إذا كان الدكتور السعيد بوطاجين يقدم كتابه "السرد ووهم المرجع" بوصفه مجرد مقاربات نقدية، فإن هذا المنجز النقدي في تصوري يمثل أحد أهم الأعمال النقدية القليلة المهمة التي تناولت المنجز السردي الجزائري قصة ورواية في تحولاته المتعددة تناولا مختلفا ومنتجا نصيا نظرا للغياب الفادح الذي يشهده حقل النقد السردي الجزائري مقارنة بالنقد الشعري ولذلك عوامل وملابسات سوسيو تاريخية تحيل في مجملها إلى طبيعة البنية الثقافية العربية التي لا زالت ترى في الشعر ديوان العرب الأول وبسبب هذا أهمل النقاد القدامى وأئمة البلاغة العربية تلك النماذج المتنوعة من النثر العربي القديم وانصبت كل جهودهم النقدية على إشكالية المعنى واللفظ في الشعر العربي واللغة والإعجاز القرآني وعمود الشعر ووضع قواعد الشعرية العربية ومن هنا يكتسي كتاب "السرد ووهم المرجع" للدكتور السعيد بوطاجين أهمية خاصة ومميزة في المخيال الثقافي للقراء والدارسين والنخب المعنية برصد تحولات الكتابة السردية في الجزائر والتي عرفت في السنوات الأخيرة تراكما يحتاج إلى مقاربات نقدية متعددة ومتنوعة تنوع أشكال الكتابة السردية ذاتها وهو يشيرفي المقدمة التي وضعها لكتابه إلى أنه في السنوات الأخيرة أولى اهتماما خاصا بما يكتب في الجزائر بدافع التعريف به في المنابر المحلية والعربية بعد أن لاحظ أن السرد الجزائري بدأ "يستقل شيئا فشيئا عن المفاهيم الغيرية مكونا بذلك عالمه الخاص" ومعنى ذلك أن السعيد بوطاجين قد أقر أن هناك خصوصية سردية بدأت تميّز النص السردي الجزائري عن غيره من النصوص السردية العربية لتفادي الأشكال السردية الوافدة المهيمنة على لاوعي السارد الجزائري التي يرى الناقد أن حضورها "لم تكن له مبررات وظيفية مقنعة" ، وكعادته بوطاجين لا يعتبر رؤياه النقدية نهائية أو ناجزة فهو ينفي عنها صفة الكمال تاركا إياها لمزيد من الاختبار والمراجعة النقدية وإثارة السؤال الحواري الذي لابد منه مبتعدا كل الابتعاد عن الأحكام المطلقة الوثوقية بما يؤسس لرؤياه النقدية انطلاقا من نسبية منظوراته في النقد والتحليل من زاوية علم السرد أو السرديات كممارسة للتجلي النقدي طالما أنه لا توجد قراءة بريئة وأن "كل القراءات هي إساءة قراءة" على رأي ديريدا، ففي قراءته لرواية مالك حداد "الانطباع الأخير" يغوص عميقا في المنسي والمغيب الذي أهمله النقد الأدبي الجزائري المكتوب باللغتين العربية والفرنسية.. النقد الذي تناول رواية "الانطباع الأخير" لمالك حداد وفاته أن ينتبه لغياب السرد وهيمنة الحوار لدرجة التواشج الصارخ بين "وضع العنوان ووضع المقدمة الافتتاحية" فيحلل ذلك من منطلق مكاسب السميائية السردية مجال تخصصه الجامعي بالكشف عن البنية السطحية وحركة الذوات الفاعلة بحذر شديد من دون الدخول في استحضار وجوب "الكفاءة المفوضة من الذات العليا السارد" التي تتناسل كثيرا في بحوث غريماس السردية عبر كتابه "البنيوية الدلالية" وغياب السرد بهذه الكيفية عند مالك حداد في "الانطباع الأخير" تاركا المجال للحوار أحيانا وأحيانا أخرى على ما يذكر السعيد بوطاجين للتوقف والانطباع والتأمل لا يعتبره الناقد قصورا من مالك حداد أو أنه يشكل انكماشا في البنية الروائية بل يراه "طريقة وغاية جمالية". وفي نظره أن رواية "تيميمون" لرشيد بوجدرة تحتاج إلى مقاربة خاصة من وجهة علم السرد حتى وإن لم يصرح بذلك ولأجل هذه الغاية بحث فيها عن المستويات السردية كالسرد الآني