اللقاء الذي تنظمه مؤسسة «التميمي» مع مؤسسة «كونراد» محاولة جادة لطرح تساؤلات، تضيئ الإجابة عليها الواقعَ الذي نتعرض فيه إلى «تسونامي» إعلامي، يجمع بين الخداع المعلوماتي والبروباغاندا الاستعمارية، وهو واقع وَجَدَ في تخلفنا العلمي وقصورنا المعلوماتي وتفكك صفوفنا وضعف إرادتنا فرصته لكي يغرقنا بتحليلاتٍ تجعلنا استنتاجاتها نتخبّط كما تتخبط النحلة في شباك العنكبوت، وليسْتثمِرَ وضعية الإحباط التي يعيشها المفكر العربي فيدفعه إلى الرقص اللا واعي على طبول غربية، هيستيرية الإيقاع مشبوهة الأهداف. ومنذ طلب مني الأستاذ عبد الجليل التميمي إعداد مداخلة تتناول الربيع العربي وأنا أبحث عن نقطة انطلاق، وجدتها عندما تذكرت تعبيرا قاله الرئيس الجزائري الراحل، هواري بو مدين : الصراع الحقيقي في هذا العالم ليس بين الشرق والغرب ولكن بين الشمال والجنوب. ولعلي أضيف بأنه صراع بين قيادات الشمال وشعوب الجنوب. ومن المستحيل أن نفهم ونتفهم ما حدث في السنوات الست الماضية بدون أن نغوص في أعماق نحو ستة قرون سبقتها، وعلى وجه التحديد منذ الحروب الصليبية، التي ما زلنا نتعرض لها في العصور الحديثة. ألم يقل الجنرال «غورو» في دمشق أمام قبر هازم الصليبيين: عُدنا يا صلاح الدين، أولم تصدر في هذه الألفية تعليمات لدول عربية مسلمة بحذف تاريخ صلاح الدين وعقبة بن نافع وآيات الجهاد من الكتب المدرسية. ومن هنا فإن استرجاع بعض المواقف والأحداث ضرورة ماسة لنفهم الحاضر ونستشف آفاق المستقبل، وسأختصر أهم المعطيات في وقفات سريعة. الوقفة الأولى: في نهاية القرن الحادي عشر أطلق البابا أوربان الثاني صيحته لتجنيد المسيحية الغربية ضد الكيان الإسلامي في المشرق العربي، حيث كان الإسلام يتعايش بل ويتعانق مع المسيحية الشرقية، برغم ادعاءات بيزنطة ومبالغاتها. وكان تقدير الكنيسة الغربية أن العهدة العُمرية تشكل خطرا حقيقيا على نفوذها، بفضل الصورة التي أعطتها عن سماحة الإسلام، وكان تفهّمُ مسيحيي المشرق لخاتمة الرسالات السماوية وتقبلُ الكثيرين منهم لها خطرا داهما على نفوذ الكنيسة قبل أن يكون تهديدا لقدسية عيسى بن مريم، وهو ما يذكرنا باعتناق الدوناتيين في الجزائر للإسلام نتيجة للقمع الذي مارسته روما في القرن السابع الميلادي، والذي جسّده قسيس روماني وُلِد في الجزائر، ومنحته أوربا صفة القداسة ليكون مرجعية مسيحية كاثوليكية، وأصبح القسيس قديسا تحت اسم «سانت أوغستان». وتكاملت الدوافع والخلفيات عند جحافل الغزوات الصليبية، فمن باحث عن سلطان إلى هارب من سلاطين، ومن مهووس ديني إلى باحث عن إقطاعيةٍ حرمه منها نظام الإرث في أوربا، لكن ما يهمني هنا هو التذكير بالمذابح الرهيبة التي عرفتها المنطقة العربية آنذاك، وعلى وجه الخصوص مذابح القدس ومعرة النعمان وعكا، وكان الشعار الذي رفعه الصليبيون : «اقضوا عليهم، فالله سيعرف رجاله» (Tuez-les tous, Dieu reconnaîtra les siens ). وتواصلت المذابح، فعرفتها