أفرزت ظاهرة الانهيار المفاجئ لأسعار الخضر بأسواق الجملة لولاية تيبازة مؤخرا امتعاضا شديدا واستياءً كبيرا في أوساط الفلاحين الذين تكبدوا خسائر مادية و مالية كبيرة، جراء عدم تمكنهم من تسويق منتوجاتهم من خلال رفض تجار الجملة استلامها من جهة، وقيام هؤلاء برمي كميات معتبرة منها خارج السوق من جهة أخرى. وفي ذات السياق، اتهم الفلاحون أباطرة السوق و ذوي النفوذ بإغراق أسواق الجملة بكميات كبيرة من المنتجات دفعة واحدة دون توزيعها على أسواق أخرى، مع تراخي الجهات المسؤولة في مسألة ضبط المنتجات بتخزين الفائض منها أو تحويله الى المناطق التي تشهد ندرة ، الأمر الذي أفرز تشبعا رهيبا في بعض المنتجات أضحى تجار الجملة بالأسواق يتحاشون الحديث عنها باعتبارها مدرجة ضمن قائمة المواد غير المدرة للأرباح. وإذا كان البكاء على الخسارة بالنسبة للفلاح، يعتبر مجرّد مثل يضرب للاشارة الى ارتفاع الأسعار أو انخفاضها، فإنّ كثيرا من الفلاحين بكوا فعلا هذه المرة بعدما خسروا أموالهم في منتوج البطاطا في مرحلة أولى، قبل تكبد خسائر أكبر في منتوجات الكوسة والباذنجال. ولا يزال المستقبل يخبئ مفاجآت قد تكون غير سارة أيضا لجموع هؤلاء، فحتى منتوج الطماطم الذي يتميز بقابليته للتحويل، فهو يسوق أحيانا بأسعار لا تخدم الفلاح على الإطلاق، من حيث عدم قدرته على تغطية تكاليف الإنتاج الباهظة، ولكن المستهلك لا يزال يجهل بأنّ الأسعار المتداولة بأسواق التجزئة تتضاعف أحيانا 4 إلى 5 مرات مقارنة مع تلك التي يتم تداولها بسوق الجملة. حمولات شاحنات في مهب الريح أكّد بعض تجار سوق الجملة بالحطاطبة ل"الشعب" على قيامهم برمي كميات معتبرة من الكوسة و البذنجال و الخيار مؤخرا الى خارج السوق، عقب عزوف تجار الجملة عن شرائها ولو بأثمان جد منخفضة. وقال أحدهم بأنّه تخلّص على مدى يومين من حمولتي شاحنتين من الحجم المتوسط من الباذنجال إضافة الى حمولة شاحنة أخرى في وقت لاحق، وقال آخر بأنّه تخلّص مجبرا من كميات هامة من الباذنجال والكوسة والخيار عقب تراكمها بداخل محله بالسوق وعدم اقدام تجار الجملة على اقتنائها. وقد حملت هذه الظاهرة الكثير من تجار الجملة على رفض استلام كميات إضافية من ذات المنتوجات، خوفا منهم من عدم التمكن من تسويقها، الأمر الذي أثّر سلبا على معنويات الفلاحين الذين خسروا معركة الجني والتسويق عقب وقوعهم تحت وطأة ثقل تكاليف الانتاج. وجاءت هذه الظاهرة لتزيد من متاعب الفلاحين الذين تكبدوا خسائر كبيرة أيضا في منتوج البطاطا للموسم الحالي بحيث لم تتمكّن آليات التخزين والضبط من التحكّم الجيّد في سيرورة المنتوج من الجني إلى الاستهلاك، وكثيرا ما تخلى الفلاحون عنه بالمزارع بفعل تدني سعره بالسوق والخوف من طغيان تكاليف الإنتاج والجني على الفوائد المحتملة. البذور والأدوية.. كابوس يرعب بخلفية زيادة المردودية ومضاعفة الإنتاج يضطر الفلاحون إلى استغلال البذور الهجينة التي تنتجها المعاهد والمخابر المتخصصة، بحيث يقتنيها هؤلاء بأثمان باهظة من تجار المواد الفلاحية، ويجتهد الفلاح كثيرا في