محمد الهادي الحسني شاء الله العليم الحكيم أن يكون القرآن الكريم آخر كتبه إلى خلقه، ولذلك تعهد بحفظه، ولم يستحفظ عليه غيره، كما فعل مع الكتب والصحف السابقة، التي حُمّل اتباعها أمانة صونها فلم يحملوها، أواستحفظوا عليها فلم يحفظوها، بل أتوْا بالخاطئة؛ فتقوّلوا على الله، سبحانه، وحرّفوا كلمَهُ عن مواضعه، ونسوا حظا مما أُوتوا، وانسلخوا من آيات الله التي آتاهم، فهم في غيهم يعمهون. وصف الله -عز وجل- كتابه بكل جميل من الصفات، ونعته بكل جليل من النعوت، ومنها أنه "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، وأنه "يهدي للتي هي أقوم". لقد أثبتت الأيام والأعوام أنه ليس هناك كتاب لم تشبه شائبة النقصان، وأنه لم يوجد -ولن يوجد- كتاب غير القرآن يهدي الإنسان إلى أصلح نظام وأسلم منهاج. فمن اعتصم بحبله، واستمسك بعروته الوثقى اهتدى وهدى، ورشد وأرشد؛ ومن أعرض عنه، واتخذه مهجورا، واستبدل به الذي هو أدنى ضل وأضل، وغوى، وزاغ وأزاغ، وشقِي! وأشقى، ولقِيَ من أمره عسرا. لقد استحوذ الشيطان على كثير من الناس، فأعمى بصائرهم، وطمس على قلوبهم، وأفسد فيهم فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنساهم الميثاق الذي واثقهم به الله، فلم يهتدوا إلى هذا الكتاب المنير، الذي ينطق بالحق، وبه يعدل؛ فكانت نتيجة ذلك كله هي هذه المعيشة الضّنك التي تتجرعها الإنسانية كلها، من خوف، وقلق، وتوتر، وجوع، وظلم، ولخسران الآخرة أكبر. وصدق من لا ينطق عن الهوى، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب، القائل في شأن القرآن: "ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله". وأكمل الله -البر الكريم- نعمته على الناس، لئلا يكون لهم عليه حجة، فاصطفى لخدمة كتابه الحكيم خيرة من عباده -في كل عصر ومصر- آتاهم بسطة في العلم، ورزقهم صحة في الفهم، وحفظ عقولهم من الوهم، فانكبوا على هذا الكتاب الجليل، يقربون معانيه إلى الناس، ويستخرجون لهم من أغواره جواهره ولآلئه، ويبينون لهم حكمه البالغة، ويعلمونهم أحكامه النافعة، ويلطفون ضراوتهم بطراوة عبره، ويرققون خشونتهم بمواعظه. لقد منّ الله -قديما وحديثا- على الجزائر، إذ بعث فيها كوكبة ذرية من العلماء الأعلام، قضوا أعمارهم، وأمضوا أوقاتهم في تفسير كتاب الله لقومهم، حتى يؤمنوا به عن بينة، ويتشبثوا به عن وعي، ويطبقوه عن فهم، ويجادلوا عنه وبه بعلم. ومن هؤلاء العلماء الربانيين -في العصر الحاضر- الأئمة الكبار عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي وإبراهيم بيوض، الذين لم ينهجوا في تفسيرهم كتاب الله ما نهجه غيرهم من علماء الأمة الإسلامية من الانزواء في ركن، والانكباب على كتابة تفسير للقرآن الكريم، بل كانت طريقتهم المثلى في ذلك هي التفسير الشفهي المباشر، كما كان يفعل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام -عليهم الرحمة والرضوان. وهذه الطريقة هي الأمثل، لأنها تحدث التأثير المطلوب، بما تثيره من تفاعل وتجاوب بين الملقي والمتلقي. وقد وفق الله الشيخ الفاضل الأخضر الدهمة -صاحب هذه القطوف الدانية- للجمع بين الحسنيين، فعزز طريقة الإلقاء بطريقة التدوين. فهذه »القطوف الدانية« هي في الأصل دروس ألقاها فضيلته على المؤمنين ببعض المساجد قبل صلاة الجمعة وبعد صلاة الصبح ثم أعدها للطبع، بعد أن شنف بها السمع. والشيخ الأخضر بن قويدر الدهمة -لمن لا يعرفه- هو من مواليد 1925 بمدينة متليلي الشعابنة المجاهدة، التي أنجبت الغر الميامين، والصناديد المجاهدين، لم يؤته الله بسطة في الجسم، ولكن رزقه سعة في العلم، وسدادا في الفهم، وقوة في العزم، فهو يرابط في تلك الربوع، ينشر في الناس الدين القويم، ويعلمهم الخلق الكريم، ويدلهم على الطريق السليم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويسعى إلى تأليف القلوب، وجمع الكلمة، وتوحيد الصف، ونبذ العنف، لا يرجو من ذلك شهرة زائفة، ولا يبغي سمعة فارغة، ولا يحرص على ألقاب رنانة، ولا يجب تملقا منافقا. قضى الشيخ الأخضر سواده، وهو الآن يقضي بياضه متفيئا ظلال القرآن الكريم الوارفة، فأكرمه الله، ويسّره لتفهيم كتابه للناس، وتقريب آياته: »ليسهل على القارئ تناوش عناقيدها« كما يقول في كتابه الآخر "أضواء على سورة الحجرات". إن الشيخ الفاضل الأخضر الدهمة أهل لأن يغوص في بحار القرآن، ويسبح في أنواره لما يملكه من وسائل ذلك الغوص وتلك السباحة، وهي المعرفة باللسان، العربي، وفقه مبانيه، وتذوق بيانه، والإلمام بسنة أفضل الخلق، الناطق بالحق، إذ هي بيان للقرآن الكريم، والاطلاع الواسع على أمهات التفاسير بمختلف مدارسها، قديمها وحديثها، والتمكن من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، ويسند ذلك كله تجربة في التعليم غنية، وممارسة في ميدان الدعوة ثرية، مما يمكنه من تبسيط أعقد الأفكار، وتقريب أبعد المعاني إلى مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، ويسهل عليه ذلك مخالطته للناس، ومعرفته بما يعتري نفوسهم من هموم وغموم، وما يصيبهم من أمراض اجتماعية. كان مقدرا لهذه الكلمة المتواضعة أن تكون "مقدمة" لكتاب شيخنا الفاضل "قطوف دانية"، ولكن شغلتني عنها شواغل، وكانت المطبة أسرع مني، ولكل أجل كتاب، فصدر الكتاب من دونها، وأرجو ألا أكون ممن قال فيهم الشاعر: إذا ما عَلاَ المرء رام العُلاَ *** ويقنع بالدّون من كان دونا ولا ينتشلني من هذا "الدّون" إلا تنفيذ موعدة وعدنيها الشيخ الجليل، وهي أن يشرفني بضمها إلى كتابه القيم، إن قُدّر له أن يطبع كرّة أخرى. فللشيخ الجليل الشكر الجزيل، والتقدير الكبير على ما آثرني به على صحبه وتلاميذه الكثر، راجيا منه صادق الدعاء، فهو من أهل القرآن، وهم أهل الله وخاصته، وهو ممن سلمت صدورهم من داء الضرائر، وسمت نفوسهم عن الصغائر، وتنزهت جوارحهم عن الكبائر، ومن المفلحين -إن شاء الله- يوم تُبلى السرائر. أمدّ الله في عمر شيخنا الفاضل، ومتعه بالصحة والعافية ما أبقاه، وأعانه على مواصلة إتحاف الناس بهذه القطوف الدانية، لتتنور بها العقور الحيّرى، وترتروي منها النفوس الظّماء، وتهتدي بها القلوب العمياء.