كما كانت أيضا منزل ومحضنا لأقطاب الحركة الوطنية الإصلاحية، الذين رأوا من شرف المكان قداسة تمكن من تحقيق الأهداف، و المثل العليا للأمة جمعاء، و لعل من أهم أحداث ذاك النشاط الشامل، زيارة الأمير خالد بدعوة من مناضليها ومثقفيها عام 1922، بعد إحباط مساعيه الجادة في عرض القضية الجزائرية على المجتمع الدولي، ليجد أن سبيل النضال السياسي الطريق الأنسب لتحقيق أهداف الجزائر المستقبلية، فحل ببسكرة واستقبله أهلها خاصتهم وعامتهم استقبال الأبطال المنتصرين، وشمله من أهاليها كرم الضيافة والترحاب قولا وفعلا، فقد دبّج في هذا التشريف وأرخ له العديد من الشعراء بقصائد ومقطوعات، لعل ما قاله الشيخ الشاعر الشهيد محمد الأمين العمودي في قصيدته الترحيبية كان الأفضل، وراق الأمير وأعجبه، لذلك قامت جريدة الإقدام وهي لسان حال نضال الضيف الأمير خالد بنشرها على صفحاتها، تخليدا للحدث الذي اعتز به أبو الحركة الوطنية والنضال السياسي بالبلاد، من خلال عمله على إرساء قواعده، وخاصة في المشاركة الاجتماعية العامة لبناء اجتماعي حضاري، بدعوته إلى تأسيس الجمعيات والنوادي والفرق الفنية والمسرحية في كل مجتمع حتى نكون على المسار الصحيح . وقد شملت قصيدة الترحيب على عديد معاني الود والتقدير والاحترام الذي يمكن أن يقدم لتكريم ضيف مميز مثل الأمير خالد في مقامه و شخصه و نسبه و مجهوده و قال العمودي في بعض أبياتها مادحا : أهلا بمقدمك ، الذي ابتهجت له منا القلوب، ومنزل الفرقان وتباشرت بك أمّة ، عملت بما أوليتها من سابق الإحسان شَرّفتَ ( بسكرة ) فيوم قدومكم عيد لأهل الدين والإيمان أسمعتنا آي البلاغة مرشدا ونصحت حقا أمّة القرآن أيقظت شعبا طالما أَلِف الكَرَى وقضى الدهور بحالة الحيران() لقد أرخ الشاعر نشاط الأمير خالد من خلال جملة من الخطب البليغة التي ألقاها على سامع زعماء الإصلاح، ونشطاء الفعل الثقافي ببسكرة وعامة الناس، مستلهما تلك الروح من مقومات المنهج الإسلامي القويم، الذي يؤكد الأمير أنه الأوحد في مقاومة المستعمر . هكذا أحدثت هذه الأبيات الشعور الحي في المستمعين، وأكدت على قيمة الزعيم الوافد وثمّنت جهوده، فكان أن حرص الأمير على نشرها بجريدته الإقدام، مؤرخا من خلالها لكل شيء زيارته وحفاوة الاستقبال، وجزئيات مشروعه الذي انطلق من ثرى بسكرة المباركة بطهره وعنفوانه، ولكن الجميل في الموضوع وهو الذي نؤكد أنه ينشر لأول مرة ويتمثل في رد الأمير خالد على تحية بسكرة وشاعرها العمودي، ورد التحية كما يقدره الأمير وأرباب البيان لا بد أن يكون على صورة ما كانت عليه التحية أو بأفضل منها . هكذا نكتشف أن الأمير خالد رد على حفاوة الاستقبال البسكري بقصيدة شعر، لعلها تكون قلم البيان الشعري الوحيد الذي خطه الأمير فلم يُعثر له على قصيدة أخرى، وقد خص بها مدينة بسكرة دون غيرها مطلقا، وقد يعود ذلك إلى أنها من أولى المناطق التي عرض فيها الأمير ملخص أفكار مشروعه الحضاري. و لقد قام بنشرها في ذات عدد جريدة الإقدام والتي قدم لي أخي الباحث الأستاذ فوزي مصمودي مشكورا نسخة مصورة عن الجريدة واشتمل رد التحية على رسالة للأمير خالد