يحظى قطاع السكك الحديدية في الجزائر باهتمام معتبر تعكسه منظومة الاستثمارات التي سطّرتها الدولة للدفع به إلى موقع متقدم ضمن الديناميكية الاستثمارية ليكن قاطرة تجر الاقتصاد.بلدان كثيرة وأبرزها الصناعية راهنت منذ البداية على السكك الحديدة في توسيع مشاريعها التنموية، على اعتبار أنّ النقل للأشخاص والبضائع واحد من المحاور الأساسية التي تقوم عليها التنمية الشاملة. وعلى امتداد المخطّطين الخماسين من 2005 إلى 2014، رصدت الدولة ما يعادل 32 مليار دولار لتنمية قطاع السكك الحديدية من كافة الجوانب، تبدأ من إطلاق استثمارات جديدة وصولا إلى توسيع الشبكة مرورا بعصرنة وسائل النقل السككية، وتحسين وتيرة أدائها. وأوصت ورشة السكك الحديدية في الجلسات الوطنية الكبرى للنقل التي نظّمت في 4 ديسمبر الماضي بضرورة تسريع وتيرة انجاز المشاريع الجارية وترقية الدراسات للمشاريع المسجلة، إلى جانب التكفل بجودة الخدمات من التزام القطارات بالمواعيد وتقليص مدة نقل الأشخاص والبضائع وتأمينها. وبالفعل يمثل نقل البضائع والسلع وكل المواد عبر القطار عاملا مساعدا في تقليص الكلفة، وبالتالي التحكم اقتصاديا في الأسعار خلافا لوسائل النقل الأخرى كالشاحنات. كما أوصت نتائج تلك الجلسات بالسهر على ربط مدمج بين شبكة السكك الحديدية مع شبكة الطرق البرية والموانئ، وإدماجها في استراتيجية المخطط الوطني للإقليم، الذي يقوم على أبعاد اقتصادية تصحّح معادلة الانتشار السكاني المتوازن. وضمن هذا المنظور، من المفيد الربط بين محطات السكك الحديدية ومواقع جهوية لشحن وتوزيع البضائع أو تكون ضمن الدائرة الاقتصادية. ووفقا للبرامج الاستثمارية المتعلقة بالنهوض بهذا القطاع الثقيل الذي تتولد عنه انعكاسات اقتصادية واجتماعية مباشرة في المديين المتوسط والبعيد، يتوقّع أن ترتفع المسافة الطولية لشبكة السكك الحديدة في بلادنا إلى 10 آلاف كيلومتر في أفق سنتي 2016 /2017، بعد أن كانت المسافة لا تتعدى 1769 كلم سنة 2008. ومن شأن هذا النمو أن يواكب الديناميكية القوية للاستثمار والتنمية في مختلف الميادين الصناعية والفلاحة والسياحية، واستكشاف واستغلال المناجم ومصادر الموارد الطبيعية. وفي هذا الإطار، فإنّ تجسيد المشاريع المسطّرة وعددها ثلاثة عشر، لا يزال متواصلا، وآخرها إطلاق بناء خط يربط بين حاسي مفسوخ بولاية وهران، ومدينة مستغانم على طول 56 كلم. وضمن هذا التوجه، فإنّ لقطاع النقل بالسكك الحديدية آفاق واسعة تؤهّله للقيام بأدوار اقتصادية بالغة الأهمية من خلال تطوير الخطوط ودمجها في المشهد الاقتصادي الوطني والمحلي، كما هو الحال على مستوى خط الاغواط، حاسي مسعود، غرداية إلى ورقلة، والخط الحزام بين قسنطينة، تقرت، غرداية وبشار مرورا بأدرار. وعلى صعيد آخر، وبالإضافة إلى برامج عصرنة 225 كلم، هناك دراسة جدوى فنية واقتصادية تجري حول مشروع إنجاز خط حديدي يربط بين عين صالح وتمنراست بطول 60 كلم، ويكاد يتطابق هذا الانجاز العملاق مع إنجاز حوّل الحلم إلى حقيقة، ويتعلق الأمر بتحويل المياه الصالحة للشرب من عين صالح إلى تمنراست ممّا يؤكّد أنّ المستحيل غير وارد بالنسبة للمشاريع الإستراتيجية. ولعل من أبرز هذه المشاريع ذات الأبعاد الاقتصادية الوطنية وبعيدة المدى، ملف إنجاز خط يربط بين بشار وتندوف يوجه لاستغلال منجم الحديد غار جبيلات، الذي أعادت الدولة صياغة ورقة طريق تقوده ليتبوّأ الريادة في المشهد الاقتصادي، خاصة في ظل الوثبة المتوقّعة لقطاع الصناعة الجزائرية. ومن مؤشرات توجه هذا النمط من النقل للمساهمة في الدفع بوتيرة التنمية الشاملة وتأطير التوزيع المتوازن للسكان وتوسيع مساحة الاستثمار الجواري، خيار ربط الشبكة بين الشمال والجنوب عبر الارتكاز على الهضاب العليا، كما هو الشأن بين بشار وأدرار على طول 70 كلم، ما سيؤدّي حتما إلى فك العزلة الاقتصادية فعليا عن العبادلة الغنية بالقدرات الزراعية وبني عباس السياحية، بل أنّ الشبكة يمكنها أن تضمن تموين الشمال بمواد تزخر بها ولايات الجنوب الكبير سواء الاقتصادية القائمة على الفلاحة أو الطبيعية، كبعض مواد البناء التي بدأت تقل مثل الرمل الموجه لمشاريع البناء والإسكان والأشغال العمومية والري، مع العلم أنّ مثل هذه المادة وكذا مواد الطاقة المختلفة يجري نقلها بالشاحنات برا ممّا يضاعف من الكلفة الاقتصادية للمشاريع، علاوة على تأثيرها على حالة الطرق وكذا المخاطر المحتملة لحوادث المرور.والواقع لم يسبق لقطاع السكك الحديدية أن عرف اهتماما ملموسا مثلما يعرفه منذ السنوات القليلة الماضية، ليطمح لأن يكون في مقدمة جسر الانتقال بالاقتصاد الوطني إلى محطة متقدمة بمواكبة مختلف محاور الاستثمارات في الصناعة والزراعة الغذائية، وكذا إحداث أقطاب سياحية تكون فيها السكك الحديدية دعامة أساسية تساهم في الدفع بوتيرة الانجاز وتقليص التكلفة والتحكم في الآجال. بل أنّ من خلال توسيع امتداد شبكة السكك الحديدية وإدماجها في المخطط الوطني لإدارة الإقليم يمكن تجسيد معادلة التوازن بين الجغرافيا والسكان بما يضمن ملأ الفراغ المكاني، وجذب الاستثمار خاصة نحو المواقع ذات الموارد الطبيعية منها المناجم وفضاءات السياحة المفتوحة على الطبيعة. ومن شأن مواصلة الرهان على قطاع السكك الحديدية من خلال توسيع مساحة الاستثمار وتسريع إنجاز المشاريع وعصرنة الوسائل والمعدات، أن ينعكس ذلك على وتيرة الأداء الاقتصادي، في ظل مواجهة متطلبات المنافسة الإقليمية والدولية التي تستهدف الأسواق ومصادر الموارد الطبيعية، التي يزداد الطلب عليها خاصة تلك التي تدخل في تنمية الصناعة الميكانيكية وتحويل المعادن وإنتاج المياه والفلاحة من الحجم الكبير مثل محيطات زراعة الحبوب وغيرها.