يتابع المتخصص في الشؤون الطاقوية توفيق حسني تداعيات انهيار أسعار برميل البترول ويقدم في هذا النقاش تحليله الدقيق للخلفيات والأبعاد الخفية للصدمة البترولية من حيث إنها نتيجة للصراع جيواستراتيجي بين كبار العالم كما يطرح رؤيته للتوقعات والأفاق المستقبلية، مؤكدا أن الوضع الراهن المتسم بانخفاض السعر يستمر طيلة السنة القادمة وقد يستأنف السعر تعافيه بعد ذلك بالنظر لارتباطه بكلفة الإنتاج داعيا إلى التزام مقاربة التحول الطاقوي للتخلص من تبعات أزمة أسواق النفط، وفيما يلي مضمون الحوار: الشعب الاقتصادي: كيف تشرحون الخلفيات والأبعاد الخفية للتوترات التي تمر بها السوق البترولية مثلما تعكسه مؤشرات الصدمة التي أحدثها انهيار أسعار البرميل؟ * توفيق حسني: مثله مثل أية مادة أخرى فإن سعر البترول يفلت دائما من قواعد السوق ولما يتم فحص السوق نعتقد أن الأزمة الاقتصادية أضّرت بالطلب وأثّرت عليه علما أن حصة الوقود تبقى الحصة الأكثر أهمية في الاستهلاك، ومن ذلك تم تسجيل ارتفعا للأسعار في وقت معين سابق لتبلغ ال 140 دولار / برميل. كان يتعلق الأمر حينها بمواجهة ندرة الموارد عامة وأيضا لتوقف بعض الموارد على مستوى الإنتاج كما هو في العراق تحت الحصار. لم يكن ممكنا تفسير ذلك وفق معادلة العرض والطلب لكن كان يومها عنصر آخر ساهم في الرفع بالسعر إلى الأعلى. وبالفعل كانت الصين في مرحلة صعود كقوة اقتصادية وشكلت تهديدا للبلدان الغربية ومن ثمّة فإن الطريق الوحيد للحد من تنافسية الصين كان الزيادة في أسعار البترول الخام. في تلك المرحلة لم تكن روسيا تشكل تهديدا أو خطرا على الغرب. غير أن بروز روسيا وعودتها كقوة عسكرية غيّر من معطيات المشهد. ولذلك، كان لزاما تقليص سعر الخام من أجل إضعاف روسيا فقط وكانت البداية بالنفط الصخري. وينبغي العلم أن تنمية بئر للمحروقات الصخرية تؤدي إلى إنتاج بترولي ب 80 بالمائة وال 20 بالمائة المتبقية من الغاز. وتسمح الخبرة الأمريكية بتحصيل مردودية للآبار الصخرية في وقت كانت حينها الأسعار في حدود 100 دولار/ برميل. وأدى ذلك إلى تركيبة لتقليص الأعباء على إنتاج الغاز، فيما تغطي أسعار الخام اكبر جزء من أعباء الاستغلال. وكانت النتيجة أن سعر الغاز في السوق بلغ مستوى منخفضا يسمح بتنافسية أفضل للصناعة الأمريكية في مواجهة الصين. وضخّ هذا في الصناعة الأمريكية نشاطا في وقت تعرضت فيه نظيرتها الصينية لعقاب جراء أعباء بترولية مرتفعة. وكان التحوّل لما دخلت السعودية المعركة ضد الغاز الصخري بمبرر استعادة حصتها في السوق، بينما الهدف الحقيقي يتمثل من وراء ذلك أي ضخّ المزيد من النفط إضعاف روسياوإيران. وكان إيران في تلك الأثناء في مفاوضات مع أمريكا وكان من اللازم أن تقلص إرادتها التفاوضية. وقد حقّقت هذه المعركة بقيادة الغرب وحلفائه “ثمارها” كون الاقتصاد الروسي تعرض للإضرار ولا تتعدى فترة صموده من 2 إلى 3 سنوات، بينما قدمت إيران تنازلات كافية لإتمام الاتفاق مع الولاياتالمتحدة. وماذا عن الآفاق؟ * للعودة إلى مدة ضعف سعر البترول يمكن دراسة الأمر على أساس بعض المعطيات الجوهرية كشفت عنها الوكالة الدولية للطاقة والبنك العالمي، حيث يلتقي الاثنان في القول، إن سعر الخام يبقى في مستواه الأدنى طيلة سنتين على الأقل ووفقا لدرجة إثناء روسيا والحد من رجوعها. كما أن وصول البترول الجديد إلى السوق من إيران جراء رفع الحصار والعراق بزيادة مستوى إنتاجه في حدود 4 ملايين برميل / يوم وليبيا التي تدخل مرحلة إنتاج بحجم يتجاوز احتياجات السوق. صحيح أن العرض سيعرف تراجعا في المدى المتوسط في ضوء رؤية تراجع البترول الصخري في أمريكا. في هذه المرحلة انتقلت روسيا إلى الصدارة في تصنيف البلدان المنتجة لتعويض عجزها من المداخيل البترولية. يسجل تراجع في الغاز الصخري في ظلّ اعتبار أن عقود التصدير لم يتعدّ مفعولها إطار الإعلانات عنها فيما بقيت العقود التي وافق عليها الكونغرس محدودة، علما أنه لن تكون هناك رخص أخرى تمنح مستقبلا. ومن شأن اكتشاف آبار كبيرة للغاز في البحر بالشرق الأوسط أن يسمح بتقليص تبعية أوروبا للغاز الروسي ويؤثر هذا المؤشر أيضا على حصة الجزائر من الغاز ومن ثمة الدفع بالأسعار إلى أسفل وقد بدأت التهديدات لذلك مبكرا خاصة بإعلان دول مستهلكة النية في إنهاء العقود طويلة الأمد. وينبغي من الآن فصاعدا إدراك حقيقة أن سعر البترول لا يمكن أن يتجاوز ال 80 دولار / برميل وهو المستوى الذي يعادل الكلفة الإنتاجية الدنيا لمردودية الآبار الجديدة وينبغي أيضا العلم أنه أبعد من هذا المستوى يسمح بإدراج البديل الأكثر نظافة والمطابق للالتزامات والتعهدات المتضمنة في الندوة التغير المناخي بباريس (كوب 21) التي تفتتح غدا. وبالفعل يتعلق الأمر بالطاقات المتجدّدة وبالتحديد الأنظمة الهجينة شمس /غاز التي تكون منافسة في مجال السعر والأقل تلويثا. وهو في الواقع ما يطلق عليه اسم “التحول الطاقوي”. علما أن التقرير الأخير للبنك العالمي أدان الفحم واستعماله إلى غاية 2030. وذكر رئيس الوكالة الدولية للطاقة مرارا بالتزامات الألفية بأنه لا يمكن تحقيقها إذا أبقي على البترول والغاز في “المزيج الطاقوي”. وأعتقد أنه يجب الأخذ بجدية مسألة إرادة الإبقاء على أسعار البترول في المستوى الراهن يساهم في إزالة الريوع المحصلة من المحروقات ولذلك حان الوقت أكثر مما مضى منه لإعداد للخروج من النموذج الرعي الحالي وأذكر بتصريح وزير النفط السعودي علي النعيمي بقوله “يجب أن نترك البترول يستريح”.