يافا في نهاية القرن الثامن عشر على يد نابليون، عندما أعدم عشرات المئات من الأسرى المسلمين والمسيحيين الشرقيين على حد سواء. وبين التاريخين وبعدهما عرف الجنوب الغزو الوحشي لجحافل الشمال، وكانت النفوس عندنا تمتلأ غضبا يوما بعد يوم، وكانت مأساة الهند العظيمة التي استعمرتها شركة، وأندونيسيا التي احتلتها دولة أوربية قد لا يتذكر كثيرون اسم عاصمتها، وما عرفته الجزائر في حرب الثلاثمائة سنة ضد الإسبان، ثم خلال الغزو الاستيطاني الفرنسي الذي امتد إلى تونس والمغرب وبقية الدول الإفريقية، والغزو الإيطالي الوحشي لليبيا ثم الحبشة، وممارسات بلجيكا في الكونغو وغيرها، وتواصل هذا كله بإقامة الكيان الصهيوني دولة، لعلها الوحيدة في العالم التي تفادت رسم حدود جغرافية واضحة، لأن منطقها يعتمد على التوسع، بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً، وتواطأ الشمال كله معها، رغم أنها كانت أسوأ من النازية والفاشية معاً. ولعلي أفتح قوسين لأقول إن هناك من يخلط عامدا متعمدا بين الفتوحات الإسلامية في أوربا، وبين مسلسلات الغزو الاستعماري، والفرق واضح بين الوجود الإسلامي في أوروبا، بكل ما أنتجه من إنجازات حضارية، والاستعمارِ الذي لم تعرف منه شعوبنا إلا الفقر والجهل والمرض والتشوه الفكري، وهو ما كان عملية تطهير عرقي واسعة المجال، لكن الشمال يُركّز على ما يقال إن المسلمين ارتكبوه في الحرب العالمية الأولى ضد الأرمن المسيحيين، برغم أن الضباط الأتراك الذين اتهموا بالمذابح حوكموا وعوقبوا، وبرغم أن المأساة كانت جزءا من حرب اختلط فيها الظالم بالمظلوم. وكانت خيبة الأمل الكبرى للوطن العربي خديعة «لورنس»، فيما سُمّيَ ثورة عربية كبرى، ثم التحالف الخبيث بين بريطانيا وفرنسا الذي أنتج «سايكس-بيكو»، بعد الحرب العالمية الأولى، بينما اختتمت الحرب الثانية بالمذابح الرهيبة التي عرفها شعبنا في مايو 1945. وعرفت أرض الإسراء والمعراج مذابح دير ياسين وكفر قاسم التي ذكرت بمذابح قسنطينة وقالمة وخراطة في الجزائر، ولم يتحرك العالم الحرّ كما يسمونه حتى عندما حدثت في لبنان فيما بعد مذبحة صبرا وشاتيلا ثم مذبحة قانا، وبينهما مذبحة بحر البقر في مصر، واقترن ذلك بعشرات الاغتيالات الجبانة التي طالت خصوم الصهيونية على أرض بعيدة عن الكيان الإسرائيلي، وكان هذا كله هو الأرضية الخصبة التي نمت فيها بذور الكراهية والحقد على أرضنا ضد كل من يدعمون العدو الصهيوني. وكان مما ضاعف أحقاد الشباب مأساة البوسنة ثم مأساة الشيشان على يد الروس والصرب، وهو ما جعل من اسميْ «سربرنيتشا» ثم «غروزني» رمزا للبطش المعادي لكل النزعات التحررية. ولم تتوقف المذابح، وما يعانيه شعب «الروهينغا» اليوم في ميانمار ليس ببعيد. هذا كله رسخ في الذاكرة الجماعية لشعوبنا، التي كانت تتطلع، منذ انتهاء الحرب الأوربية الثانية نحو استرجاع حقوقها الوطنية، وتآمرت السلطات الاستعمارية لاغتيال فرحات حشاد في