في المشهد اللّيبي الكئيب نرى كتائب ومليشيات مسلّحة تتقاتل، وشعب محاصر بين زبانية العنف والموت التي يتحرّك بعضها بإيعاز من جهات خارجية، والبعض الآخر بدوافع بلوغ مناصب السّلطة والهيمنة على مؤسسات الحكم. في هذا المشهد المأساوي، نلمح بعض التحرّكات الأممية عبر المبعوث "برناردينوليون" الذي يحاول التوصّل إلى وقف لإطلاق النّار أو على الأقل إسكات مؤقت لضجيج السّلاح وصخبه قصد منح فرصة لتجميع الإخوة الفرقاء حول طاولة حوار للبحث عن مخرج سلمي للأزمة التي تعصف بليبيا منذ نحو أربعة أعوام. وإلى جانب المبعوث الأممي، تتحرّك الجزائر بعيدا عن الأضواء للغرض نفسه من منطلق حرصها على وحدة وسلامة ليبيا وشعبها الشقيق، وأيضا أمن المنطقة الذي بات في خطر كبير. لكن المثير للإنتباه والدّهشة هو عدم ظهور الاتحاد الإفريقي في الصورة، ممّا يفتح الباب واسعا للتساؤل عن موقف هذه المنّظمة القارية من الأزمة التي تعصف بإحدى دولها المحورية، ودورها في حلّها. قبل الإجابة عن هذا السؤال دعنا نعود إلى بداية تفجّر الأزمة اللّيبية في شتاء 2011، حيث رفض الإتحاد الإفريقي بشدّة تدويلها، وعارض التدخّل العسكري ورافع لأجل تسويتها سلميّا من خلال إقناع النظام السّابق بالإستجابة لمطلب الشارع حقنا للدّماء ومنعا لانهيار الدولة وسقوطها في براثن الاحتراب الأهلي. لكن صوت الاتحاد الإفريقي الداعي إلى التهدئة لم يكن يسمع بسبب ضجيج الدّاعين إلى التصعيد والأصوات المزعجة التي كان يحدثها أولئك الذين يقرعون طبول الحرب. مع الحل السلمي وضد التدويل تجاوزت الأحداث مساعي الاتحاد الأفريقي، وحُسم الأمر بسرعة البرق لصالح التدخّل الأجنبي والخيار العسكري. وسقط الزعيم وانهار نظامه ومعه سقطت الدولة الليبية وانهارت مؤسساتها. وهاهي سياسة جلد الذّات التي تبنّاها فرقاء ليبيا المدجّجين بالسلاح تأتي على الأخضر واليابس. لكننا لم نسجّل استعادة الاتحاد الإفريقي لزمام المبادرة هناك بشكل واضح رغم تمسّكه دائما بخيار التسوية السلمية لحلحة هذه الأزمة التي أصبحت بالفعل تشكّل قنبلة موقوتة تهدّد بنسف أمن المنطقة كلّها. لكن مع عدم وضوح دور الاتحاد الإفريقي فمن الظلم القول بأنه وقف يتفرّج على "صوملة ليبيا". فعلى العكس تماما حيث أصرّ من البداية على إجراء حوار وطني يجمع كل الأطراف. وأعرب مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي في ختام دورته ال 449 بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا أوت الماضي عن انشغاله العميق حيال الوضع في ليبيا مسجّلا بارتياح إنشاء لجنتين تعالجان المسائل السياسية والأمنية منسّقتين على التوالي من طرف الجزائر ومصر. كما دعا المجلس المجموعة الدولية بما فيها الأممالمتحدة إلى دعم الجهود الإقليمية التي تتحمّل عبء الأزمة في ليبيا، ووجّه نداء لأجل وقف إطلاق النار وفتح حوار وطني تشارك فيه جميع أطراف الأزمة. وبالموازاة شكّل