بدأت أولى ملامح السياسة الاقتصادية الجديدة المنتهجة من طرف الحكومة تتضح شيئا فشيئا، من خلال إعطاء الأولوية لدعم النسيج الصناعي الذي يتوفر عليه الاقتصاد الوطني، وذلك بالنظر إلى الطاقات الهامة الموجودة، حيث يظل جزء هام منها غير مستغل اقتصاديا بل وأصبح عرضة "للابتزاز" والاستغلال غير الشريف، سواء تعلق الأمر بمستثمرين خواص، وطنيين أو أجانب، تحت غطاء الانفتاح وإرساء أسس اقتصاد مبني على قواعد الحرية أو الليبرالية. إعادة امتلاك الدولة لأصول سبق التنازل عنها، في إطار تشجيع الاستثمار و الشراكة المحلية و الأجنبية، قد لا يمكن النظر إليها من زاوية عودة سياسة التأميم المنتهجة غداة استرجاع السيادة الوطنية، بقدر ما تمثل حرص الدولة على مواجهة أي انحراف في مسار دعم الاقتصاد الحقيقي المبني على الاستثمار المنتج والتي تمثل أداته الوحيدة في الوقت الحالي، كل النسيج الصناعي والطاقات الهائلة المتوفرة من مصانع ومركبات صناعية، بعضها يعمل والبعض الآخر توقف عن العمل لأسباب تعود بالدرجة الأولى إلى الإهمال وكذا إلى تفضيل الشراكة الخارجية على المحلية ،وما انطوى على البعض منها من المساس بالمصالح الاقتصادية العليا للبلاد والأمثلة على ذلك عديدة وكانت وراء إعادة النظر في المفاهيم الأساسية لبناء اقتصاد منتج بعيدا عن ذلك الريعي، من خلال إعطاء الأفضلية لدعم مؤسسات القطاع العمومي ماليا والعودة إلى المبادئ الأساسية للجزائر وهي الوطنية الاقتصادية، المطبقة في أكبر الاقتصاديات العالمية و في مقدمتها الولاياتالأمريكيةالمتحدة. أكد مصدر مقرب من وزارة الصناعة وترقية الاستثمارات أن أولوية الدولة في شراء الأصول من خلال حق الشفعة، لا يعني عودة التأميم، حسب ما يروج إليه، على اعتبار أن حقوق البائع والمشتري محفوظة وملاءة المشتري الذي هو الدولة كبيرة ولها كل الحق في التمييز بين المستثمرين الحقيقيين والمضاربين الذين يعملون من أجل الحصول على الامتيازات المالية ومن ثم تفويت الفرصة على الدولة في حقها في الإيرادات الضريبية أثناء عملية التنازل، وهو ما يتم مع المتعاملين الأجانب. حق الشفعة كإجراء احترازي جاء به قانون المالية التكميلي لسنة 2009، من أجل إعطاء الدولة الحق في الأولوية لشراء أصول أي متعامل اقتصادي أجنبي يريد التنازل عنها لفائدة متعامل أجنبي أو محلي في القطاع الخاص. وحسب ذات المصدر، فإن هذا الإجراء يتم اعتماده في الاقتصاديات التي تسعى إلى تطوير الاستثمار في بلادها وبالتالي تقدم امتيازات كثيرة ومتنوعة لمن تتوفر فيهم الخبرة التقنية والملاءة المالية و غير ذلك، ولكن عندما يرغب المستثمر في التنازل عن الاستثمار المنجز لفائدة متعامل آخر، هنا من تتدخل الدولة و تطالب بحقها في شراء الاستثمار، إن كان ذلك مناسبا، وبالتالي فإنها تحل محل المشتري. وفي هذه الحالة، فإن عملية الشراء تتم وفق السعر المتفق عليه بين البائع و المشتري. أما إذا كان السعر المعلن عنه مرتفعا مقارنة مع القيمة المحددة من طرف خبراء التقييم، فإنه لا مفر من لجوء الدولة إلى طلب تحكيم يتفق عليه الطرفان. ألا يؤثر مثل هذا الإجراء الذي لجأت إليه الجزائر على سمعتها، خاصة من حيث تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، سؤال جدير بالطرح عندما يحاول البعض الترويج لعودة الاحتكار العمومي، فيجد هذ ا السؤال جوابه المناسب بأن مثل هذا الإجراء ليس حكرا على التشريع الجزائري وتداوله موجود في العديد من التشريعات الدولية، وبالتالي من الوجهة النظرية وفق ذات المصدر المقرب من وزارة الصناعة، فهو لا يضر على سمعة الجزائر فيما يتعلق بتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة على اعتبار أنها تصبح متغيرة وتؤخذ بعين الاعتبار في قياس درجة المخاطرة، غير أنه ما قد يعاب على الجزائر هو استمرار عدم الاستقرار التشريعي الذي يجعل نوايا الاستثمارات الأجنبية معتبرة، لكن تنفيذها يبقى هزيلا للغاية. أبرز نموذج تم تحقيقه في إطار تفعيل حق الشفعة في الاستحواذ على الأصول، ويتعلق بمصنع الحجار لإنتاج الحديد والفولاذ في عنابة الذي شهد عملية فتح رأس ماله إلى أرسيلور