ورد في القرآن الكريم قوله تعالى "وعلّم آدم الأسماء كلها" في سورة البقرة التي يدور محورها حول التشريع الإسلامي، وهي أطول سور القرآن الكريم، وهنا نتابع ومضتي الإعجاز الإنبائي والعلمي في الإخبار عن ذلك العلم الذي علّمه ربنا سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام عند خلقه، وحقيقة هذا العلم الوهبي تناقض كل ادعاءات الماديين التي تنادي بأن الإنسان بدأ جاهلا، ثم تعلّم النطق بتقليد ما حوله من حيوانات وعرف ربه من خلال فزعه من الأحداث الطبيعية من حوله كالزلازل وثورات البراكين، وهي ادعاءات انتشرت في ظل الحضارة المادية المعاصرة هروباً من الإيمان بالخلق ومن الخضوع للخالق. تشابه اللغات دليل وحدة أصلٍ يؤكد هذا النص القرآني الكريم أن الإنسان بدأ عالما، عابداً، ناطقا، متكلماً بلغة منطقية مفهومة في الوقت الذي ينادي أغلب علماء الدراسات الأنثروبولوجية بأن الإنسان الأوّل لم تكن له قدرة على الكلام، ولم تكن له لغة يتكلم بها مع غيره سوى لغة الإشارة باليد الواحدة أو باليدين وأنه لم تكن له أية عقيدة محددة وإن تعرف على الله بعد ذلك من خلال فزعه من الظواهر الطبيعية، وانطلاقا من هذا الفهم الخاطئ كتب «مايكل كورباليس»، الأستاذ بجامعة «برنستون» الأمريكية كتاباً يحمل عنوان "في نشأة اللغة، من إشارة اليد إلى نطق الفم"، وجاء في هذا الكتاب "أنا أزعم أن اللغة في معظم هذه الفترة كانت إشارية في الدرجة الأولى، على الرغم من أن الأصوات أخذت تتخللها بصورة متزايدة"، ويضيف "وقد يكون إصدار الأصوات خدم جزئياً في نشأة اللغة لكونه إضافة إلي إشارات الوجه والفم واليدين، وجعل الإشارات غير المنظورة لكل من اللسان والتجويف الفمي مسموعة، واللغة بالطبع حتي لغة اليوم نادراً ما تكون صوتية خالصة"، وهذا التضارب في تحقيق قضية غيبية مطلقة كقضية نشأة اللغة عند الإنسان سببه الانخداع بفكرة التطور العضوي التي فندتها الكشوف العلمية أخيراً ودحضتها دحضاً كاملا، خاصة في مجالات مثل مجالات علوم الوراثة وعلم الخلية الحية وعلم الأحياء الجزيئي، وجميع ما وضع من نظريات وفروض لتفسير نشأة اللغة بعيد عن حقيقة خلق آدم عليه السلام وتعليم خالقه له الأسماء كلّها لحظة خلقه وعن تهيئة جسد الإنسان تشريحياً للنطق بالكلام. هي نظريات وفروض باطلة، يدحضها التقارب الشديد بين جميع لغات أهل الأرض وشيوع العديد من الألفاظ بينها، خاصة بين اللغات القديمة منها، مع تسليمنا بأن اللغة تنمو وتتطور كما ينمو ويتطور كل كائن حي، وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن أكثر من خمسين في المائة من ألفاظ كل من اللغتين السريانية والعبرية هي ألفاظ عربية الأصل، وبالتحليل الدقيق للغات أهل الأرض التي يقدر عددها اليوم بأكثر من خمسة آلاف لغة ولهجة، يمكن ردها إلى أصل واحد هو لغة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وقد كانت اللغة العربية، كما جاء في عدد من الآثار. مفاهيم عبثية ترد الكثير من الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى أيّد الإنسان بالعلم والقدرة على الفعل الذي يوجب تحمّل الرسالة والمسؤولية، ومن ذلك قوله تعالى "وعلّم آدم الأسماء كلها"، "الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان" و"اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم"، وكذلك فإن خلق الإنسان مزوداً بأجهزة للسمع والنطق -منها الأذن، اللسان، التجويف الفمي والأحبال الصوتية المرتبطة بجهاز عصبي غاية في دقة البناء وإحكام الأداء- ينفي ادعاءات الدهريين بأن الإنسان بدأ وجوده جاهلا، كافرا، ثم تعلّم النطق بتقليد أصوات الحيوانات، كما أن في القول بأن الإنسان تعرّف على الله من خلال فزعه من الظواهر الطبيعية أمر باطل ينتهي إلى تثبيت مبدإ العبثية. رسالة الحياة تحكمها المقاصد نحن المسلمون فنؤمن بأن الإنسان خلق عالما، عابدا، ناطقا، مفكرا، مزوّدا بكل صفات التكريم التي كرّمه بها خالقه، ومزوّدا كذلك بكل الأدوات اللازمة لتأهيله بالقدرات المطلوبة لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض والقيام بكل تكاليفها، كما نؤمن بأن كلا من أبوينا آدم وحواء عليهما السلام خلقا بهذا التكريم، ونكاد نجزم أنهما كانا يتكلمان العربية الفصحى التي علّمها لهما ربهما بتقديره ومنه وإحسانه -لوجود آثار دالة على ذلك- وعلم كلا منهما حقيقة وجوده وفضل موجده عليه وعلى نسله من بعده وتفاصيل رسالته ورسالتهم ومسئولية