انتقاء البذور الملائمة، والمناسبة للموسم لتجنب حلول أضرار جسيمة بمزرعته. الا أنّه بالرغم من ذلك، فقد تكبد العديد من الفلاحين في عدة أنماط من البذور كالكوسة مثلا بالنسبة للمنتج الذي يتم جنيه خلال جويلية وأوت، وكذلك بالنسبة للفاصوليا الحمراء التي تكبد فيها العديد من الفلاحين هذه السنة خسائر كبيرة أجبرتهم على تعويضها بمنتجات أخرى، وذلك عقب هطول بعض الأمطار الربيعية الملوثة عليها. ولم يتمكن الفلاحون من إيجاد الوصفة العلاجية المناسبة لها، أما عندما يتعلق الأمر بالأدوية العلاجية للمنتجات الفلاحية، فإنّ الفلاح يجد أمامه جملة من الصعاب التي ترهقه بالنظر إلى جنوح تجار المواد الفلاحية، بما في ذلك الأدوية إلى الشق التجاري على حساب البعد التوجيهي و التوعوي مما ينجم عنه تجربة الفلاح لدواء غير مجدي. ليضطر عقب ذلك التحول نحو تاجر آخر لاقتناء دواء آخر لإنقاذ منتوجه مع الإشارة إلى أن الفلاح لا يناقش أسعار الأدوية باعتبارها ضبطت من طرف المخابر المستوردة لها مثلما هو الشأن بالنسبة لأدوية البشر بالصيدليات، ومن ثمّ فإنّ تداعيات اقتناء البذور المناسبة والأدوية الموصوفة يعتبر في الواقع كابوسا مرعبا يهابه الفلاحون ويزيد من معاناتهم ويرفع تكاليف الإنتاج الى حدودها القصوى. معاناة كبيرة مع قلة اليد العاملة والظروف الجوية أجمع العديد من الفلاحين الذين استجوبناهم بمناطق عدة من ولاية تيبازة على الندرة الحادة لليد العاملة في القطاع الفلاحي، لاسيما خلال فترة الدراسة بحيث وجد العمال ضالتهم في الظاهرة من خلال المطالبة بأجور يومية عالية واقتصار توقيت العمل على حوالي 4 إلى 6 ساعات في اليوم، زيادة على بعض الامتيازات التي يحظى بها هؤلاء كالإطعام والنقل والحق في اقتناء الخضر مجانا وغيرها، في حين أن الأجرة اليومية لهؤلاء تتراوح ما بين 700 و 800 دج. كما أن العامل أضحى في هذا الواقع يعمل وفق ما توسوس له نفسه من حيث كونه يعمل متى يشاء و ما يشاء و كثير منهم يختار نوعية العمل وينبذ نوعيات بعينها لكونها متعبة أو غير مربحة بالنسبة إليهم ليبقى بذلك البحث عن اليد العاملة المؤهلة والمنضبطة بالقطاع يشكّل عبئا ثقيلا يتحمله الفلاح طيلة الموسم. وفي سياق ذي صلة، اشتكى الفلاحون من الظروف الجوية القاهرة التي لم تعد ترحم أحدا و كثيرا ما تسببت في حرق أو جرف عديد المنتجات الفلاحية كالبطاطا و الفاصوليا و الفراولة وغيرها، ليتكبد الفلاح خسائر معتبرة دون التمكن من تعويضها، بفعل غياب ثقافة التأمينات من جهة، و عدم امتلاك العديد من الفلاحين لوثائق رسمية تمكنهم من ذلك، باعتبار الآليات المعتمدة لمنح بطاقات الفلاح تستثني فئات عديدة من الفلاحين دون مراجعتها منذ سنوات عديدة. يحدث هذا رغم احتجاج ومطالبة العديد من الفلاحين بذلك طيلة عدة سنوات خلت، كما تتسبب الظروف الجوية أحيانا في ندرة كبيرة للموارد المائية التي تجف منابعها دون سابق إنذار مما يجبر الفلاح على التخبط والتصرّف وفق ما يمكنه من تسيير الموقف بأقل الخسائر ويكون الحديث حينها عن الفوائد مجرّد أضغاث أحلام. ''البكاء