تونس، ونفيَ سلطان المغرب، ووُوجهت النزعات الاستقلالية في القارة الإفريقية بمرحلة استعمارية جديدة قامت فيها الشركات الاحتكارية بخلق الفتن والاضطرابات، حيث كانت التقسيمات الحدودية الخبيثة تربة خصبة للصراعات المحلية، وعرفت القارة العذراء مأساة كاتنغا وبيافرا والحرب الأهلية في أنغولا وصولا إلى مذابح التوتسي والهوتو في رواندا، واستظلت المصالح الاحتكارية بعجز المنظمات الأممية عن دعم حقوق المضطهَدين، ببساطة، لأنها أنشئت على يد المضطهِدين، وهكذا فشلت عصبة الأمم في ضمان السلم القائم على العدل، ولم تكن الأممالمتحدة أكثر كفاءة، وعشنا مؤخرا سحب قرار عن وضعية العدالة في المنطقة، وقبله سحب تقرير غولد ستون، ولم تتخذ الأممالمتحدة موقفا عمليا واحدا ضد إسرائيل، التي لم تنفذ قرارا أمميا واحدا. باختصار شديد جدا، لم نعرف من الشمال وحلفائه إلا البطش والقمع، وهو ما تكفل به في بعض بلداننا، بعد انتهاء مرحلة الاستعمار المباشر، حكامٌ منا، حملوا جنسيتنا في جوازات سفرهم بدون أن يحملوا وطننا في قلوبهم ويحافظوا عليه بقدراتهم، وحُوّلنا إلى درك يحمي أوروبا مما يُسمّى الهجرة غير الشرعية، في تناقض تام مع دساتيرنا التي تنص على حرية كل مواطن في التنقل حيث يريد. وكان علينا أن نذكر أوروبا بما قاله بو مدين يوما للشمال، ومضمونه: قد تدفعون يوما ثمن عرقلتكم لتنميتنا وإصراركم على تفقيرنا عندما تهاجر نحوكم ملايين تفر من الفقر والجهل والمرض. الوقفة الثانية عندما تتنادى الدول الأوربية اليوم للقضاء على «داعش» يجب أن نذكّر بأن هذه المجموعات الإجرامية هي حفيدة تنظيم القاعدة، الذي أنشأته واشنطن لمحاربة موسكو بتمويل عربي وبتواطؤ إسلامي، وكان أخطر ما حدث هو أن المئات من الشباب البريء الذي جرى تدريبه على فنون القتال في أفغانستان ترك في العراء بعد سقوط نظام نجيب الله في كابول، فتحول إلى ورم سرطاني تبعثرت امتداداته عبر القارات، لتتجمع هنا وهناك على شكل خلايا شبه نائمة، تجتر الأحقاد وتمضغ الكراهية وتنتظر فرصة الانطلاق للانتقام، خصوصا ممن يحمون سلطات بلادها. ولقد كنا أول من حذر من الإرهاب بعد أن تعرضنا لإجرامه، بل ونبهنا إلى أن ترجمة كلمة (TERRORISME) هي «الترويع» وليس «الإرهاب»، لأن لكلمة «الإرهاب» مدلول غيرُ عدواني بواقع النص القرءاني. لكن العملية كلها بدتْ مخططات مشبوهة تتناقض أهدافها الحقيقية مع شعاراتها المرفوعة ووسائل تنفيذها، ومن هنا كان الفشل الذريع نتيجة حتمية لها. فقد أطلق الغرب، بعد تفجيرات نيويورك، حملة مسعورة للتجنيد ضد ما أسماهُ «الإرهاب الدولي»، ومنذ نحو خمسة عشر عاما جندت واشنطن تحالفا دوليا ضم أكثر من ثلاثين دولة لشن حرب بالغة العنف ضد أفغانستان، بحجة القضاء على «طالبان»، لكن أولئك الحفاة العراة ما زالوا إلى يومنا هذا رقما صعبا في المعادلة الأفغانية، مما يطرح ألف تساؤل وتساؤل حول المصدر الحقيقي لقوتهم، وحول حقيقة العجز الأوربي عن سحقهم، وبدون