والسرد التابع والتسريد بما ينطوي عليه من أشكال خطابية كالخطاب المنقول والخطاب الناقل للمادة السردية مستفيدا من مكتسبات مدرسة الشكلايين الروس في هذا السياق التي كانت أول من طرحت مستويات متعددة لمختلف أشكال الخطابات السردية في أبعادها المختلفة باعتبار أن رواية "تيميمون" تعتمد على بنية سردية الحاضر فيها يحيل لموقع السارد الخارج نصي أي الراوي وهو في صحراء تيميمون يستعيد سنوات الطفولة بقسنطينة يستدعيها السرد التابع الذي يدين لمرجع هو الماضي يستقي منه كل قيمه المرجعية ويلاحظ الناقد حضورا قويا ولافتا للنظر هو السرد المكرر في هذه الرواية، ولإثبات هذه الظاهرة الأسلوبية يقدم الناقد أمثلة عن ذلك من المقاطع السردية التي تتكرر فيها جمل وملفوظات بعينها تخضع أحيانا لبعض التحويرات الطفيفة، حيث أنها تقوم كما يرى بوطاجين "بوظائف تأكيدية لجمل أو مفاتيح قامت عليها الرواية" وهي ملاحظة نعتقد أنها في محلها لأن ظاهرة السرد المكرر تكاد تشكل خصوصية أسلوبية عند رشيد بوجدرة في جل أعماله الروائية بدءا من روايته الأولى "التطليق" من دون أن يغفل الناقد عن ظواهر أسلوبية أخرى في "تيميمون" كالسرعة السردية مثلا التي تتحدد بالعلاقة بين "مدة هي مدة الحكاية محكومة بالثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور وطول هو طول النص مقياسه السطور والصفحات بما يطرأ على نسق السرد وإيقاعه" ، الأمر الذي قاده إلى تأمل ذلك بوصفه جزءا من خطاب سردي كنوع من التسريد أو خطاب مسرد" تتحول فيه أقوال الشخصية إلى حدث أو عمل يعرضه الراوي مثل سائر الأحداث والأعمال"، إذ يعتبر بوطاجين رواية "تيميمون" امتدادا لأعمال الكاتب الأخرى الروائية لاعتمادها كما يرى "على التناص الداخلي بأنواعه وجزئياته"، التناص الذي يتجنب السعيد بوطاجين استخدامه أو استثمار أدواته ويوظف بدلا عنه مفاهيما أخرى كالسرد المكرر والتأسلب والتمشهد والتأسرد وغيرها من حيث أنه تناص داخلي ولا يشير إلى تقاطعات مع نصوص أخرى لكتاب آخرين مما يجعل هذا النوع من التناص على ما يرى بوطاجين "بحاجة إلى مزيد من الدقة لإبراز خصوصيات النص"، الخصوصيات الأسلوبية على وجه التحديد. لقد بدا واضحا أيضا أن تجربة الروائي الحبيب السائح في تحولاته الجديدة قد فرضت نفسها بقوة أيضا في الفضاء النقدي الجزائري بحكم التجريب اللغوي الذي يمارسه الروائي لعله يرمم بعض ما كسرته الإيديولوجيا وامتلاء الآخرين الذين تنكروا له بعد صدمة "زمن النمرود" أو لغة اللغة وكان لابد للسعيد بوطاجين أن يتوقف عند هذه التجربة في طبعتها الجديدة واحتفائها بالعنصر اللغوي كرافد أساسي ومهم في "ذاك الحنين" وفي "تماسخت دم النسيان" وهي تتسم "بازدواجية إنتمائها إنتماء للواقع لأنه مادة السرد وانتماء للغة لأنها تقوم بفعل إبلاغي له مرجعية واقعية أو شبه واقعية"، فيستخلص الناقد انفتاح "ذاك الحنين" على مكونات ثقافية وفكرية متعددة المشارب والمناهل تستقي قيمها المرجعية من ثراء الذاكرة القرائية للروائي يذكر منها القرآن والكتاب المقدس والشعر العربي القديم والأسطورة والخرافة والشعر الشعبي والبلاغة وفن المقامات والآداب الأجنبية، ومعنى هذا أن "ذاك الحنين" مثلما أشرنا في مناسبة أخرى، كانت تشكل لحظة القطيعة مع الكتابة الروائية الواقعية المنخرطة في الهم الإيديولوجي الذي كان السائح أحد ممثليه قطيعة تجلت على وجه الخصوص في كثافة لغة السائح الروائية وانفجارها الدلالي