لطالما أثار مُصطلح المدينة الذكية جدلا في الجزائر، فالسّلطة تصرُّ على وجود الإرادة والعزيمة لجعل مُدننا ذكية مستقبلا، بينما يُشكك خبراء التكنولوجيا، مُتسائلين عن وجود وعي حقيقي بماهية الذكاء الرقمي، والذي يحتاج لتقنيات وبرمجيات وقبلهما ثقافة مواطن وتقبل للرقمية. وبين هذا وذاك يبقى السؤال مطروحا: هل تزويد مدننا بالذكاء الاصطناعي حلم قابل للتجسيد، أم هو كغيره مجرد شعار مناسباتي؟ المُدن الذكية… هذا المصطلح المتداول على الألسن مؤخرا، فكثيرون قد يسرحون بخيالهم معتقدين أن "ذكاء المدن " مرتبط حتما بروبوتات متحركة أو غرف حديدية مليئة بأزرار ملونة تدار منها جميع نشاطات المدينة، أو بمحادثات بين أشخاص ضوئيين على غرار أفلام الخيال العلمي… لكن الحقيقة أبسط من ذلك، فالمدينة الذكية هي مدينة رقمية تقوم على معاملات شبكية بسيطة، يعيش فيها البشر رفاهية اجتماعية واقتصادية وتنمية محلية في جميع المجالات من نقل وصحة وتعليم وترفيه، بالاعتماد على معاملات رقمية ومبتكرة. ويُرفع الصوت عاليا في الجزائر للتخلص من نمط العيش القديم القائم على معاملات "الوجه للوجه"، فهذه السلوكيات تُكدِّر عيشة المواطنين وتُهدر كثيرا من وقتهم وطاقتهم ومالهم. المدينة الذكية… حُلول مبتكرة لمشاكل مستعصية فكيف هو شكل المدينة الذكية؟ اسرح بخيالك… في المدينة الذكية لا يطرق موظف مؤسسة المياه بابك في الصباح الباكر ليزعجك بقراءة عداد المياه والكهرباء والغاز، في وقت بإمكان المؤسسة القيام بذلك رقميا عن طريق ربط جميع العدادات الكترونيا، فيتحقق المواطن من قيمة استهلاكه قبل دفعه الفاتورة، مع استخدام المستشعرات للكشف عن أماكن تسرب المياه وإصلاحها فورا. وفي المدينة الذكية لا يتنقّل مريض مصاب بزكام مئات الكيلومترات إلى طبيب، بل يدخل موقع العيادة الإلكتروني ويخضع لفحص عبر الكاميرا، ثم يستقبل وصفة دوائه إلكترونيا، وفيها تُربط المستشفيات والصيدليات ومنازل المرضى بشبكات رقمية، لتبادل المعلومات بين الأطباء فيما بينهم وبين مرضاهم. وفي قطاع التّربية والتعليم، ذكاء المدينة يستلزم ربط المدارس والجامعات بشبكات لاسلكية للحصول على المعلومات العلمية، مع إمكانية الاستماع أو مشاهدة المحاضرات والدروس بواسطة الهواتف النقالة، ووجود مكتبات إلكترونية فرعية مربوطة بالمكتبة المركزية. وفي مجال النقل، الذّكاء الرّقمي يفرض علينا التحكم لاسلكيا بالإشارات الضوئية لتقليل تكلفة الطاقة والحدِّ من الحوادث المرورية واصطياد المجرمين والمخالفين لقوانين المرور، وللقضاء على الزحمة المرورية، مع استخدام المُسْتشعرات لمعرفة حظائر السيارات الممتلئة وإرشاد السائق الى أماكن صفّ أخرى. والمدينة الذكية، هي مدينة ايكولوجية بامتياز، يُراقَب فيها نوعية الهواء لمساعدة الأشخاص المصابين بالحساسية لأخذ احتياطاتهم، فيما ترمى أكياس القمامة مباشرة بحفر تحت الأرض لتوجه لاحقا نحو الرسكلة… والخلاصة أن الذكاء الرقمي هو تسوقٌ وطلبُ أكل ودفعُ فواتير واطِّلاعٌ على نقاط التلاميذ وقضاء مصالح ادارية وملء لرصيد الهاتف.. تقوم بكل هذا وأنت جالسٌ خلف حاسوبك أو هاتفك الذكي. سيدي عبد الله… مدينة ولدت لتكون ذكية فطبَعَها "الغباء" وتطبيق هذه الأفكار يحتاج لكفاءات بشرية وما أكثرهم بالجزائر، ولنا في مختلف التطبيقات الإلكترونية لشباب مبدعين الدليل على ذلك، فزيارة للحظيرة الإلكترونية