على السوق'' شعار كلّ منتج من أهم الأمثال المتداولة في أوساط الفلاحين بتيبازة "البكاء على السوق"، بمعنى أنّ تسويق المنتوج بعد جنيه هو الذي يرفع رأس الفلاح أو يطأطئه، وكلما كان السعر معقولا و مقبولا إطمأن الفلاح لنتائج محصوله، وكلما كان السعر متدنيا تكبّد الفلاح خسائر جمة. إلا أنّ الواقع شهد و لا يزال يشهد خلال هذه الصائفة بأنّ المنتجات الفلاحية لا تباع فقط بأسعار متدنية، ولكن يرفض استلامها أصلا من عند الفلاحين، بالنظر الى عزوف تجار التجزئة عنها بالرغم من كون تجار التجزئة أنفسهم يسوقون ذات المنتجات بأسعار مرتفعة نسبيا للمستهلكين. فالكوسة التي كان تجار الجملة يرفضون استلامها مثلا كانت تسوق للمستهلكين ب30 الى 50 دينارا و الأمر نفسه بالنسبة للباذنجال وكذلك الخيار، بحيث يخضع السعر للزمان والمكان وطبيعة المنتج المتداول، وبذلك فإنّ الخاسر الأكبر في هذه العملية التجارية، يبقى هو الفلاح مع كونه هو الذي يتحكم في آلة الإنتاج والرابح الأكبر هنا هو تاجر التجزئة الذي يجني أرباحا طائلة في كل الظروف وفي كل الحالات. وتبقى هذه الاشكالية بحسب الفلاحين بحاجة ماسة الى ضبط وتقويم من لدن الجهات المعنية وذلك عن طريق ضبط هامش ربح تجار التجزئة ودفع المستهلكين الى اقتناء كميات أكبر من المنتجات لتنتعش بذلك الدورة الفلاحية وتتمكن آلة الانتاج من الصمود والتأقلم وفق ما تقتضيه الظروف. إنجاز 8 أسواق جملة إضافية: هل هو الوصفة العلاجية للمعضلة؟؟ اعترف وزير التجارة "مصطفى بن بادة" خلال زيارته لسوق الجملة للخضر والفواكه بالحطاطبة منتصف رمضان الجاري، صراحة بوجود هوة كبيرة ما بين الأسعار المتداولة بأسواق الجملة وتلك التي يعتمدها تجار التجزئة مع المستهلكين، وأرجع ذلك الى صغر الفضاءات التجارية المعتمدة كأسواق جملة حاليا باعتبارها لا تتجاوز 100 هكتار على المستوى الوطني. ومن ثمّ فقد أفصح الوزير بن بادة عن مشروع الحكومة القاضي بانجاز 8 أسواق جديدة للجملة تصل مساحتها الاجمالية 176 هكتار و تتجاوز بكثير مساحة 40 سوقا معتمدة حاليا والتي لا تتجاوز 100 هكتار. ويرتقب بأن ترافق الأسواق الجديدة المقترحة بكل جهات الوطن أسواق جوارية أخرى بوسعها امتصاص فائض المنتجات الفلاحية التي يحولها الفلاحون الى أسواق الجملة، مما سيوفر سيولة أحسن لتسويق المنتجات ولو بأسعار منخفضة ويبقى أمام الفلاح حينها اللعب على وتر الكمية لاستدراك تكاليف الانتاج وضمان هامش ربح مريح. إلا أنّ جلّ الفلاحين الذين استجوبوا بشأن هذه الخطوة أشاروا الى أنّه حل ترقيعي مؤقت، لا يمكنه الصمود طويلا أمام تداعيات سيرورة المنظومة الفلاحية، التي شهدت تطورات معتبرة خلال السنوات الأخيرة وتنتظرها تحديات أكبر خلال السنوات القادمة. ومن ثمّ فقد طالب الفلاحون بضرورة مراجعة شاملة للمنظومة من مرحلة تهيئة الأراضي لاستغلالها و اقتناء البذور و الأدوية الى مرحلة التسويق، مرورا بظروف استغلال الأراضي و المزارع الفلاحية، لاسيما و أنّ الأمر يتعلق بتوفير القوت للجزائريين والمساهمة الفعالة في توفير الأمن الغذائي.