والمجازي وانفتاحها على مكونات الحلم والشوق والموت والعوالم الصوفية والغرائبية في بعدها الأنتروبولوجي البحت"، وعليه يؤكد أن السارد "يمزج بين عناصر مختلفة مشكلا أحداثا وحالات لأن اللغة في تشكلاتها تصبح هي الحدث مقارنة بالأحداث الروائية التي تجئ خافتة وبسيطة ولا تلفت الانتباه"، ليستخلص أن هذا "العدول الأسلوبي" "الغاية الأساسية التي توخاها السارد بالنظر إلى كيفية التعامل مع المكونات الأخرى كالزمان والمكان والشخصيات" والسؤال الذي ينبغي أن يطرح وفقا لهذا المنظور ما معنى أن تلقي اللغة بظلالها على عناصر التشكيل الروائي مجتمعة وهل يمكن لشحنة اللغة ومفعولها السحري أن تعوض وحدها القارئ العادي عن "المتعة النصوصية" بتعبير رولان بارت التي يبحث عنها قارئ عادي بين فصوص الرواية.. قارئ لا حول له ولا قوة ولم يمتلئ بعد بمركزية اللغة وبالأسئلة العميقة التي تسكن تجاويفها.. هل يمكن القول مثلا إن السائح وفقا لهذا "العدول الأسلوبي" بتعبير بوطاجين الذي يتوخاه في تجربة الروائية الجديدة هو روائي يكتب لقارئ مستقبلي أو أنه يستدعي نوع خاص من القراء هو بصدد التشكل والحلول اللغوي، لا أملك في الواقع أجوبة فالقيم التي يتأسس عليها النقد الأدبي المعاصر كما أعتقد قيم تتجنب الإجابات القطعية إني أثير أسئلة فقط رغبة مني في مزيد من إثارة الأسئلة حول راهن الرواية الجزائرية وعلاقته باللغة كتجل لساني إلى حد الخروج عن الإملاءات المرجعية أو "وهم المرجع" الذي يناهضه السعيد بوطاجين ومن نافلة القول إن السعيد بوطاجين لا يميز أبدا بين روائي من جيل وآخر من الجيل الذي يليه ولا بين روائي يكتب باللغة العربية وآخر يكتب باللغة الفرنسية ولا بين القصة والرواية بالنظر للسلطة الرمزية التي أصبحت تتربع عليها الرواية خلافا للقصة القصيرة بدليل أنه جمع في كتابه "السرد ووهم المرجع" بين مالك حداد ورشيد بوجدرة وعبد الحميد بن هدوقة والحبيب السائح وعمار بلحسن. لقد حاول مرة أخرى البحث عن خصائص "شعرية السرد في رواية غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة وهو بهذا يريد استكمال إثارة سؤال الكتابة الروائية في "غدا يوم جديد" الذي كان قد دشنه بإصداره لكتاب نقدي مهم سماه "الاشتغال العاملي.. دراسة سيميائية لغد يوم جديد"، استثمر فيها بروح علمية بعض مكاسب النظرية السيميائية السردية التي اقترحها غريماس وشكلت ما يشبه الهوية النقدية لنقاد آخرين على غرار جوزيف كورتيس وجون كلود كوكي وكلود بريمون، استفادوا من الإرث الغريماسي في حقل السيميائيات السردية بصورتها العلمية التقشفية الصارمة في بدايات عطاءاتها وأصبحوا يشكلون فيما بعد ما يعرف بمدرسة باريس للسيميائية مقترحا ملامسة حدود "الأدوار العاملية" لبعض الفواعل السردية ولأن السعيد بوطاجين قاص في المقام الأول ويعرف حدود اللعبة السردية أو البرامج السردية المعاشة أو المتخيلة في الرواية وليس مجرد باحث جامعي من أولئك الباحثين الذين يحلوا لهم تقديم تطبيقات نقدية مشوهة يغلب عليها الجانب التقني المتماثل مع ثقافة الإلزام المدرسية التي ينصاع لها الباحث دون فعالية إنتاجية تذكر نتيجة الخلط المفاهيمي المتولد عن غياب الإطار النظري والسياقات المعرفية كفضاء إبستيمي لنشأة النظرية وتشكلها وكمرحلة أولى افتتح الدراسة بضرورة التنبيه إلى أنه "سوف يتفادى التحليلات الآلية المائلة إلى حفظ النظريات ونقدها فوقيا" لتجاوز ما يسميه "بالمعيارية الآنية