بسيدي عبد الله بالعاصمة، تجعلك تقف مذهولا لأفكار المنخرطين بها، والتي لو تمّ تعميمها لأصبح الذكاء الرقمي ميزة غالبة على كثير من مدننا. وبداية الرِّهان للتوجه نحو مدن ذكية، كانت بإنشاء منطقة سيدي عبد الله الذكية بالعاصمة… وعلى مدار سنوات انطلقت الأشغال، لتأتي النتيجة مخيبة للآمال، فالمدينة لم تخل من أخطاء مُدننا المعتادة، حيث تم التركيز على ضمان سقف أكثر من توفير رفاهية. ففي سيدي عبد الله تنعدم البنية التحتية والتنسيق العمراني والربط الشبكي، ومع ذلك نتفاءل بوعود السلطات تحويل سيدي عبد الله إلى مدينة ذكية تدريجيا. الخبير في التكنولوجيا، عثمان عبد اللوش: نحتاج لمراحيض في الشوارع.. قبل الحديث عن المدينة الذكية !! ويبقى أمر رقمنة المدن محل شك وارتياب لدى بعض خبراء التكنولوجيا، فالخبير في التكنولوجيا، عثمان عبد اللوش، لا يتفاءل بذكاء مدننا ولو في المستقبل البعيد، وحسب تبريره في اتصال مع "الشروق" أن الأفكار موجودة لكن التطبيق صعب، ومذكرا بتجربة وزارة البريد والمواصلات مع مؤسسة مايكروسوفت الأمريكية في 2004، أين تم اطلاق مشروع "أسرتك" الذي يهدف لخلق 10 مليون أسرة رقمية قبل عام 2006، عن طريق منح حاسوب لكل أسرة جزائرية مع ضمان تدفق عال للأنترنت، وإلى اليوم يُجهل مصير هذا المشروع الذي وصفه عبد اللوش ب "الممتاز والضخم"، ولكنه وُلد ميتا حسب تعبيره، لغياب البنى التحتية من صناعة الحواسيب وتطوير البرمجيات. فأبسط شيء علينا توفيره في المدينة الذكية، أن تركن مثلا سيارتك بكل سهولة وفي أي مكان، ويضيف "لا يمكننا اليوم الحديث عن عاصمة ذكية، وهي تعاني في الأساس من عدة إشكاليات وليست مشاكل، لأن المُشكلة لها حل أما الاشكالية فتبقى معلقة إلى غاية فكها إلى مشكلات أولية نستطيع حلها". وهو ما جعله يتساءل بالقول "هل يعي مسؤولونا وبالأخص والي العاصمة جيدا ما معنى"المدينة الذكية"، وهل لديه الامكانيات المادية والتقنية والبرمجية التي يستطيع بها جعل مدينة الجزائر العاصمة "مدينة ذكية"؟ والمضحك المبكي أن العاصمة وعلى اتساع مساحتها الجغرافية وكثافتها السكانية "لن تجد فيها حاليا مرحاضا لقضاء حاجتك البيولوجية إلا بشق الأنفس؟" حسب تعبير الخبير. فيما يرى المختصون في علم الاجتماع، أن تحوّل المواطن للحلول الذكية، يحتاج تقبلا وثقافة، وتوضح المختصة نبيلة عثماني "كثيرون يمتلكون بطاقات السحب المغناطيسية البريدية، لكنهم يفضلون الوقوف في طابور لساعات منتظرين دورهم، ومثلها بطاقات التعريف الالكترونية، والتي كلفت الدولة الملايير، وها هي مرمية في البلديات يرفض أصحابها تسلمها.. تحت مبرر عدم الثقة في البطاقة المغناطيسية!!"، وبالتالي التوجه للذكاء الرقمي يحتاج توعية وتحسيسا في المجتمع، وغرسا لهذه الثقافة والتي ستُواجه بتراكمات اجتماعية من عادات وتقاليد وأفكار مُسبقة، فمشاركة المواطنون في الأنظمة الذكية، تُعدُّ شرطاً ضرورياً لنجاحها. رائد الذكاء الرقمي وخبير البنك الدولي، البروفيسور رياض حرطاني: متفائل بإمكانيات الجزائر البشرية والتقنية للتحوّل إلى الذكاء يُعتبر علامة فارقة في مجال الذكاء الرقمي العالمي، وهو من بين أهم المشاركين في ملتقى الجزائر العاصمة، إنه البروفيسور الجزائري رياض حرطاني، فالباحث وُلِد ونشأ في مدينة الجزائر، وتخرَّج مهندساً في المدرسة التكنولوجيا(Ecole Polytechnique) مع