عند وصولنا إلى العاصمة السعودية الرياض، كانت المملكة والعالم ككل يردد كلمات ولي العهد محمد بن سلمان التي أطلقها في حوار تلفزيوني لقناة أمريكية معروفة، قائلا بصريح العبارة إن السعودية لن تصمت أمام امتلاك إيران قنبلة نووية، وإن المملكة ستعمل على امتلاك قنبلة بالمثل! انقسم الناس أمام هذا التصريح بين مندهش، ومصدّق.. ومتفائل وساخر.. لكنني وفي أول لقاء بواحد من أبرز القيادات العسكرية في المملكة وهو الناطق الرسمي باسم التحالف لدعم الشرعية في اليمن، العقيد الركن تركي المالكي، قمت باستغلال الفرصة، مستفيدا من لباقته في الحديث وإقباله على تلقي كل الأسئلة (عكس النظرة النمطية عن العسكريين في العالم العربي) لأسأله: هل يمكن للسعودية حقا امتلاك قنبلة نووية؟ حينها، وفي لمح البصر، عادت النظرة الصارمة والجدية للعقيد السعودي البالغ من العمر 44 سنة، ليجيب بجملة واحدة: أنا هنا للرد على الأسئلة المتعلقة باليمن وفقط! طبعا، فإن المالكي (المولود في الطائف الذي درس في أكبر الأكاديميات العسكرية بفلوريدا) لم يأخذ في إجابته أيّ اعتبار للتمهيد الذي وضعته لسؤالي بالقول إن "التوسع الإيراني في اليمن وتحالفه مع جماعة الحوثيين كان سببا لدخول الرياض هذه الحرب، وبالتالي فلا انفصال بين كلام محمد بن سلمان في أمريكا، وبين ملف اليمن"! حاولت إقناعه، لكن لا فائدة.. طيلة 15 يوما في السعودية، التقيت فيها عددا كبيرا من المسؤولين، والساسة والدبلوماسيين والكتاب والصحفيين والعسكريين، لا أحد كان يردد اسم محمد بن سلمان، أو يعلق على تصريحاته الأخيرة في الولاياتالمتحدة (مكث هناك رفقة وفد مهم لمدة 3 أسابيع كاملة) تصريحات كانت تصنع الجدل عربيا وإسلاميا وعالميا، ربما لأن وليّ العهد بات يفاجئ الجميع، حتى أولئك الذين تفاءلوا بصعوده إلى واجهة الحكم في السعودية، أو ربما لأن الوقت لا يزال مبكرا جدا للحكم على تلك التصريحات أو تأويلها بالشكل الذي قد لا يتناسب مع نية الرجل القوي في السعودية حاليا.. لكن في المقابل، وإذا كان الرسميون "متحفظين جدا" في التعليق على مواقف محمد بن سلمان (33 سنة)، فإن الشارع وخصوصا الشباب منهم، ظهروا في غاية التوافق مع التوجه الجديد للمملكة ومع التحولات التي تعرفها في المدة الأخيرة.. أحد هؤلاء الشباب، التقيت به في متحف تاريخي بجدة، قال لي إن "ولي العهد يحمل الخير للسعودية، وهو لذلك يوافق على كل قراراته "الثورية" التي اتخذها ما عدا قرارا واحدا وهو السماح للمرأة بقيادة السيارة": قال هذا الكلام وختمه بابتسامة خفيفة، قبل أن يكمل: "هنالك رجال ولا يعرفون قيادة السيارة فكيف يسمح بها للنساء"؟! الشاب الذي كان يتحدث إليّ في جدة، المدينة التي غنّى فيها ملك الراي الشاب خالد قبل أيام، وأيضا تامر حسني وكانت تستعد لاستقبال مهرجان كبير لأغنية الجاز الأمريكي وآخر للمصارعة الحرة، أثنى كثيرا على قرار التقليص من صلاحيات هيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قائلا إن عددا كبيرا من السعوديين "ارتاحوا منهم"..!! بقيت في المملكة لمدة نصف شهر، لم أشاهد فيها أيّ سيارة تابعة إلى هذه الهيئة إلا مرة واحدة فقط.. وبالصدفة.. حتى في أوقات الصلاة وإقامتها، اختفت تلك السيارات وتلك الأبواق التي كانت ترتفع بين الفينة والأخرى، لتهدد من يتأخر عن المسجد، كما اختفى أولئك الأشخاص الذين كانوا يرغمون أصحاب المحلات على الذهاب للصلاة، وإن كان هذا التحول في معظمه لم يغير في طبائع السعوديين شيئا، فالملاحظ أنه، وفي وقت