استخلافه واستخلافهم في الأرض وحمل أمانة التكليف فيها. العربية أصل تفرّع عنه لغات أخرى من معاني كلمة "العربية" الإبانة والإيضاح، ومن هنا سمي الإعراب إعرابا لتبيينه الأمر وإيضاحه، ومن ذلك قول المسلمين في الجزيرة العربية أنهم كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يعرب أي حين ينطلق ويتكلم أن يقول "لا إله إلا الله" سبع مرات، ومن ذلك يتضح فضل اللغة العربية على جميع لغات أهل الأرض، لأنها أصل هذه اللغات جميعا، وهي لغة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام التي علّمهما إياها رب العالمين، لذلك لابد من أن جميع لغات أهل الأرض انبثقت عن اللغة العربية التي أنزل بها ربنا تبارك وتعالى رسالته الخاتمة إلي الثقلين وتعهّد بحفظ هذه الرسالة الخاتمة في لغة الوحي نفسها، فحفظت في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم على مدى فاق 14 قرنا، وتعهد ربنا تبارك وتعالى بهذا الحفظ تعهداً مطلقاً إلى ما شاءت إرادته، حتى يبقى الإسلام الذي اكتمل في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله حجة لله على جميع خلقه إلى يوم الدين، ومن هنا كانت الإشارة القرآنية إلى تعليم الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام الأسماء كلها لمحة من لمحات الإعجاز الإنبائي الغيبي. تبارك الله أحسن الخالقين خلق الله سبحانه وتعالى آدم وحواء عليهما السلام وفي فم كل واحد منهما لسان ينطق به، وجعل لكل منهما حنجرة وعدداً من الأوتار الصوتية وشفتين وصفين من الأسنان ورئتين.. وهذه هي المكونات الأساسية للنطق التي يحرّكها المخ والجهاز العصبي وينظم حركاتها في أثناء الكلام حتى تخرج الحروف والألفاظ جلية واضحة، والمنطق السوي يحكم بأن الله تعالى لم يزوّد أبوينا آدم وحواء عليهما السلام بهذا الجهاز المتقن للكلام ثم يدعهما أبكمين لا يعرفان لغة يتكلمان بها، وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن اللسان البشري يتألف من 17 عضلة متشعبة في مساحته بالكامل، ويتخلل هذه العضلات ويحيط بها أعداد من الخلايا والأنسجة المتخصصة التي من بينها أنسجة دهنية وليمفاوية وأعداد من الغدد اللعابية التي تبقي اللسان رطبا باستمرار، ويغلف ذلك كله بغشاء مخاطي رقيق، وبناء على هذا التركيب المرن جدا، يستطيع الإنسان تحريك لسانه في كل الاتجاهات بمرونة كبيرة، كما يستطيع تغيير شكل هذا اللسان وحجمه ووضعه بمرونة كبيرة كذلك، وترتبط عضلات وأنسجة اللسان في الإنسان بفكه الأسفل بواسطة عظمة ذات رأسين تحكم حركته ولا تعوقها، أما الشفتان اللتان يستكمل وجه الإنسان بهما جماله وإحساسه وقدرته على النطق، فهما مليئتان بالأوعية الدموية التي تتفرع بكثافة عالية في الأغشية المخاطية المكونة لهما، ولذلك يبدوان باللون الأحمر، وهناك حزمة متمركزة من العضلات اللافة حول الشفتين لتمثل واحدة من مجموع العضلات المعقدة المعينة على النطق بالكلام والمحددة لتعبيرات الوجه، وتلعب الشفتان في الإنسان دوراً مهما في النطق، فعند الكلام تجمع الحبال الصوتية في مكان واحد وتهتز جراء حركة تيار الهواء الخارج عند الزفير، كما يتحرك كل من اللسان والشفتين والأسنان، فيتمكن الإنسان من النطق بالكلام، وكذلك صمّمت القدرة الإلهية المبدعة كلا من الأنف والفم في الإنسان، على أن يعطيا جميع المواصفات الخاصة بإطلاق الصوت، وفي الوقت الذي تبدأ فيه الكلمات بالخروج من الفم بسلاسة، فإن اللسان يأخذ وضعا بين الاقتراب والابتعاد من سقف الفم بمسافات محددة وتتقلص الشفتان أو تتوسعان ويتحرك في هذه العمليات العديد من العضلات بشكل سريع حتى يتحقق النطق عند الإنسان، ولولا هذا البناء المحكم لجهاز النطق ما استطاع الإنسان الكلام، من هنا يمتن الله على الإنسان بقوله العزيز "ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين". معجزة اللغة ومعجزة الكتاب المنزّل هل يمكن لعاقل أن يتصور خلق أجهزة الكلام المعقدة في الإنسان بغير تقدير الله، وهل يمكن أن يقدر الله سبحانه وتعالى للإنسان هذا كله ثم لا يعلمه لغة يعرف بها أسماء الأشياء، ومن هنا يأتي هذا النص القرآني الكريم معجزة علمية حقيقية، كما يأتي معجزة إنبائية غيبية، تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه وحفظه على مدى 14 قرناً أو يزيد، وتعهد بهذا الحفظ تعهداً مطلقاً إلى أن يشاء الله، حتى يبقى القرآن الكريم حجة الله البالغة على الخلق أجمعين إلى يوم الدين.