لقد تلقيت ببالغ الأسى والتأثر خبر وفاة المغفور له الدكتور أبو القاسم سعد الله، وإذ أتوجه بأحر التعازي القلبية لعائلته الكريمة وأقاربه ومحيطه القريب والبعيد، للأسرة الثقافية والجامعية، لا أملك إلا أن أعزي الجزائر أيضا في أحد أبنائها البررة، الذين عاشوا وماتوا مخلصين للرسالة النبيلة المتمثلة في الدفاع عن الجزائر ورفع اسمها عاليا بين الأمم، والذين حملوها في القلب، وناضلوا بدون هوادة من أجل انتصار شعبها وتاريخه .. فله منا كل الإمتنان والوفاء والتقدير والعرفان لنبل روحه التي أتوجه إلى الله ضارعة أن يتغمدها بشآبيب رحمته، ويسكنها فسيح جنانه . لم يكن الدكتور أبو القاسم سعد الله فقط مؤرخا كبيرا، وأديبا وشاعر وناقدا، ومحققا صبورا يخرج النوادر إلى النور، ومدرسا مكونا لأجيال من الباحثين .. لقد كان قبل وبعد كل هذا روحا وطنية متشربة لقيم النضال والدفاع عن الوطن، وواعية منذ البدايات الأولى لميلاده، في الفترة الإستعمارية، بضواحي وادي سوف سنة 1930 معنى أن تنتمي للبلاد وأن تحملها في القلب، وتحلم باستقلالها وازدهارها . إن الدكتور أبو القاسم سعد الله كان يحمل دوما تلك الفكرة العميقة التي تؤكد أن الشعوب بتاريخها وذاكرتها، وأن الأحداث التي تصنع مسار أمة وشعب يجب أن تثمن، ويجب أن تخلد، ولاخلود خارج الكتابة والأثر، وخارج توصيل رسالة الماضي للحاضر والمستقبل ... فمنذ أن درس الدكتور أبو القاسم سعد الله بجامع الزيتونة بين سنتي 1947 و 1954، ثم انتقاله إلى مصر للحصول على ماجستر في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، وبعدها ذهابه إلى أمريكا حيث حصل على شهادة دكتوراه من جامعة منيسوتا في التاريخ الحديث والمعاصر سنة 1965، جعل من حياته وقفا على البحث في أدق دقائق تاريخ وثقافة وحضارة الجزائر، فساهم في كتابة ما يمكن أن نسميه موسوعة حضارية وتاريخية عن الجزائر، لا شك أن كتابه الضخم «تاريخ الجزائر الثقافي» هو معلمتها البارزة ومنارتها المضيئة، بالإضافة إلى كتبه الأخرى مثل «أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر»، و«تاريخ الحركة الوطنية» وغيرها .... كما كان للراحل مساهماته الرائدة في كتابة القصيدة الحديثة في الجزائر، وتقديم أدباء الجزائر من خلال مقالاته وكتبه النقدية، كما ألف في أدب الرحلة، وحقق الكثير من الكتب القديمة التي نفضت الغبار عن كثير من علماء الجزائر، وترجم مؤلفات عن الجزائر وتاريخها لعل كتاب «الأمير عبد القادر » لهنري تشرشل هو أبرزها . إن التوقف عند محطات حياة فقيدنا الغالي الدكتور أبو القاسم سعد الله تتطلب وقتا طويلا، وبحثا عميقا هو من اختصاص الباحثين، ذلك لأنه ليس من اليسير الإحاطة بمسار رجل كان علي قدر كبير من العلم والمعرفة، والتواضع والزهد، والنبل والشهامة، جعلته مضرب الأمثال في الأخلاق السامية، والمثابرة العلمية والأكاديمية، كما جعلته قدوة رائعة لكل الباحثين والمؤرخين الوطنيين، الذين لابد أن يتابعوا مسيرة هذا العالم الذي جعل الجزائر قبل وبعد كل شيء، وتصدى بحماسة قل نظيرها، وإيمان صادق، لرد دعاوي المؤرخين الإستعماريين الذين حاولوا استصغار تاريخنا وتشويهه . إننا إذ نعزي أنفسنا وبلادنا وجامعتنا ومثقفينا وأكاديميينا في الراحل الكبير الدكتور أبو القاسم سعد الله، لانملك إلا الترحم عليه والرجاء من الله أن يسكنه فسيح جنانه . إنا الله وإنا إليه راجعون