أن ننسى أن سرطان «القاعدة» كان صناعة أمريكية بتمويل عربي. وعشنا حملة أكاذيب مُقرفة، جعلت «غوبلز» يبدو كفأر هزيل في بلد تجتاحه المجاعة، وكان من أشهر تلك الأكاذيب الخطاب البائس لكولن باول أمام مجلس الأمن، إعدادا للهجوم على العراق كانت أفغانستان جسرا نحو العراق، القوة العربية الإسلامية الصاعدة علميا وحضاريا آنذاك، وهكذا لم يستأصل السرطان الأفغاني بل انتشرت خلاياه في الجسم الدولي كله، تماما كما يحدث عند التعامل الخاطئ مع المرض الخبيث، وتعاون الأقارب على تمزيق أعضاء الجسم الحيوية وهم يتتبعون الخلايا المرضية هنا وهناك. وارتبط ذلك بصور من الوحشية أصبحت مثالا للنذالة الحقيقية، وتابعت شعوبنا أخبارها في غواتنامو ثم أبو غريب، كما تابعت ما تسرب عن عمليات تعذيب رهيبة قامت بها أنظمة حكم عربية بتعليمات من مصالح الأمن الأمريكية، التي تفادت تنفيذها في سجونها حتى لا تحسب عليها. وهكذا، تزايد الغليان في نفوس أبناء أمتنا في كل مكان، بمن في ذلك من يعيشون في المهجر. وأعطى ذلك الفرصة لبعض أشباه العلماء المرتبطين بتوجهات مذهبية معينة لتجنيد شباب محدود الخبرة ملتهب العاطفة، دُفعوا لارتكاب عمليات ترويعية خدمت المخططات الغربية، مما يجعلني أتساءل عن حجم الاختراقات في صفوفنا. ولتوضيح إشارتي للاختراقات، أذكّر بأن مهاجري أمريكا من الأوربيين استأجروا من بينهم مرتزقة ألبسوا زي «الهنود الحمر»، كما أسموهم، ووضعوا الأصباغ على الوجوه وأكاليل الريش على الرؤوس، ثم هاجموا عائلات الأوربيين وقتلوهم بأساليب بشعة، وتعالت الصيحات تجرّم السكان الأصليين، فانتزعت أراضيهم وحشروا في المحتشدات بعد أن قتل منهم من قتل، وهو ما يجب أن نتذكره دائما ونحن نراجع بعض الجرائم التي عرفتها أوربا، وما يجب أن يستثير التساؤلات عن حقيقة وجود خلايا صهيونية هنا وهناك، نائمةً بعين واحدة. وكان الفشل الأكبر في حملة القضاء على الإرهاب، التي جندونا جميعا في صفوفها، هو عجز العباقرة عن تشويه رمز الإرهاب في نفوس مريديه، واضطروا إلى إلقاء جثمان «أسامة بن لادن» في البحر، خوفا، كما قالوا، من أن يتحول قبره إلى مزار مقدس، وكان من المضحك المبكي أن القوى العظمى تحس بالرعب من جثة ممزقة. وعندما نتابع اليوم الحملات الإعلامية ضد «داعش» علينا أن نتساءل: كيف نمت تلك الحشود المقاتلة وتضخمت في بيداء، كان يُقال لنا أن الأقمار الصناعية فوقها قادرة على تصوير «ماركات» الملابس الداخلية لقياداتها المحلية، ونتساءل كيف تمكنت عناصرها من الحصول على ما تملكه من أسلحة ومعدات ضخمة عميت عنها تلك الأقمار، ومن ضَمِن لكل أفرادها تلك الأحذية العسكرية الأنيقة، والرايات السوداء والأزياء البرتقالية التي بدت وكأنها واردة للتو من مصنع واحد، ولماذا التركيز دائما على تسمية الدولة الإسلامية، بحيث يربط الإسلام أوتوماتيكيا بكل عمليات الترويع التي يعاني منها أساسا جموع المسلمين، والسنة منهم على وجه التحديد؟. الحلقة1