كنتيجة ذات علاقات سببية لبنى معرفية أصلية أسهمت في إنتاجها" إلى الدرجة التي جعلته يلجأ إلى اختيار بعض الترجمات المصطلحية التي قدر أنها من الدقة بمكان مستعينا ببعض أعمال عبد السلام المسدي وسمير المرزوقي وجميل شاكر وميشال شريم وفي بعض الأحيان يقول "كنت ألجأ إلى الشرح من خلال استعمال جمل كاملة تهدف إلى تقريب المعنى من المتلقي" ومما يمكن التأكيد عليه وهو يستكمل ملف الكتابة الروائية في "غدا يوم جديد" في بحثه عن شعرية السرد الإشارة إلى أنه لا يتوخى من ذلك الحفر في باطن اللغة الشاعرية في معناها السائد والنمطي فما يعنيه بشعرية السرد هو أدبيته أي ما يجعل الأدب أدبا بالمعنى الذي يحدده تودوروف في كتابه "الشعرية" فيسائل في هذه الرواية حركة الشخوص والبرامج السردية التي تتجلى عبر مستويات السرد محددا أهم المستويات وأكثر شيوعا كالسرد المكرر والسرد المؤلف والسرد التابع والسرد المتقدم من دون التغاضي عن بعض الفجوات السردية القائمة بفعل اهتمام السارد كما يرى "بالأنواع الخطابية الناقلة لكيفية تشكل المشهد قصد الاقتصاد السردي أو البحث عن طريقة لتفادي التضخمات النصية" بالاعتماد على بعض مفاهيم جيرار جينيت في علم السرد من خلال "المسافة أو المنظور" بوصفه مبحثا من مباحث الصيغة "يخص العلاقة بين السرد والحكاية يتم انطلاقا منه التبئير" للنظر للعالم الروائي من زوايا عدة ولم يقتصر جهد الناقد التحليلي على الرواية فقط بل خصص أيضا للقصة الجزائرية المعاصرة نصيبا من تناوله النقدي. لقد قدم السعيد بوطاجين مقاربتين الأولى خص بها تجربة عمار بلحسن القصصية عبر مجاميعه الثلاث التي تركها "حرائق البحر - الأصوات - فوانيس" والثانية تناول فيها بالنقد والتحليل المجموعة القصصية الأخيرة للروائي المرحوم عبد الحميد بن هدوقة "ذكريات وجراح"، إذ يفضل الناقد مفهوم الكتابة السردية بدلا من القصصية وهويحاول إضاءة الجوانب الداجية في المنجز القصصي لعمار بلحسن، حيث يضع العنوان التالي "عمار بلحسن والكتابة السردية" رغم أنه يعلم مثلما نعرف جميعا أن القاص والسوسيولوجي عمار بلحسن لم يكتب الرواية إطلاقا وظل وفيا على عمره القصير لمحبوبته القصة القصيرة وهذا يعني أن الدكتورالسعيد بوطاجين يصر إصراره المحموم على الانتصار لرؤياه في معرفة السرد عموما دون تمييز معياري بين القصة والرواية انطلاقا من قوانين العرض والطلب والتداول الإعلامي والنقدي السائد أو التكريس لأجناس أدبية محددة دون أخرى معرفة السرد التي أكد عليها في مقدمة كتابه"السرد ووهم المرجع" بوصفها المحور العام الذي تأسس عليه الكتابة السردية عموما ومرتكزها الأساسي فيلاحظ اختلافا فارقا بين المجموعات القصصية الثلاث من حيث أدوات المعالجة الفنية والبناء السردي والتصوير الفني، ففي الوقت الذي يحاول فيه الكشف على اعتماد حرائق البحر على سرد "تمثيلي يتميز بغلبة الحوار الناقل للأحداث اللفظية أو استحضار بعض أجزاء الخطاب لفظا ومعنى باتباع الحرفية أو تحيين الأصول عن طريق الإسناد أو التأكيد على التفاوت اللفظي والأسلوبي بين الشخصيات لتجسيد وهم الواقعية" أو "وهم المرجع" مثلما يسميه ويتحفظ الناقد كثيرا على الجانب السائد الذي درجت عليه القصة الجزائرية المعاصرة وهي تتكئ على محمول إيديولوجي شبه واقعي نقل إلى نصوصنا السردية بحرفية ساذجة على الرغم من أنه لا يخلوا أبدا أي نص من أي ملمح إيديولوجي كيف ما كان شكل هذه الإيديولوجيا كون "الإيديولوجيا هي المعنى المعاش والانعكاس الممارس لمختلف العلاقات التي يقيمها الإنسان مع سائر الناس في الأشكال الأدبية أو القانونية والسياسية"، وهي موجودة شئنا أم أبينا، "كممارسة سيميائية مباشرة ومتجلية من خلال سند لساني أو أي سند آخر تسنينا سابقا على التجلي النصي"، وعليه لا يمكن أن يخلوا أي نص من أي تجل ما قبل نصي أو أدوار عرضية سابقة على النص الإبداعي تعمل على حث القارئ الناقد على ما يسميه أمبيرتو إيكو "التعاضد التأويلي للنصوص" أي أن يستخرج من النص الإبداعي المضمر فيه والمغيب من أجل قراءة البياض الذي تركه النص أو مساحات التشفير الرمزي والدلالي في تناصها مع المواقف الإيديولوجية للكاتب في ارتباطها بالمكون الإيديولوجي الذي يؤمن به ومن هذه الزاوية يذكر السعيد بوطاجين القارئ أنه لا يريد "الإساءة إلى حرائق البحر إنما يقصد إيجاد تعليل يؤطر المنطق السردي للتفريق بين الإلزام والالتزام بين الموقف الإيديولوجي والشكل الناقل له"، وهو يعتقد أن "الأشكال التعبيرية بما في ذلك السرد تقوم بوظيفة الارتقاء بالواقع إلى مستوى الفن" كي لا تصطدم المغامرة الإبداعية بما تسميه روبين سليمان "ثأر الكتابة" نتيجة إمحاء الأثر الجمالي وهيمنة المكون الإيديولوجي كمكون مرجعي على بعض الصيغ والملفوظات الحوارية والسردية والمعجمية والنحوية الناقلة للمادة القصصية ولأن السعيد بوطاجين أبعد ما يكون عن التعميم فهو يشيد كثيرا ببعض إبداعية عمار بلحسن من جوانب أخرى مثال ذلك "المقاطع السردية المعتمدة على الوصف أكثر من اعتمادها على الفعل نتيجة طابعها المشهدي الخافت"، الأمر الذي يحيل في تصوره إلى وجود "فروقات إبلاغية مدروسة بعناية شديدة" ولا يتوقف عند هذا الحد بل يسجل بروح الموضوعية التي يتحلى بها إعجابه الشديد بالنضج النسبي للكتابة القصصية عند عمار بلحسن في مجموعته القصصية الثانية "الأصوات" عندما يعاين "إدراك القاص للمواد المسرودة وللأشكال الواصفة" مثلما يرى أن هناك اختلافا جذريا وعميقا بين هاتين المجموعتين القصصيتين ومجموعة القاص الأخيرة "فوانيس" على الرغم من القاسم المشترك الذي يوحد بينهم وهو اللغة الشاعرية فيتبين للناقد "أنها تتعمق أكثر وغالبا ما يكون ضمير الأنا النقطة البؤرية التي تنسج حولها الملفوظات"ونتيجة لذلك يرصد بوطاجين كيف يتجلى في "فوانيس" أكثر مفهوم القصة - القصيدة حيث "ستتخلى عن عنصري الزمان والمكان لأنها تقترب من الاعترافات ذات المرجعية الواحدة والرؤية الواحدة للمادة المسرودة" من دون أن يحاول طرحها بديلا أو جنسا جديدا لاختراقها الشكلي الشبه إجناسي أو "لاعتمادها على التكثيف والوجازة والحجم الزمني وغلبة الطابع السردي"، وفيما أتصور أن ما ذهب إليه السعيد بوطاجين هو أمر وجيه ولا يختلف فيه إثنان إلا أني أرى أن هناك نصوصا قصصية قليلة في "فوانيس" لا تتخلى فيها القصة عن عنصرالمكان مثل "واريس" و«التنين" كجزء من البنية الفنية للنص أو كبؤر مركزية أو "لواحق منظورية" بتعبير الناقد الأمريكي دافيد هيرش، فبعض الفضاءات المكانية على غرار مقهى المنصورة وساحة فرانز فانون وشرفة المقهى الثري تيمقاد وحانة البراستول وحاسي الرمل وأبواب بلاد العطش القاحلة كما جاء في قصة "التنين" تظل محافظة على هوية النص والمنظور الرؤيوي لكاتبه حرصا من القاص على تقديم نص إبداعي يمثله ويعبر عن خصوصية الفضاء الذي شكل ذاكرته بما تنطوي عليه من دلالات نفسية وسوسيولوجية ورغم أن كتاب "السرد ووهم المرجع" هو كتاب في النقد الأدبي النصوصي تناول فيه السعيد بوطاجين كما رأينا عددا متنوعا من النصوص السردية من زاوية علم السرد أو السرديات فإننا نلاحظ في هذا الكتاب انبثاق مسحة نقدية هي أقرب إلى النقد الثقافي منها إلى النقد الأدبي النصوصي في مقاربته الأخيرة "الرواية غدا" رغم أن الناقد لا يصرح بذلك في هذه المقاربة تتجلى بوضوح مسألة "وهم المرجع" التي يناهضها السعيد بوطاجين من حيث أنه يركز على نقد مرجعيات الكتابة الروائية ونقد المرجعيات أو النقد المرجعي، كما هو معلوم هو فرع من فروع النقد الثقافي "الذي يتعامل مع النصوص الأدبية في سياقاتها التي أنتجت فيها بمعاملة النص على أنه علامة ثقافية قبل أن يكون مكونا جماليا تتحدد دلالتها أي العلامة الثقافية من خلال سياق المؤلف وسياق القارئ المؤول أو المتلقي لها" في إطار "وصل القارئ بالمقروء" بتعبير الجابري من خلال المرجع الذي تستند إليه الكتابة كبعد سوسيو ثقافي لمساءلة بنيات النص المرجعية وأنظمة تشكل الخطاب الإبداعي لملامسة أنساق مرجعياته وربما هذا ما قاد السعيد بوطاجين إلى نقد مرجعيات الكتابة الروائية والتساؤل عما قدمته من إضافات نوعية للرواية الجزائرية وللسرديات العربية على الرغم من عدم إيمان الناقد بمجايلة حقيقية تستند إلى فروقات معرفية أو حساسية إبداعية أو جمالية أو فلسفية تشكل تيارا أدبيا بالمعنى الجذري لمفهوم التيار الأدبي له خصوصياته الجمالية والإبداعية التي تتطلب مثل هذه المجايلة على الصعيد المفهومي النظري من حيث أن المرجع الواقعي الذي بنى عليه بعض الروائيين من الجيل الجديد نقدهم للرواية الجزائرية المكتوبة في فترة السبعينيات من القرن المنصرم الملتبسة بالنضال الإيديولوجي والصراع الطبقي والامتلاء بالآخرين وهمومهم على صعيد الملفوظ الروائي ومناهضتهم لها ولمساراتها يعاد إنتاجه الآن بكيفية أخرى بوصفه مرجعا أو دالا آخر أصبح يشكل وهما جديدا يعمل على تقييد أحادية المعنى بما يعني من انبثاق مركزية أخرى للنص الروائي الجزائري مرجعها الواقع السياسي والاقتصادي والأمني الذي عرفته الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988 بفعل وجود عدد محدد من السرود الروائية الصادرة في السنوات الأخيرة لم تستطع التخلص من "الصناعة الظرفية للمتخيل الروائي" بتعبير آمنة بالعلى، ومن مزالق السقوط في لغة الروبورتاج الصحفي لهيمنة موضوع الأزمة الأمنية والسياسية على حركة الشخوص والتشكيل الروائي وهي ذات الأهداف والمقاصد التي حذر منها السعيد بوطاجين "للمتخيل في مقاربة الأزمة إبداعيا ولامكانية انبثاق معنى آخر غير المعنى المكدس في الطرقات" لتفادي الخلط المفهومي بين المجتمع التخييلي للرواية وهو مجتمع له شروطه الخاصة والمجتمع الخارجي الذي يعرفه القراء ولا يحتاج إلى جهد للتعرف عليه إنها رؤية أو ممارسة نقدية لم يكن يهدف من خلالها السعيد بوطاجين إلى الانحياز لجهة أو منظور معين بقدر ما كان يريد أن ينتصر لرؤياه النقدية وقناعاته في الكتابة والإبداع ونقد كافة المرجعيات أيا كان شكلها وخلخلته للسائد والنمطي بحثا عن المعنى المتبقي أو المحتجب أو "المسكوت عنه" من مراجع الكتابة الروائية ومحمولاتها الأداتية والواقعية في حدود وسياقات مختلف التجارب الإبداعية السابقة منها أو الراهنة وما أنتجته في زمنها وبيئتها من منظومات إبداعية مختلفة نسبيا عما عداها وهذا أمر طبيعي جدا في كل عصر وفي فضاء ثقافي.