تشهد القصة العربية حركية كبيرة رغم ندرة المتابعة الإعلامية والفضاءات المخصصة لكتابها فهي أيضا جنس أدبي يتطور ويتنوع ورغم ضغط المساحة والفكرة وقيد الايجاز يحاول كتاب لقصة تحقيق الإضافة وتحريك السواكن وتطوير السرد القصصي وفك عزلته حتى صار فضاء جامعا لمختلف الفنون ويبدو أنه قد تبوأ مكانا وسطا بين الشعر والرواية ليستظل عند كليهما كلما عن له ذلك فهو ينهل من الرواية في تنوع النظام السردي وتطوره واقتحام الفضاءات الجديدة، كما ينهل من الشعر ويستعين باستعاراته ومفرداته وطرائقه في القول دون أن ننسى توظيفه للكثير من التقنيات الفنية والسينمائية والمسرحية والتشكيلية حتى بات الحديث عن جمالية القصة العربية مقترنا بمدى اقترابها من هذه الأجناس والأنواع الأخرى وحسن توظيفها..لذلك يكون بحثي في هذا المقال عن جماليات السرد في مجموعة «حبق..وصبار» للكاتبة صليحة كرناني انطلاقا من اقتراب قصصها من خطين...خط الرواية بما يتيحه من تقنيات سردية وخط الشعر بما يتيحه من لغة شعرية. ولكن البحث في هذين المستويين لا يستقيم إلا بالتوقف عند العتبات وعوالمها. 1جمالية العتبات: تعتبر العتبات المحطة الأولى التي يلتقي فيها المتلقي بالنص الأدبي بغاية الاطلاع والمطالعة أو بغاية النقد والدراسة فالقارئ يسارع إليها قبل الغوص في العمل فهي الواجهة التي تنتج رغبة القراءة وهي التي تحمل مفاتيح أساسية لولوج النص ومدلولاته...فلم يعد ينظر إليها على اعتبارها تزويقا وتزيينا للعمل ولم يعد فضاء العتبات مجرد بهو جميل بل أصبح ينظر إليه كنص مواز له وظائف متنوعة وهو أحد أهم المتعاليات النصية كما حددها جينيت...أنه المناص وهو ينقسم إلى مناص قريب يعنى به العتبات الموجودة في الكتاب مثل العناوين والاهداءات والتصدير والتقديم ومناص بعيد وخارجي ويعنى به حوارات الكاتب وتعاليقه والتناول النقدي والإعلامي للعمل الأدبي. ومن شأن هذه العتبات أن تكشف لنا عن توجهات العمل وملامحه كما نستطيع أن نستشف من خلالها الهواجس الجمالية للكاتب ونتبين وجهته الفنية ومدى حرصه على الإضافة وكسر أفق التلقي ومفاجأتنا بلمسات فنية تفتتح المسار الجمالي للعمل... ولذلك فلا مناص ونحن أمام مجموعة قصصية وأمام عمل يروم البحث في جماليات القص من تأمل العتبات واستكشافها لذلك نتوقف في هذه المرحلة من العمل عند عتبات العنونة والإهداء... 1 العنونة: أ - العنوان الرئيسي: حملت المجموعة عنوانا رئيسيا تمّ اختياره من بين العناوين الداخلية أو عناوين القصص الواردة في المجموعة ولعلّ رفع هذا العنوان إلى الواجهة واعتماده كغلاف رئيسي يعطيه الامتياز ويوجه دعوة خفية للتركيز عليه وعلى القصة التي عنونت به... * على مستوى الكتابة : ورد العنوان مركب عطف بالواو وهو ما لا يقتضي وجود تنقيط بين المعطوف والمعطوف عليه ولكننا نعثر هنا على ثلاثة نقاط وردت بعد الكلمة الأولى وهو ما يعني ضمنيا وجود حذف غامض من شأنه إرباك القارئ وتنبيهه إلى نوايا التجاوز في المجموعة فنحن أمام سؤال الفراغ الموجود في هذا التركيب وهو نوع من إثارة القارئ وتنبيهه و مفاجأته... على مستوى المعاجم: يرد العنوان رومنطيقيا فالكلمتين تنتميان إلى المعجم الطبيعي لكنهما تختلفان في دلالتهما الرمزية...فلم يكن اعتماد الحبق والصبار مجرد تركيب مجاني إنما كان علامة دالة على تلاقي مختلف...فالحبق ريحان طيب الرائحة والصبار نبات يستعمل للتجميل فهما من نفس الفضاء ...فثمة رمزية في النباتين وربط لهما بشخصيات العمل كما أنهما يرسمان بطبعهما مشهدا جميل الرائحة والمنظر... ب - العناوين الداخلية ^ على المستوى التركيبي: نسجل في هذه القائمة تنوع أشكال العناوين وتراكيبها ومن أبرزها حضورا: - عناوين يحضر فيها مشتق: القرار - الحروف المهاجرة - نوايا طيبة / أمر بالإخلاء / الرسالة الأخيرة / على حافة الانهزام وهو ما يدل على أهمية المصادر في هذه العناوين ولعلّ حضور المصدر عوض الفعل من شأنه حجب الفاعل وتغييب الشخوص وانتظار فواعل لهذه القصص... - عناوين مركب إضافي وهو ما يسمح بعناوين تقيم كلماتها علاقات مجازية الشعري: امرأة الماضي - بقايا ذاكرة - وردة الرمال - عناوين مركبات نعتية (نوايا طيبة / الرسالة الأخيرة / ليلة غجرية) ولكن الملاحظة التي بدت لي في هذا مشكل التنقيط فغياب الاستفهام في من سرق أحلامي