملات الاعتقال الواسعة، الإعدامات والإهانات والإقتحامات والإذلال اليومي وجعل الحياة كابوسا لا يطاق. طريق بوابة سلفيت مغلق، طريق العيزرية سالك، وفي حياتنا الفلسطينية تحديات لا يعيشها أيّ شعب في الدنيا، الاحتلال الصهيوني هندس الحيز الجغرافي للفلسطينيين ليتفوّق على نظام الفصل العنصري في مفهومه التقليدي، فهو احتلال استعماري عنصري حربي استيطاني إحلالي نفسي واجتماعي، قلب حياة الشعب الفلسطيني، وألقاهم في الهامش والظلال، أشباه بشر، ولا أحد يمكنه أن يتصوّر شعبا يعيش على مدار الساعة في حالة انتظار، ولا أحد يمكنه أن يتصوّر شعبا كاملا يعيش في سجون ومعازل ضيّقة، يتحرك بين البوابات والأسيجة، ولا يدري إن كان يستطيع أن يعبر من الحياة إلى الموت أم من الموت إلى الحياة. طريق المعرجات مغلق، طريق قلنديا أزمة، نشرة صباحية يسمعها الجميع، الموظف والعامل والفلاح والطالب والمعلم والمسافر، وما بين المغلق والمفتوح يسقط شهيد هنا في هذا الطريق أو في ذلك الطريق، إعدامات ميدانية خارج نطاق القضاء، الجنود هم القضاة والمحكمة، اقتحام ومداهمات للمدن والقرى والمخيّمات، فتصبح نشرة الأخبار ذات طبقات سميكة، عدد المعتقلين هذه الليلة، عدد الإصابات، استمرار الغارات والقصف الصاروخي على سكان قطاع غزّة، مجازر جماعية يومية متواصلة، تتداخل في النشرة الإخبارية أصوات أطفال ونساء، جوعى ونازحين وصراخ، شهادات أسرى ونساء مورس على أجسادهم التعذيب والضرب والاعتداءات الجنسية في السجون والمعسكرات، تصير نشرة الأخبار كالشهيق، الكلمات مغمسة بالدم وبالجثث والغبار والركام. طريق الكونتينر مغلق، طريق سنجل سالكة، وقد ازدادت الحواجز والعوائق الدائمة منذ الحرب الاجرامية على قطاع غزّة، وقد وصل عددها إلى أكثر من ألف عائق في مختلف أنحاء الضفة الغربية، تقييد حركة المركبات الفلسطينية، بوابات إسمنتية وترابية، أسوار وجدران، حواجز مفاجئة (طيارة)، وعلى هذه العوائق ترتكب المآسي والجرائم، التفتيشات المهينة، الاعتقالات، الإعدامات، تدافع المركبات، البحث عن مسالك أخرى وطرق التفافية أو السير على الأقدام، ساعات وساعات، تجميد المكان والزمان، دائرة مضطربة مفرغة من اليقين والوقت، لا داعي لتحديد مواعيد أو لقاءات أو زيارات، هنا في فلسطين شعب يتوه في شوارع وطرقات وطنه، الأيام خالية من المعنى ومشبّعة بالخوف والترقّب. مدخل بني نعيم سالك، كفريات طولكرم مغلق، ما هذه الحياة المتشظية المفتتة الناقصة، تلتفت حولك فلا تجد غير إشارات ويافطات وأبراج وأسلاك تسبّب لك الصدمة والغثيان، لقد عبرنوا البلاد حجرا حجرا، موقعا موقعا، مسحوا الأسماء الفلسطينية واستبدلوها بأسماء عبرية، شطبوا التاريخ والذاكرة، مستوطنات ومواقع عسكرية غيرت المشهد الفلسطيني، هيمنة لغوية على المكان، وقد جرى تهويد وعبرنة أكثر من تسعة آلاف موقع في أماكن متعدّدة في فلسطين، إبادة ثقافية شملت كلّ ما على وجه الأرض من تجمّعات سكانية ونباتات وحيوانات، خرائب وقرى ووديان وهضاب وتلال وجبال وآبار وينابيع، الاستيلاء على ملكية الأرض روحيا وماديا، وكلّ ما تسمعه حولك ذو رطنة عبرية وتوراتية، ضجيج صهيوني قومي، آليات وبنادق وجرافات، سجانون وجنود وقناصة ومستوطنون وحاخاميون ينتظرون وصولك إلى هذا الحاجز، يعتقلوك ويعروك من ملابسك، يكبلونك ويدعسون على رأسك ببساطيرهم المدببة، ينكّلون