الصلاة، لا أحد يترك محله مفتوحا أو يواصل نشاطه التجاري، بل إن "معظمهم" يبدو ملتزما بها ومن دون إجبار عناصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! المرأة السعودية.. أكبر مستفيد من التحولات! لعلها الصدفة، جعلت فترة مكوثنا ببعض فنادق الرياضوجدة، ترافقها حملة لتوظيف فتيات سعوديات في تلك المنشآت السياحية، حيث كان من الصعب جدا التحدث إلى فتيات وسؤالهن عن التحولات الجديدة في المملكة، لكن الفتاة السعودية تبدو أكثر إصرارا على اقتحام الحياة الجديدة وخصوصا تلك التي تبحث عن عمل وتريد أن تمحو صورة الفتاة المتهمة ب"الاتكالية"، وبأنها المرأة العربية الأكثر إنفاقا على مواد التجميل فقط (في 2012، قالت دراسة بريطانية إن المرأة السعودية هي ثالث أجمل امرأة في العالم)! وعكس النظرة النمطية حول تهميش المرأة من مراتب المسؤولية وإبعادها عن الواجهة، فالملاحظ أن معظم المسؤولين الكبار في المملكة (ممن التقينا بهم على الأقل)، يتخذون نساء "مساعدات لهم"، أو مرافقات من أجل نشر البيانات الصحفية والتنسيق مع وسائل الإعلام.. من بينهن، سيدة في نهاية الثلاثينيات، تدعى مريم العسيري، صادفناها بمركز الملك سلمان للإغاثة، كتلة من النشاط والحيوية وابتسامة لا تتوقف.. ثم سرعان معرفتها أنني من الجزائر، قالت إنها تحب مدينة قسنطينة جدا! هذه السيدة ليست الوحيدة التي يعتبر وجودها مُهّما بالنسبة إلى عدد كبير من المسؤولين، فهنالك فتاة أخرى تعمل منسقة إعلامية للعقيد الركن تركي المالكي، وقد كانت تحيطه ببعض الملاحظات المكتوبة بين الحين والآخر، حين كنا نجلس إليه ونستمع إلى عرضه بخصوص الحرب في اليمن.. المرأة في السعودية لم تعد كتلة إضافية بل هي رقم فاعل وأساسي في الكثير من المراكز المهمة، فحتى في حملات الإغاثة الإنسانية، صادفنا الكثير من النساء اللواتي يعملن كمنسقات أو مكلفات بالعديد من الملفات! في المطارات التي نزلنا بها، مثل الرياضوجدة، ليس هناك نساء كثيرات موظفات، لكن وبمجرد الخروج إلى البوابة، تجد الكثير منهن ينتظرن أفرادا من عائلاتهن، مستعينات بسائقين من جنسيات باكستانية وهندية، فالمرأة لن تبدأ السياقة حتى منتصف العام الجاري! حتى في المحلات والمراكز التجارية الكبيرة، يجتهد الكثير من مالكي هذه الأخيرة لتوظيف فتيات، منقبات في معظمهن، ويضعن لافتة على الباب مكتوبا عليها "للعائلات فقط"، فالكثير من المحلات لا تستقبل سوى النساء وأيضا الأزواج، لكن مخالفة هذا الأمر وبعدما كانت تستدعي عقوبات من طرف "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في السابق، باتت شيئا من الماضي، أو تكاد تختفي نهائيا في القريب العاجل.. فالسعودية التي كانت بالأمس ليست سعودية اليوم، أو هكذا يبدو الأمر لمن يشاهدها حاليا! اليمن.. حرب "الضرورة" التي تورطت فيها السعودية! زيارتنا إلى السعودية، كانت بغرض الاستماع إلى وجهة نظر المملكة بخصوص العديد من القضايا التي وجدت نفسها مضطرة إلى شرحها للرأي العام العربي والدولي، ليس أقلها الحرب في اليمن وتلك الخصومة التي تتزايد يوما بعد آخر مع إيران! لا يتكلم السعوديون عن اليمن إلا وأرفقوا حديثهم بوصف "حرب الضرورة" للقول إنهم تورطوا فيها من حيث أرادوا تفاديها أكثر من مرة، ف"لولا التدخل السعودية عبر قيادة التحالف، لكانت داعش تسيطر الآن على اليمن، أو لتكررت تجربة حزب الله في هذا البلد الفقير"! يحفظ المسؤول السعودي، مهما كانت مرتبته أو موقعه، الكثير من الأرقام بخصوص اليمن، مثلما كشف