الواردة في صغة سؤال في العنوان وفي النص يوحي بأمر ما ويحول السؤال إلى تركيب موصولي اسمي وهو ما يعني الاستغناء عن الإجابة المنتظرة. وأما على حافة الانهزام فتحضر أداة تعجب لا مبرر لها في الحقيقة وهو ما يرفق العنوان بحالة من التعجب والتأثر. على مستوى المعنى تلوح في هذه العناوين عدة دوائر من بينها ما يتعلّق بالزمان والمكان ومنها ما يحيل على بعد نفسي فهذه العناوين توحي بالاسترجاع والحنين إلى الماضي حوار مع الماضي (امرأة الماضي - بقايا ذاكرة -) وتميط اللثام عن توتر العلاقة مع المكان (وجه خلف الجدار - أمربالإخلاء - الحروف المهاجرة -) كما تحيل عناوين أخرى على الذات وتحمل نوعا من الانكسار والألم (من سرق أحلامي- نوايا طيبة - الرسالة الأخيرة - الشرخ). والحقيقة أن هذه المؤشرات التي باحت بهاهذه العناوين تدفع بنا بقوة إلى عالم القصص حيث انكسار الأحلام يهد الكثير من الشخصيات وحيث يبدو التضايق كثيرا من المكان وحيث يلعب الزمن لعبته ويهزم مختلف شخصيات هذا العمل ويؤجج حيرتها... 2 الإهداء صاغت الكاتبة إهداء متميزا لمجموعتها لا يخلو من الجمالية وهو يجمع بين الإهداء الخاص والمحدد «إلى بناتي عبير وياسمين وزينب» وبين الإهداء المشترك الذي يكون فيه المرسل إليه غير دقيق ولكنه متخفي تحت الكلمات وقد يصبح متعددا في نظر المتلقي «إلى امرأة تختزل في ابتسامتها كل أوجاعي». واللافت في هذا الإهداء انه لم يكتف بتحديد المرسل إليه وإنما تضمن نصا قصيرا يغلب عليه الحوار أو إلى قصة قصيرة جدا: أقول - لمن تبتسم الوردة. - وقد ظفرت بها عند سفح الميقات. - بعثرتها. - لملمتها. ثم ساقتها يداي إلى تبغ الكلمات. ولعلّ القارئ ينتبه إلى ما في هذا المقطع الإهدائي من لغة شعرية ومن مفردات عهدناها في ميدان الشعر وخصوصا عند الرومنطيقيين مثل ابتسامة الوردة ونبع الكلمات... فلعلّ نص الإهداء يلفت انتباهنا إلى شعرية لغة الكاتبة ويفتح الذائقة على انتظار للغة شعرية متميزة في هذه القصص... فعتبات المجموعة في مجملها تحمل بذور نصوص قصصية لا تخلو من جمالية وهو ما سنبحث عنه في مستوى السرد، حيث تلوح عدة ظواهر سردية تكشف عما في هذه الأقاصيص من حسّ جمالي وحرص على إنشاء نص قصصي متميز... 2 ظواهر السرد: تختلف الممارسات السردية في هذه القصص وتبدو الكاتبة حريصة على تنويع إشكال السرد والقطع مع السرد الرتيب ومع نموذج السرد التقليدي مستخدمة في ذلك جملة من تقنيات السرد الحديث. فالسرد يتردّد بين الماضي والحاضر وبين الخارج والداخل وبين القص والوصف الباطني ويمكن أن نتبين هذا الحراك من خلال متابعة نوع السرد والتوقف عند الرؤية السردية وغير ذلك من الظواهر السردية... 1 السرد التابع: السرد التابع هو السرد الذي يتابع الأحداث ويلاحقها من زاوية الماضي وتغلب على أفعاله صيغة الماضي ويحوز مساحات هامة من هذه الأقاصيص وقد تميز هذا السرد بكونه سردا مجملا يلخص السنوات في اسطر «تتراقص تلك الصور والملامح مبعثرة لتصطف أمام عينيها بأبجدية منتظمة فتذعن لها بعد عناد كبير فترى حلمها عذبا ورائعا يوم أتمت دراستها بالجامعة وفرحتها كبيرة يوم حصولها على عمل حكومي فقد تعدتها فرحتها لتسكن عيون العائلة الكبيرة البسيطة. لم تذهب حياة بعيدا بنشوة النجاح....» ص9. فهذا المقطع القصصي تسرده الكاتبة بضمير الغائب وهو يلخص في بعض الأسطر مسيرة سنوات فهو سرد مجمل ويتميز بالإيجاز والتلخيص ذلك أن الكاتبة لا تتوسّع في وصف الأحداث ولا في تفاصيلها الدقيقة. ولكن، هذه المقاطع من السرد التابع ليست طويلة إذ سرعان ما تترك المجال لسرد الذاكرة اعتمادا على تقنية التذكر والتداعي فتتسلل الساردة إلى ذاكرة الشخصيات أو ما يدور في باطنها من أفكار وأحاسيس من ذلك تردد عبارات تحيل على العودة إلى الذاكرة واسترجاع الشخصيات لماضيها من قبيل الأمثلة التالية: - «إنها تذكر جيدا ...»قصة القرار» ص 10. - «انكشفت ستائر ذاكرتي على وجه اعرفه جيدا...»قصة امرأة الماضي»، ص17. -»حينما كنا نتحلق حولها صغارا ...نغرق في الإنصاتإليها ...» قصة من سرق احلامي». ص 34. إن السرد التابع يخرج عن رتابة القص ويخرج عن الراوي الذي يقص الأحداث بانتظام ويتابعها خطيا إلىراو يعيد ترتيب الأحداث ويفسح المجال لتداعيات الذاكرة وهو ما جعله يمتزج بالسرد الآني في مختلف القصص... »يتبغ»