ميتال بسبب ضعف التسيير فيه والخسائر المتراكمة التي تحملها، فضلا على المشاكل الاجتماعية التي كان من الصعب تجاوزها. وما يعاب على الشريك الأجنبي حسب نفس المصدر،أن هذا المتعامل الأول عالميا في قطاع النشاط، بنى خياراته الإستراتيجية على مستوى مصنع عنابة، لخدمة الإستراتيجية العامة للمجمع الدولي، وهو الأمر الذي يتعين أن يكون أول محور يجب دراسته من طرف الشريك العمومي والمتمثل في حجم الاستثمار وطبيعته ومن ثم طبيعة المنتوج الواجب طرحه في السوق الوطني ثم الدولي . وإذا كانت عملية استحواذ الدولة على أغلبية أصول مصنع الحجار التي تمت في هدوء و بالتراضي بين الطرفين بموجب حق الشفعة، فإن عملية مماثلة يفترض أنها ستحذو حذو مصنع عنابة، لكن تجاذبات عديدة رافقت و لا تزال ترافق هذه العملية ويتعلق الأمر بمصنع "ميشلان" للعجلات المطاطية والجدل حول الجهة التي ستشتريه بعد أن عبر رجل الأعمال الجزائري يسعد ربراب صاحب مجموعة "سيفستال" الذي دخل ولأول مرة ضمن أشهر الميلياردات عن رغبته في الاستحواذ عليه. ومن هنا، فإن الدولة تعتزم تطبيق حق الشفعة لشراء أصول، "ميشلان" عن طريق " نفطال" وعن طريق مؤسسة عمومية، لأسباب عديدة يذكر منها: ❊ أن سعر البيع خاصة العقار تم تقييمه بسعر منخفض مما ينم حسب ذات المصادر على وجود صفقة تنقصها الشفافية. ❊ أن موقع المؤسسة والمساحة التي تتربع عليها الواقعة في منطقة آهلة بالسكان تفتح آفاقا كبيرة لكل استثمار ممكن. ❊ أن شح العقار في منطقة باش جراح وتوسع المدينة إلى حدود المصنع يجعل التخلي عن إنشاء مصنع جديد في عين المكان أمرا واردا. ❊ إن البرنامج المسطر من طرف الحكومة والمتمثل في تأهيل المناطق الصناعية الموجودة وإنشاء مناطق أخرى جديدة على مستوى كافة التراب الوطني يعتبر فرصة مناسبة لتوجيه كل استثمار جديد نحو هذه المناطق وتطهير المساحات السكانية من كل نشاط صناعي. ومن هذا المنطلق وما دامت الحكومة مهتمة بهذا الملف، فإنه لا يمكن لمجموعة "سيفيتال" أو غيرها شراء المصنع، مما يعني أن حق الشفعة سيطبق على مصنع "ميشلان " كغيره من المصانع الواقعة تحت تصرف متعامل أجنبي يريد التنازل عنه لفائدة متعامل أجنبي آخر أو محلي في القطاع الخاص . إصرار الحكومة على حق الشفعة في شراء مصنع "ميشلان " قد يعود إلى أهميته من حيث إنتاج العجلات المطاطية في الجزائر، لكن المصدر المقرب من وزارة الصناعة يعتقد أن الإصرار لا يعود إلى أهمية المصنع بالنسبة للنسيج الصناعي بقدر أهمية العقار الذي يتربع عليه. مما يعني أن الحكومة وفي كل مرة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الممتلكات العمومية من أية محاولة للاستغلال والتدليس، فإنها وانطلاقا من المصلحة العامة تشهر بحقها القانوني في امتلاك هذه الممتلكات عن طريق الشراء . وإذا كان ذات المصدر يؤكد على عدم وجود برنامجا مسطرا معد سلفا من طرف الحكومة محدد فيه قائمة ستشملها عمليات مماثلة لشراء الأصول، إلا أنه و بموجب المادة 76 من قانون المالية التكميلي لسنة 2010، فإنه يحق للدولة استرجاع أصول المؤسسات التي تم خوصصتها لفائدة متعامل وطني أو أجنبي ثبت أنه لم يحترم التزاماته التعاقدية. وبالنظر إلى السياسة الجديدة التي تنتهجها الدولة في إطار الدعم المالي للمؤسسات العمومية للقيام بالاستثمار وتطوير الشراكة، فإن برنامج الخوصصة يوجد في الوقت الراهن في حالة تجميد، بعد أن سمح ذات البرنامج بالتنازل على 279 مؤسسة، إما بصفة كلية أو جزئية أو في إطار الشراكة، فضلا على التنازل بالمقابل على أصول بكل أنواعها ولكل الأطراف الخاصة، سواء كانت وطنية أو أجنبية إلى جانب العمومية منها بما يعادل 390 . وفي تقييم أولي حول سياسة الخوصصة، مكّن هذا البرنامج من تحقيق تدفق مالي تجاوز 130 مليار دينار وإنجاز برنامج استثمار بأكثر من 140 مليار دينار، ولكن مع المحافظة على أكثر من 40 ألف منصب عمل. ولكن التمسك به في الوقت الراهن قد يتعارض والتوجه الجديد لسياسة الحكومة المبنية على أساس تثمين ورد الاعتبار لمؤسسات القطاع الاقتصادي العمومي من خلال دعمها ماليا وتزويدها بكل متطلبات بعثها من جديد.