عنه السفير السعودي في صنعاء محمد آل جابر (وهو نفسه المكلف بإدارة العمليات الإنسانية الشاملة) الذي قال ساخرا وهو يقدم نفسه إلى الصحفيين إنه دخل العاصمة اليمنية قبل 10 أيام فقط من احتلالها من الحوثيين.. وبالتالي فهو جاء و"جاب الخير معه" حتى إن البعض لقبه ب"سفير السلم والحرب"! بالأرقام، يقول السفير إن المملكة صرفت 13 مليار دولار على 92 مشروعا إنسانيا باليمن، من بينها 8 ملايير دولار صرفتها المملكة منذ 2015! وبحسب السفير الذي ظهر مرتاحا لما تقوم به بلاده، فإن هذه الأخيرة توظف أزيد من مليوني يمني، يعيشون مع أهلهم، ويعيلون 16 مليون يمني، نمنحهم تأشيرات عمل داخل المملكة، ويشكلون 20 بالمائة من القوى العاملة ويضمنون تحويلات مالية تصل إلى 10 ملايير دولار للاقتصاد اليمني! بل تصوروا أنه من بين 11 مليون شخص، عربي وغير عربي يعملون بالسعودية، معظمهم يمنيون! يعود السفير آل جابر (الخبير العسكري الذي قرر أن يكون دبلوماسيا) لبداية الربيع العربي، حين انتفض الشعب ضدّ الرئيس علي عبد الله صالح، فاقترحت المبادرة الخليجية للتغيير التي ضمنت له خروجا آمنا من السلطة، مع نقلها للرئيس عبد ربه منصور هادي.. لكن جماعة الحوثي كان لهم مشروع آخر وأجندة مختلفة، لقد انقلبوا على الشرعية بل وتمردوا على 80 اتفاقية عقدت في سنوات سابقة، "إنهم لا يحترمون حتى حلفاءهم بدليل قتلهم الرئيس صالح في ما بعد"!! علي عبد الله صالح.. رجل شجاع ولهذا لم نتدخل لإنقاذه! هنا سألت السفير (البالغ من العمر 48 سنة) عن الرئيس الذي كان يلقب بالمخلوع قبل اغتياله في ظروف غامضة، وهل تخلت الرياض عنه وتلذذت بنهايته.. فاجأني السفير بالرد: بل بالعكس، لقد كان علي عبد الله صالح من أفضل السياسيين وهو بطل ورجل شجاع"!! وبخصوص نهايته، يقول السفير متحسرا: صالح لم ينسق معنا في تمرده على الحوثي، بل هو رفع رايته وسطهم ولم يكن بمقدورنا حمايته، أما بخصوص التنسيق لما بعد رحيله، فالأمر متروك لليمنيين وحدهم وإن شاؤوا اختيار نجله فلهم ذلك!! النقطة الثانية التي يحرص السعوديون على نشرها لدى الرأي العام، أن الحرب في اليمن ليست حربا بالوكالة، بل هي حرب مفتوحة ومواجهة مباشرة مع الإيرانيين.. يقول السفير: "كيف تقولون إنها حرب بالوكالة ونحن تلقينا ونتلقى عشرات الصواريخ على أراضينا وبشكل مستمر".. "إيران منحت الحوثيين أسلحة استهدفت الحرم المكي.. لدينا قرى كاملة وآلاف السكان الذين نزحوا.. صحيح، إن الحرب يمنية يمنية، وقواتنا لا تقوم إلا بطلعات جوية لكن مواجهتنا مع إيران، ليست بالوكالة بل مباشرة" يختم السفير كلامه وقد بدا غاضبا وهو الدبلوماسي "الهادئ" الذي يعرف أدق أسرار الملف اليمني ويتداول الجميع في السعودية قصة مرافقته الرئيس هادي أثناء هروبه من صنعاء إلى عدن! ليس من السهل الحديث عن ورطة سعودية في اليمن وهنالك تكلفة إنسانية باهظة يدفعها اليمنيون بشكل يومي جراء هذه الحرب والتوترات القائمة في المنطقة (خمسة أطفال يمنيون يقتلون أو يصابون يوميا جراء الصراع، وهنالك 1.8 مليون طفل يعانون سوء التغذية، و400 ألف طفل يواجهون الموت جوعا).. تقارير عدة تتهم الطائفية بأنها وقود الفتنة، وهي تهمة يرد عليها السعوديون بالقول إنهم لا يحاربون الشيعة..بدليل أن الكثير منهم لم يعرف ما معنى شيعة وسنة إلا وهم في سن الثلاثين ومع انطلاق الثورة الإسلامية في إيران.. وهنا يصرح السفير آل جابر: "هنالك وزير شيعي ومسؤول كبير في السعودية من هذه الطائفة، فكيف نحاربهم، بل كيف نستعديهم"؟!