بك ويضربونك بأعقاب البنادق والأرجل، يفتشون كلّ مساحات جسدك، يريدون أن ينتصروا على حياتك ومواعيدك، إنّه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، ينتشون أمام وجعك وعذابك ورجفة جسمك وتكسير عظامك، يلتقطون الصور والفيديوهات ويرسلونها إلى حبيباتهم، لقد انتصرنا. الطريق سالك، الطريق مغلق، نشرة الأخبار تصبح ساخنة وهي تبثّ أخبار القصف المدفعي والصاروخي في قطاع غزّة، ويبدأ عدد الشهداء يتصاعد حتى ينفجر عقلك، ويتجمّد دماغك، أنت نازح في الضفة المحتلة ونازح في غزّة، عالق بين الرصاص والحواجز والدمار البشري والجغرافي، جسدك ينهار ويتقوض كما تنهار آلاف المنازل فوق رؤوس سكانها، وأنت تنهار إلى داخلك، وكم مرة ستصبح لاجئا، لا تصل إلى البيت أو الأصدقاء، لاجئ في الموت الذي غيّب العائلة، ولاجئ في الحياة التي ظلّت ناقصة. طريق بزاريا مغلقة، طريق حزما سالكة، تشعر بالاختناق وأنت تسمع هذه النشرة الإخبارية، صوت أكرم الصوراني يقول عبر الإذاعة: نجهّز الحطب والنار ونغلي الماء في غزّة، ثم لا نجد ما نطبخه، نطبخ كلّ شيء إلا الطبيخ، نأكل كلّ شيء إلا الأكل، الوقت من دم، والتاريخ منتصف فيفري 2024، سندفن جثة مجهولة الهوية تحت شجرة مجهولة الهوية، ويتداخل صوت أكرم الصوراني مع صوت الطفلة سمية الزهار وهي تقول: ماما استشهدت هي واثنين من أخواتي، اشتقت الهم كلهم ولغرفتي وألعابي، وخلال ذلك تسمع صرخة تقول: لهلقيت هيهم تحت الدار، تحت أنقاض الاسمنت والحديد والخراب، وتنتقل النشرة الإخبارية إلى الفتاة الجريحة عهد بسيسو وهي تقول: دبّابة صهيونية استهدفتني بقذيفة شمال غزّة، عمي بتر ساقي بسكين لإنقاذي، استخدم ليفة صحون لتنظيف قدمي من الشظايا والرمال، ونصف شبابنا فقدوا أقدامهم، تنتفض تمسح دموعك، ما زلت واقفا على الحاجز، متى تتوقّف نشرة الأخبار حتى تتوقّف هذه الحرب اللئيمة ونتنفس. الطريق سالك الطريق مغلق، الطريق إلى الحياة مغلق، الطريق إلى الموت مفتوح، حرثوا القبور ونهبوا الجثث، سرقوا الموت، سائق المركبة عليه الآن أن يسوق في الجحيم، فالجدار بين السماء والأرض أصبح مفتوحا كما قال الشاعر المتوكّل طه، زمن غزّة المادي والروحي يتمدّد على الإسفلت، وكم نحن الآن بحاجة إلى الله بعد أن تخلّى عنّا الجميع، ربما ينزل الجبل إلى البحر، ثمّة دليل على زلزال يتحرّك في شرايين الأطفال في الأرض المحتلة، يأخذ بيدها الموج، لا تضيق بها حدود الابرتهايد. طريق الساوية سالك، مدخل عزون مغلق، كيف إذا تمكّن الطفلان هديل وعماد الدين من الخروج لشراء الكلمنتينا في غزّة، فأعدمهما قناص صهيوني؟ من يقاوم النزوح والهجرة يجوع، من يقاوم الجوع يموت، هذه هي المعادلة الأمريكية والصهيونية، طفلة تحتضن أمّها القتيلة: لا تتركيني في بيت أحزاني وحيدة، وما بال هذه العجوز التي تجلس بجانبي تقول: بتوفيق من السماء نحمل دمنا في عروقنا كي تتدفّق في كلّ أنهار العالم، فالطريق سالك، وعلى الجميع أن يصدّق أنّ في فلسطين أنفاق فضائية. الطريق مغلق الطريق سالك، المذيعة تصمت قليلا ثم تتابع: توفي الفنان الفلسطيني المقدسي مصطفى الكرد، ما زال صوته يصدح من حارات القدس العتيقة حتى غزّة: هات السكة هات المنجل اوعى بيوم عن أرضك ترحل، وما أكثر الشعراء والكتاب والفنانين والموسيقيين والعلماء الذين قتلوا وتوفوا في زمن غزّة، قتلوا الإمام