وقصيدة الشعر الترحيبية، ثم ختمها بقصيدة من وحي خياله تتألف من ثلاثة عشر بيتا، موزونة على ذات وزن قصيدة العمودي وقافيتها ورويّها، قدّم فيها شكره وعظيم امتنانه لعبق تاريخ المنطقة الذي وشح صدره، وأصالة شعبها وعظم تاريخ جهادها، شادا على يد أبنائها في مواصلة مسار النضال، وعدم الانهزام أمام الأعداء، مرددا على الأسماع؛ بأن تاريخكم يا شباب بسكرة يحتم عليكم أن تكونوا سواعد إضافية، ومتجددة لحماية الوطن والهوية والإسلام، ونحن في هذا المقال نقوم بنشر القصيد كما جاء في صفحة جريدة الإقدام لأول مرة بعد الجريدة طبعا، حتى نزداد يقينا من عظيم شموخ بسكرة في تاريخ الجزائر، وقوة إسهامها الفعال في بناء أجيال الاستقلال، و رادته وفاعلوه الحقيقيين . و نص القصيدة كما يلي : هَبَّ نسيمٌ عَبِيرُهُ كالبان لما حللتُ حديقَةَ الزيبان حيَّتْ فأحيت قلب مشغوف بها مضنى غدا من حسنها الفتان فانزل ببسكرةٍ تكن متنعّما وموقّرا ضيفا عظيم الشان دار المروءة والشهامة والقِرَى فبفضلها فازت على البلدان فيها رجال العلم والتقوى معا السالكون بمقتضى الفرقان الراغبون بحسنهم تاج العلا أهل الشهامة سادة الأقران وشبيبة طلع نضيد مثمر نخل بسيق يانع رياني شبت على حبّ البلاد و أهلها وتزيّنت بمعارف و بيان فاستبشر الوطن التعيس وأرجعت روح الحياة لجسمه المتفاني عُرفوا بقدر الباذلين لنفسهم مرضاة حبّ الله والأوطان لو في زكاة النفس نيل للمنى لوهبهما قسما إلى الرحمان يا أهل بسكرةٍ ملكتمْ أَلْجنى بمكارم الأخلاق والإحسان شعري ونثري عاجزان لِيُعربَا لصنعكم عن خالص الشكران() فالقصيدة على بحر الكامل لا كسر فيها ولا تحوير، رويّها موحد هو ذاته رويّ بحر قصيدة الأمين العمودي، واشتملت على فصاحة وتماسك في معانيها، ما يبين أن الناظم كان قارئا ومتذوقا للشعر العربي، فهي على نمط رد تحية وكفى، الذي عرف بين الشعراء على صفحات الجرائد آنذاك، أخذت ملامح آليات شعراء و ناظمي تلك الحقبة، بما نلمسه من نبرة هادئة و رزينة، تدل على حكمة وشخصية صاحبها، أما أفكارها فقد حملت جملة من معاني التعظيم للمنطقة، ورجالها وعلمائها ومخاطبتهم بالجد والاجتهاد في تحقيق أفكارهم، بالاعتماد على الأرضية الشبابية، كما لمس الأمير فيهم قدرة واستعدادا للبذل والعطاء، لأنها قوة شبّت على حبّ البلاد وأهلها، وتوقير العلم وأهله، ويزيد بأنه شباب لا يخشى الشهادة، ويقسم الأمير أنه مستعد إذا أذن الرحمان بذلك جهادا، ويختم القصيدة بخطاب عام لأهل بسكرة؛ بالاسم معظما أخلاقهم وإحسانهم وكريم شرفهم، خاتما قصيدته بالوقوف أمام هذه العظائم البسكرية عاجزا، فهولا يجد في شعره ونثره ما يوافي هؤلاء الأهل حقهم، غير خالص الشكر والعرفان لهم على ما بذلوه وقدّموه وما ينتظر منهم . هكذا حقا يمكن أن نقول للأمير خالد جاء بسكرة سياسيا خطيبا وغادرها شاعرا مقوالا، فمن زار بسكرة .. أنطقه الشعر..، أنطقه ثرى بسكره وعبيرها الذي تنفسه هنا بهذا الشعر الجميل، وكما حيانا نحييه، وإنا لنرجو من الله أن يجازيك أوفى الجزاء، وأن يكون مثواه الجنة والخلود فيها على ما قدم للجزائر، و ما عاناه في تحقيقه أمن البلاد .