حصوله على مرتبة الشرف الأولى، نال بعدها بكالوريوس الهندسة ودرجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف في فرنسا، وفي سن ال 25 حصل من جامعة باريس على درجة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي بتقدير امتياز لأفضل رسالة جامعية مع مرتبة الشرف الأولى. وواصل حرطاني مسيرته العلمية في مجال التعلُّم الآلي والذكاء الحسابي في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، وأُجريت أبحاث أطروحاته في مختبرات كل من فرنسا والولايات المتحدة واليابان، ليلتحق بمختبرات هيتاشي المرموقة للأبحاث المتقدمة في طوكيو، أين أسهم في اختراعات متنوعة، ثم انضم إلى مجلس البحوث الكندي، ومن هناك انتقل إلى منطقة خليج سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، ليشارك في قيادة عدة شركات تكنولوجية. فهذا الباحث منحنا بارقة أمل في سير مدن الجزائر نحو الذكاء مستقبلا رغم المشككين، فأكد ل "الشروق" على هامش الملتقى وبلغة عربية دارجة مخلوطة بنكهة انجليزية، "أن إنشاء مدن ذكية ببلدنا ممكن جدا على المدى المتوسط والبعيد، وفي ظل وجود خبرات بشرية واستراتيجية جادة"، ومُهوِّنا في الوقت نفسه من تأثير موضوع نقص التكنولوجيا الرقمية في الجزائر على ذكاء المدن، حيث ردّ وبكل ثقة "كثير من الدول تعاني من نقص في التكنولوجيا، ومع ذلك طوّرت مدنها"، والحل السحري حسب خبرة حرطاني في المجال، هو في مرافقة المؤسسات الناشئة وتشجيع الاستثمار عن طريق منح المستثمرين امتيازات تحفيزية. لكن السؤال المطروح، كيف نتحدث عن ذكاء المدن، في وقت يتخبط المواطنون في مشاكل لا حصر لها، وكأبسط مثال لا يزال قاطنو كثير من الأحياء يحلمون بزيارة المياه لحنفياتهم؟ المُختص في العقار، لطفي رمضاني: الحضارة الفرعونية والرومانية تطورتا بحلول واقعية ومنطقية يرَى الخبير في مجال العقار، لطفي رمضاني أن الإشكالية المطروحة في موضوع المدن الذّكية، هي درجة الدراية وامتلاك معطيات حقيقية ورسمية حول المشاكل الأساسية للمدينة قبل تحويلها لذكية. فقبل التفكير في إنشاء هذا النوع من المدن لابد لنا حسب رؤيته، من وضع خريطة لتحديد المشاكل وجمع المعلومات. وكأبسط مثال في مجال العقار " فنحن لانملك إحصائيات رسمية حول سوق العقار ونوعية الإعلانات العقارية، وعن عدد السكنات الشاغرة أو المؤجرة…حتى وإن امتلكنا المعلومة، فغالبيتها معلومات غير رسمية". وكما لا يجب حصر المدينة الذكية في الحلول الرقمية فقط، حيث أضاف "يمكن للمدينة أن تتطور بحلول عادية ومعقولة، وهو ما حصل في الحضارة الفرعونية والرومانية، فهما حضارتان عريقتان قامتا على حل مشاكلهما بأفكار مناسبة ومذهلة". وعن التفاؤل بامتلاك الجزائر خبراء عالمييّن في التكنولوجيا، ردّ رمضاني "أحيانا الحلّ الذكي المستخدم في أوروبا لا يناسب المشكلة في بلدنا، فلرُبّما هو يحُل 20 بالمائة فقط من المشكل، وبالتالي الحلّ الذكي في بلد معين لن ينجح في بلد آخر"، وكما يُؤكّد رمضاني أنّ إقامة المدينة الذكية يحتاج أموالا وكفاءات. ومع ذلك يتفاءل مُحدثنا بخصوص مشروع العاصمة مدينة ذكية في 2035، معطيا مثالا بمدينة برشلونة الإسبانية، والتي كانت أوضاعها كارثية، لكن وقبل استضافتها دورة الألعاب الأولمبية تحوّلت لمدينة ذكية بامتياز وفي فترة زمنية متوسطة. رئيس مجمع المهندسين المعماريين، عبد الحميد بوداود: مُدننا تحتاج مدرسة وسوقا وماء وغازا ثم ذكاء والإشكال في مُدننا، حسب تأكيد رئيس مجمع المهندسين المعماريين، عبد الحميد بوداود ل"الشّروق" أنك تستفيد من مفتاح شقة لتسكن فقط ولا تحلم بخدمات إضافية، ذلك أن المدن وقبل أن تكون ذكية لابد لها من مدرسة وسوق ووسائل نقل وطرق مُعبّدة وربط بشبكات الغاز والماء… ثم نتحدث عن الذكاء الرقمي…!! وحتى لا نبخس الدولة حقّها، فلا بد من الاعتراف بوجود عديد المبادرات للسّير نحو المدن الذكية، فظهرت مشاريع رقمية في مختلف القطاعات، وذلك بعد تكييف الدولة كثيرا من قوانينها لتُجاري الذكاء الرقمي. فأطلقت وزارة النقل مشروع إشارات المرور الذكية بالجزائر العاصمة، والذي سيسمح بفك الخناق والتخفيف من الازدحام المروري الذي يؤرق سكان العاصمة وزوارها، في انتظار تعميمه على جميع المدن الجزائرية. والنظام سيشمل أزيد من 500 مفترق طرق في العاصمة، ويهدف لتسهيل سيولة الحركة وتأمين السيارات والراجلين، وإعلام السائقين بوضعية الطرقات بشكل آني. وقبله ظهرت رخصة السياقة بالتنقيط، والتي تعتمد على السحب الإلكتروني لنقاط السائقين المخالفين لقواعد المرور، وتُسحب النقاط بعد إرسال رجل الأمن المعلومات الشخصية للسائق إلى قاعدة بيانات مركزية بوزارة الداخلية. وفي هذا الصدد، أكد المدير العام لHB تكنولوجي، عبد الحميد بن يوسف ل"الشروق"، "بوجود أرضية معلوماتية لتسيير النقاط واحتسابها، وبعد دخول هذه الآلات البيومترية حيّز الخدمة يتمكن الشرطي أو الدركي من مشاهدة النقاط على المباشر"، فيما طمأن رئيس المركز الوطني للأمن والوقاية عبر الطرقات، أحمد نايت الحسين عبر "الشروق"، "بأنّ العملية تتم بطريقة إلكترونية ولا يمكن للعامل البشري التدخل فيها". إشارات ضوئية ورُخص سياقة وسجلات تجارية ومدارس رقمية… والمزيدُ آتٍ وفي مجال النقل دائما، وضعت الوزارة الوصية بوابة الكترونية في خدمة المهنيين وأصحاب الحافلات وسيارات الأجرة وأصحاب المقاولات ومؤسسات الإنجاز، لغرض ايداع طلبات الاعتماد والرخص الكترونيا، تفاديا للطوابير أمام الإدارات العمومية وقضاءً على البيروقراطية. وأطلقت وزارة التجارة السجلات الإلكترونية بهدف عصرنة القطاع، فالسجل التجاري الإلكتروني سيسمح ب"الدرجة الأولى بمكافحة الغش والتزوير، من خلال رمز مشفر يحتوي كل المعطيات الخاصة بالتاجر، كما يجنب التجار فوضى الطوابير داخل مراكز السجل التجاري، ويقضي على الإجراءات الإدارية المعقدة". فيما تحكّمت وزارة السكن وبفضل عملية التسجيل الإلكتروني لطالبي السكن، خاصة بصيغة "عدل"، في عشرات آلاف الطلبات، فقامت بعمليات المراقبة والتحيين واختيار المواقع في وقت قصير، محققة بذلك قفزة رقمية في مجال السكن. وعلى الصعيدين الاستثماري والاجتماعي، أنشأ كثير من المبدعين الشباب مؤسسات ناشئة وطوّروا تطبيقات مفيدة للمجتمع، ومنها تطبيقات سيارات الأجرة والمدارس على النت، والتسوق الرقمي، والمطاعم الرقمية. فيما انفردت الجزائر العاصمة بمشروع "الجزائر مدينة ذكية" والذي يمتد لعام 2035، والغرض منه تحسين إدارة العاصمة وتطوير نمط عيش مواطنيها، مع فتح الباب لأصحاب الشركات الناشئة والجامعات والمكاتب الاستشارية لتقديم الاقتراحات. وشارك في ملتقى مناقشة المشروع الذي أقيم في الجزائر العاصمة 4 آلاف خبير منهم 200 باحث جزائري مغترب من كبرى شركات التكنولوجيا العالمية.