الشافعي فاختفى الناسخ والمنسوخ، وأصبحت الأحاديث المنقولة بلا أسانيد، كأنّ الحرب على غزّة هي نهاية الكلمة الحرة، نهاية الجمال والثقافة والأغنية، الدمار واسع شمل كلّ المعالم الثقافية والتاريخية، المساجد والكنائس الأثرية، المتاحف والمكتبات ومراكز الأرشيف والجداريات والحارات والأسواق الشعبية، هولاكو هنا، جنكيز خان، النازيون الجدد هنا، الرمل صار أسود، التاريخ احترق، قتل الشاعر سليم النفار، ففر زهر اللوز من القصيدة. الطريق سالك، الطريق مغلق، إلى متى؟ إلى ما لا ندري، قصفت الكنيسة والمئذنة، المدينة تركت دون بوصلة، هي أشلاء تضرب وجهك دون رحمة، تقول ذلك الكاتبة نعمة حسن: يا الله! أريد أن أنام، يا الله أطفالي يصرخون لا يعرفون النوم، هو صوت ناهض زقوت يصرخ من أعماق الليل الساكن، بالقهر وبالجوع وبالألم، الأطفال يلعبون لعبة الغميضة ينامون على الرمل ويأكلون على الرمل وكلّ حياتنا رمل برمل، كلّ حياتي داخل الخيمة من الرمل للرمل، كان ذلك صوت ريما محمود وهي تبحث عن الخبز والطحين والحطب في الطوابير المكتظة في غزّة. طريق عناتا سالك، طريق زعترة مغلق، لم تعد الشوارع تشبه الشوارع، لم تعد الطريق نفس الطريق، لا المكان ولا المشهد، كتبت ليان أبو القمصان من غزّة، الطريق المرصوفة الطويلة باتت تلك المجموعة المتشرذمة من الحجارة والحديد وبقايا الاسفلت، كانت كفيلة بجعلي اتحطم، ومازلنا واقفين على المفترق، غضب وأعصاب مشدودة، الحنون الأحمر الذي ملأ الأرض ينادينا، لكنّنا لا نتحرك، نحن في دائرة مغلقة، الجنود على الحاجز، لا يروننا كبشر، وصوت المذيعة لا يفتح الطرق، لا يتأخر ولا يتقدم. طريق السموع سالك، حاجز الحمرا مغلق، وكان لا بد لامرأة فلسطينية من قرية برطعة أن تضع مولودها على الحاجز المقام على أراضي البلدة، هنا المخاض العسير والرعب والبنادق، مولود جميل اسمه شامخ، وعلى نفس الحاجز تزفّ المذيعة خبر استشهاد الأسير المشلول خالد الشاويش، المؤبّدات والأمراض وسوء المعاملة والانتقام، أغلقوا عليه كلّ البوابات، الزنزانة قبر وتابوت ومشانق. طريق عين سينيا سالك، طريق كفر عقب مغلقة، وتبدأ المذيعة بقراءة تقرير منظمة اليونسيف الذي يقول: غزّة تشهد أسوأ مستوى سوء تغذية، يشرب الناس من مصادر المياه الملوثة، الأمراض المعدية آخذه في الارتفاع، لهذا كتب إبراهيم المدهون: الجوع ينهش شمال غزّة، ينام الأطفال بأمعاء خاوية، طريق المساعدات مغلقة، أكياس التبن والعلف فارغة. طريق النشاش مغلقة، بوابة جماعين سالكة، من يسمع هذه الأم التي تقول: مش قادر اجيبلو حليب وفش تغذية، بيرضع ميه؟ ومن يسمع الأسير رمضان شملخ الذي اعتقلوه وعذّبوه بالسكين؟ جسده غارق بالدم، هدّدوه بقطع أصابعه وأذنيه، بينما ذلك الرجل الذي حرقوا بيته بعد أن نهبه الجنود، ما زال يبحث عن ذكرياته وإيقاعات أحلامه، خطوات أبنائه الصغار، عن نافذة تطلّ على قمر لا يغيب. طريق حوارة مغلق، طريق جورة الشمعة سالك، وقد رأى الناس أُسقف غزّة برفيريوس يخرج من الكنيسة التي سميت باسمه في حي الزيتون، وهي ثالث أقدم كنيسة في العالم، وكانت ملاذا للفقراء واللاجئين والهاربين من الحروب، تعرّضت للقصف والدمار في غزّة، غرس الأسقف صليبه في الرمل ونادى على النازحين قائلا: تعالوا هنا، تجمّعوا تحت الصليب، كلّ الطرق مغلقة، وليس هناك من طريق إلا الصمود والإيمان والحرية.