الاتحاد الإفريقي لجنة خاصة للتواصل مع الإخوة الفرقاء في ليبيا، ضمّت زعماء كل من جنوب إفريقيا وأوغندا وموريتانيا والكونغو ومالي واقترحت حلاّ سلميا يمرّ عبر مرحلة انتقالية. لكن المبادرة لم تحقّق النتائح المرجوّة بسبب تعنّت الذين اختاروا السّلاح لتحقيق مكاسب سياسية ومادية في ليبيا. كما عيّن الإتحاد الإفريقي في جوان الماضي مبعوثا خاصّا إلى ليبيا، هو رئيس وزراء جيبوتي السابق "دليتا محمد دليتا" الذي قام بجولات مكّوكية إلى عدّة بلدان بغرض التّنسيق مع الجهات الدولية والقارية الفاعلة لمساعدة المبعوث الإفريقي كانت دوما تصطدم بجدار التصعيد المسلّح الذي ترفعه المليشيات اللّيبية التي تذبح بسكاكينها الحادة وحدة وسلامة ليبيا. دعم مطلق للمباردة الجزائرية يبدو بأن مشاركة الاتحاد الإفريقي للجزائر في تمسكها وحرصها على إطفاء النار التي تحرق ليبيا، هو الذي جعله يزكّي مبادرتها لإطلاق حوار يجمع مختلف أطراف الأزمة اللّيبية، وسدّ أيّ منفذ لتدويلها أو جعلها ذريعة للتدخّل العسكري المدمّر. ومثلما يدعم جهودها السلمية في تسوية الأزمة في شمال مالي، ها هو الاتحاد الإفريقي يشدّ على يدّ الجزائر الممدودة إلى الأشقاء في ليبيا قصد انتشالهم من خطر الإنزلاق إلى حرب أهلية أصبحت ملامحها للأسف الشديد ظاهرة للعيان. والأمر المفروغ منه، أن الإتحاد الإفريقي يثق كل الثقة في نزاهة ومصداقية الجزائر، ويدرك جيّدا بأنه يمكن أن يعوّل عليها باعتبارها ستكون وسيطا نزيها يقف على مسافة واحدة بين فرقاء ليبيا، وأيضا لأنها صادقة في مسعاها ولا ترمي من ورائه إلاّ لتحقيق المصلحة اللّيبية ووقف شلّال الدّم الذي يسيل هناك. دول الجوار ...4 اجتماعات في 3 أشهر نعود إلى جوهر السؤال المطروح في البداية، لنردّ على الذين ينفون أيّ دور للاتحاد الإفريقي في مساعي تسوية الأزمة اللّيبية، بالقول أن الاتحاد لم يدّخر أي جهد لمساعدة الأشقاء اللّيبيين على الجنوح إلى السّلم، لكن تحركاته لا تتم دائما بصفة مباشرة ومن خلال مبعوثه، بل من خلال تحريك دول الجوار التي نجحت في تحويل إجتماعاتها الدورية التي بلغت 4 اجتماعات خلال 3 أشهر إلى آلية عمل ستستمرّ إلى حين إيجاد حل للأزمة اللّيبية بالتّعاون مع البرلمان المنتخب. ويحرص الجوار اللّيبي على احترام وحدة وسيادة ليبيا في شؤونها الداخلية والحفاظ على استقلالها السياسي ونبذ العنف ودعم المؤسسات الشرعية التي تعبّر عن إرادة الشعب الحرّة. ويبقى في الأخير التأكيد، بأن الاتحاد الإفريقي يحاول صادقا إسكات صخب السّلاح وإعلاء صوت السّلام، لكن النّوايا الطيّبة والجهود الحقيقية التي يبذلها، تبقى مكبّلة بعوائق كثيرة. لعلّ أهمّها غياب قوّة التدخل السّريع التي كانت ستحول على الأقل دون تدويل الأزمات التي تشهدها القارة السّمراء . وتمنع التدخلات العسكرية الغربية التي تقود إلى "أفغنة" أي منطقة تصل إليها كما هو الأمر في العراق وسوريا.